تلعب المؤسسات الدعوية على اختلاف توجهاتها دورا لا ينكره منصف في المحافظة على القيم في المجتمعات التي تنشط بها، فضلا عن توجيه المسار الخلقي.
وفي هذا المقال أحاول رصد بعض الملامح التي ينبغي أن تتميز بها منظومة القيم داخل المؤسسات الدعوية الإسلامية؛ بداية من منابع استقاء القيم، وانتهاء ببعض القصور الحاصل والناشئ عن بعض الممارسات غير المنضبطة التي تقع داخل بعض هذه المؤسسات.
ولنبدأ حديثنا فلا بد من تعريف المعنى المقصود بالقيم، ثم يأتي بعد ذلك الحديث عن ملامح هذه المنظومة:
تأتي الِقَيم مصدرا للفعل “قام” بمعنى الاستقامة، كما جاء في قول كعب بن زهير:
فهم ضربوكم حين جرتم على الهدى ** بأسيافهم حتى استقمتم على القيم
وجاء في أساس البلاغة أن القيمة هي ثبات الشيء ودوامه.
ومن ألطف ما جاء في هذا ما ذكره صاحب القاموس المحيط من تفسير قول بعضهم “فلان ما له قيمة” أن هذا يقال إذا “لم يدم على شيء”، أي يستمر.
والمقصود بالقيمة في تناولنا هنا -بشيء من التجوّز والتبسيط- هي المعيار الأخلاقي الذي يحدد للفرد أو للجماعة مسار اختياره، وحكمه على الأشياء سلبا وإيجابا.
ملامح المنظومة القيمية
التوحيد يؤطر الوجهة، والإخلاص يفعّل القيم ويوجه السلوك ، والعملية تضيِّق الاختلاف
يمكن لنا الحديث الآن عن بعض ملامح المنظومة القيمية التي ينبغي أن تكون حاضرة وبارزة في أطر وفكر ومنهاج المؤسسات الدعوية: فمن ذلك:
1- مصادر القيم داخل المؤسسات الدعوية ولدى أفرادها:
نعني بذلك مصادر استقاء واستمداد وفهم القيم. ومن البدهي أن يكون المصدر الأول في هذه القيم هو الإسلام. ينبغي إذن أن يكون الإسلام وفهمه على أنه دين شامل كامل مؤسِّس لمنهج الإنسان في حياته هو المصدر الأول والأساس في قيم المؤسسة الدعوية. ويمكن أن يقال في هذا : إن فهم المؤسسة الدعوية ينبني على أن ديننا مصدر قيمنا، وأن ديننا ما جاء إلا ليتمم مكارم الأخلاق، وأن هذا الفهم هو الحاكم لسلوك المؤسسة الدعوية ومبادئها وتفضيلاتها واختياراتها.
ثم يكون هناك حضور البيئة المحيطة: وعلى الرغم من دعوة كل مؤسسة دعوية إلى عدم تأثر أعضائها بعوامل سلبية في بيئات أفرادها المختلفة، وبذلها في سبيل ذلك الجهد، وبناء البرامج، واختراع الوسائل -بالرغم من ذلك يبقى هناك أثر واسع للبيئة المحيطة على قيمنا حسب اختلاف بيئاتنا التي ننشأ فيها وتعددها، بداية من الأسرة التي تتحكم في قيم بعض الأفراد وأخلاقهم بما لا يعبر أحيانا عن قيم مُثلى بل قيم نفعية أو سلوكيات غير سوية.
وكذلك الأمر بالنسبة للمؤسسات التعليمية وبيئات العمل المختلفة والتجارب الفردية للأفراد، وهو ما يستدعي بالضرورة الاهتمام بسُلّم مراحل بناء الفرد داخل المؤسسة الدعوية، في أطواره العمرية والتطورية المختلفة، وهذا مما يساعده -وهو اللبنة الأولى في هذا السلم- على مواصلة قيمه وتمسكه بها، وفي الوقت نفسه يمثل عبئا على المؤسسة الدعوية التي يتعين عليها في بعض المحطات والبيئات العمل على تحييد غزو القيم المجتمعية السالبة الغالبة على البيئة المجتمعية التي ينشأ فيها بعض الأفراد.
2- أساسيات القيم وموجهاتها داخل المؤسسات الدعوية: والحديث هنا عن بعض القيم الموجهة والمؤسسة لمنظومة القيم داخل المؤسسة الدعوية، ويتمثل أهمها – في رأيي- في: التوحيد- الإخلاص- العملية.
– التوحيد : بما يمثله من أساس يحرك المشروع والمؤسسة الدعوية ككل، وهي رسالة الإسلام الكبرى.
– الإخلاص: بما يعني أن هدف الفرد داخل المؤسسة الدعوية ينطلق من السعي لإرضاء ربه، دون نظر لمغنم أو مكانة، أو انتظار جزاء أو شكور.
– العملية: وهي التركيز على ما له أثر ملموس، سواء على الفرد أم المجتمع، والبعد عن الأمور السفسطائية، أو النظرية غير ذات المردود، والنظر إلى المجمِّع لا المفرق، والتركيز على الجامع لا الممِّيز. وهذا لا يعني وجود قوالب ونماذج جامدة نمطية داخل المؤسسة الدعوية بل يعني وجود “السمت الغالب”، بما يسمح بالتوجيه والتأثير والفاعلية.
