تحدث القرآن عن أصحاب أهل الكهف، وذكر القرآن أنهم كانوا حديثي السن، فهم كما قال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [الكهف: 13]، فامتدح الله تعالى هؤلاء الشباب الصغار الذين رفضوا ما عليهم آباؤهم من عبادة غير الله تعالى، فرأوا بعين البصيرة بعد عين البصر أن السجود لغير الله تعالى ما ينبغي، وأنه سفاهة للعقل، وأن فطرة الإنسان تناديه أن يكون عبدا لله تعالى، ولهذا من الشباب أكثر قبولا من الشيوخ للتدين والإصلاح والتغيير وبذل الغالي والنفيس في سبيل دين الله تعالى وتوحيده، والسعي للتغيير في المجتمعات، بينما يميل الشيوخ كبار السن إلى الرضوخ للواقع ولو كان سيئا، ذلك أن غالب الكبار قد اعتاد الفساد المنتشر في المجتمعات، وهم يرون أن ما تبقى من العمر أقل مما مضى، فيخلدون إلى الأرض ويتبعون أهواءهم من حسب البقاء في الدنيا، والخوف على المال والولد، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 176]، فإن خاطبتم بالدين والشريعة، قالوا: دعنا من الدين ودعنا من قال الله وقال الرسول!!
بينما كان الشباب أكثر قبولا للحق، ودفاعا عنه، وهذا مستقر في كل العصور والدهور، فالشباب هم الذين آمنوا بدعوة رسول الله صل الله عليه وسلم فنصروه وآزروه وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله تعالى، بينما أنكر شيوخ قريش وكبراؤها على رسول الله ﷺ دعوته، فآذوه وأصحابه، واستنكفوا واستكبروا عند دعوة الله وهم يعلمون أنهم الحق من ربهم، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
ولكن كان نجاح كل فكرة صالحة تكون بالشباب الصالح التقي النقي، فهم الوقود المحرك، لما فيهم من الطاقات الكامنة، والقوة الفاعلة، والرغبة في الإصلاح والتغيير، غير أن الشباب بحاجة إلى الحكمة في التصرف والتدبير، وإلا كانت جذوة الشباب وبالا عليهم.
المسلم لا يدخل معركة إلا إذا غلب على ظنه أنه فيها فائز، وإن حصل خلاف ذلك، لكنه لا يرمي نفسه في المهالك وهو يغلب على ظنه أنه هالك
ولقد كان أول التفكير في التغيير من القناعة الشخصية، فقد كان لقوم أصحاب الكهف يوم يخرجون فيه لعبادة غير الله، فخرج الشباب بعيدا عنهم، خرج كل واحد منهم، حتى اجتمعوا جميعا تحت ظل شجرة، وتفاجئوا جميعا أنهم في مكان واحد بعيدا عن قومهم، فكان الدافع في المقام الأول ذاتيا، ثم كتموا ما في أنفسهم، حتى تشجع أحدهم، وقال: والله ما أخرجنا جميعا إلا شيئا في نفوسنا، فليبح كل منا بما في نفسه، فصرح بعضهم برفضه لما عليه قومه من عبادة الأوثان والأصنام، وإذا بالجميع يصرحون بمثل ما صرح الأول، فجمع الله تعالى قلوبهم على التقى، والأرواح جنود مجندة كما جاء في الحديث، واتفقوا أن يكونوا يدا واحدة.
ومن هنا تجيء أهمية العمل الجماعي بالنسبة للشباب، فالطاقات المتناثرة لا تجدي نفعا، والتجمع تحت راية واحدة، وإن كانوا قليلي العدد مما تؤثي ثمارها بإذن ربها، فكم من الشباب عنده طاقات كامنة، لكنه لما كان وحده كانت الجهود متناثرة مبعثرة، لا تجدي نفعا في عالم يتجه غالبه إلى التحالفات، فقوة الشباب لا تكون من خلال التجمعات والتحالفات المشتركة النافعة للدين والأمة والمجتمع، ولذا وصف الله تعالى إيمانهم بصيغة الجماعة فقال: {آمَنُوا بِرَبِّهِمْ } [الكهف: 13]، وتظهر هنا وحدة الهدف من الاجتماع.
ثم يعبر القرآن عن ديناميكية الشباب، وأنهم لا يقنعوا بالأفكار المجردة، والتفكيرات المنعزلة عن المجتمع، فلم يكفهم أنهم انعزلوا عن المجتمع بضلالته وغيه، بل تفكير الشباب إيجابي غالبا إن آمن بالفكرة، فهو يريد أن يحولها إلى واقع ملموس في المجتمع، ومن هنا بدأوا ينشرون فكرة الهدف المشترك، وهو الإيمان بالله، يدعون به قومهم سرا بحكمة، حتى اشتهر أمرهم بين قومهم، كم قال تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا . هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 14، 15]
فلما انتشر أمرهم وشى بهم قومهم إلى ملكهم، فلما اجتمعوا بالملك الكافر ما أخفوا دعوتهم، ولا خافوا في مثل هذا الموقف على أنفسهم، لأنه مقام تبليغ، ومقام التبليغ واجب، كما قال تعالى لرسوله ﷺ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48]، فجهروا بدعوة الحق أمام ملكهم، فما كان منه إلا أنه تعامل معهم بخطاب العقل عسى أن يردوا على ما كانوا عليه من ملة الضلال، وأعطاهم مهلة يتشاورون فيما بينهم، فاتفقوا على الهرب حفاظا على أنفسهم وعقيدتهم أن يجبروا على دين الضلالة، وهذا من حكمة الشباب، فليس من الحكمة إن وصل البلاغ الظالمين أن يقفوا ضده بالقوة والبطش وهم لا يملكون شيئا، ولا أن يعرضوا أنفسهم للقتل والموت وتموت الدعوة معهم، بل كان من الحكمة الانسحاب من هذا المجتمع، والبحث عن مكان آمن؛ يأمنون فيه على أنفسهم من باب حفظ النفس، ويأمنون فيه على عقيدتهم، من باب حفظ الدين.
الحماس والطاقة مع الخبرة جناحان للنجاح وتقدم المجتمعات وبناء العمران
إنه ليس من الحكمة أن يدخل الشباب معركة يدركون فيها أنهم خاسرون بدعوى التبليغ وقد بلغوا، زاعمين أن هذا جهاد في سبيل الله، فالمسلم لا يدخل معركة إلا إذا غلب على ظنه أنه فيها فائز، وإن حصل خلاف ذلك، لكنه لا يرمي نفسه في المهالك وهو يغلب على ظنه أنه هالك، فإن فعل كان مجتهدا خاطئا.
ومن هنا، كانت العزلة حلا لمن خاف على نفسه الهلاك وعلى دينه الردة بعد أن بلغ الرسالة، فالأيام دول، والانسحاب للحفاظ والبقاء أجدى من الموت والهلاك بلا ثمن، ثم هي كرة وليس فرارا، ولذا قال الله عنهم: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا } [الكهف: 16]
ففي البعد عن الظالمين فرارا بالدين ما يستجلب به العبد رحمة ربه، عسى أن يهيئ له أمرا أفضل مما كان عليه، فإن فر الإنسان بدينه وترك داره الواسعة وأهله وعشيرته ولو إلى مكان ضيق مما كان فيه، لكن هذا المكان يتسع بسعة القلب بالإيمان، والأمر كما جاء في ظلال القرآن (4/ 2262): ” إن هنالك عالما آخر في جنبات القلب المغمور بالإيمان، المأنوس بالرحمن. عالما تظلله الرحمة والرفق والاطمئنان والرضوان”.
إن حديث القرآن عن الشباب يشير إلى أهمية الشباب في بناء المجتمعات والمحافظة على تماسكها وبناء الحضارة، والسعي للتقدم على يد الشباب، فتلك الجذوة المشتعلة تحتاج معها إلى حكمة وخبرة، فالحماس والطاقة مع الخبرة جناحان للنجاح وتقدم المجتمعات وبناء العمران، وإنه ليس من الصواب أن لا يتقدم الشباب للمراكز القيادية وأن تبقى حكرا على كبار السن، وليس من الحكمة أيضا أن يترك الحبل على غاربه للشباب، وأن لا يقدموا لأجل أنهم شباب، بل يجب علينا أن ندربهم على القيادة والإنتاج، ثم يتدرجون حتى يصلوا إلى مرحلة النضوح والعطاء لمجتمعاتهم وأمتهم.