الخلق ينبغي أن يُمارس داخل المؤسسة الدعوية وخارجها، يُمارس على أنه خُلق، لا على أنه “سمت” داخل المؤسسة الدعوية ولأفرادها فقط
وهذه الموجهات والأسس الثلاثة في رأيي من الأهمية بمكان؛ إذ التوحيد يؤطر الوجهة، والإخلاص يفعّل القيم ويوجه السلوك ، والعملية تضيِّق الاختلاف.
3- خصائص وملامح القيم لدى المؤسسات الدعوية:
ينبغي أن تنطلق عملية التربية على القيم وممارستها داخل المؤسسة الدعوية في إطار خصائص وملامح تَسِم وتميز التجربة ككل ، ومن أبرز هذا السمات والخصائص في نظري ما يلي:
– الفهم والإفهام: فكل قيمة وخلق يؤسس ويُبنى عليه داخل المؤسسة الدعوية لا بد أن يتم تناوله من منطلق إفهامي وتفهيمي ، بما يضمن القناعة العقلية الداعية للثبات على القيمة وتفعيلها، وهذا انطلاقا من “احترام العقل” و”البناء عليه”، ويمكن حينئذ أن نسمي ذلك “قيم مؤسسية ذات طبيعة عقلية فكرية”.
– الإخلاص: والإخلاص هنا لا نقصده محددا بقدر ما نقصد خصيصة لازمة لوسم عملية التربية داخل المؤسسة الدعوية وبين أفرادها كافة.
– الربانية: إذ التناول العقلي للقيم وممارستها يتم في إطار من الربانية؛ إذ ربانية المصدر وربانية الوجهة تثبتان وتمتنان القيم، وتميزان المؤسسة الدعوية في آن.
– التعبدية: وهي قرينة بالربانية إذ الفهم الصحيح أن كل قيمنا نتعبد بها لله.
– المرونة: بما يعني أن “مساحة القيمة” تتفاوت بتفاوت الأفراد وطبيعتهم وتقبلهم ونضجهم .. ولكنها أبدا لا تنعدم، وهذا بالطبع في القيم ذات القياس التدرجي.
– الاتزان في تناول القيم والأخلاق: والوسطية هذا، فلا هي مؤسسة طوباوية صرفة منبتة عن واقعها واستشراف مستقبلها، ولا هي “مادية بحتة” لا تقبل غير ما تقع عليه عيناها وتلمسه يداها .
4- غرس القيم ومعالجتها داخل المؤسسات الدعوية:
التربية على القيمة (والسلوك)، ومعالجتها، بداية من التصور، وانتهاء بالتبني والإقناع بها والدفاع عنها ونشرها، يؤتي ثماره داخل المؤسسة الدعوية إذا كانت هذه العملية تتميز بخصائص من أهمها ما يلي:
– الاستمرارية: تواليا وتوازيا.
– المتابعة.
– التركيز على القيم الجامعة.
– الحرص على الجو المفعل للقيم.
– وجود أوعية ووسائل متنوعة للتنمية والمتابعة.
– تنمية القيم والخلق بالإقناع والممارسة والقدوة والحب في الأساس.
لا يكون هناك أثر لـ”بابوية” أو “آيوية” (آية الله) في التوجيه الخلقي والقيمي داخل أي مؤسسة دعوية
– تربية الفرد داخل المؤسسة الدعوية على أنه هو “المسؤول الرئيس والأساس” في عملية التنمية والغرس، وأن البيئة التي توفرها المؤسسة الدعوية للإعانة والمساعدة.
– تناول القيم والأخلاق بشكل متوازن ومتواز ومستمر داخل أنشطة المؤسسة الدعوية.
– استمداد مصادر التعليم والتغذّي بالقيم من “مصادر أصلية” جامعة ومتنوعة، ككتب ابن تيمية وابن القيم…إلخ.
– التشديد في معالجة الانحراف القيمي، واللين والرفق في معالجة الانحراف السلوكي؛ لأن القيم منبع السلوك.
– عدم “التطبيق الحزبي للأخلاق”، بمعنى أن الخلق ينبغي أن يُمارس داخل المؤسسة الدعوية وخارجها، يُمارس على أنه خُلق، لا على أنه “سمت” داخل المؤسسة الدعوية ولأفرادها فقط.
– التساوي أمام القيم ومعها: فلا أثر لمكانة الشخص “القيادية” في التوجيه القيمي والأخلاقي؛ ينبغي ألا يكون هناك أثر لـ”بابوية” أو “آيوية” (آية الله) في التوجيه الخلقي والقيمي داخل أي مؤسسة دعوية.
– قبول النقد، والتوجيه، والتصويب، والإرشاد، للقيم والأخلاق والسلوكيات: سواء ممن هم داخل المؤسسة الدعوية أم من خارجها. وينبغي أن يطبق هذا بداية من التنظير والتصورات، وألا يغيب عند الممارسة الفعلية بسبب المماحكات التي يسببها النزاع “القيادي” أو “المؤسسي”.
5- بعض ملامح القصور في منظومة القيم داخل المؤسسات الدعوية:
تعاني المؤسسات الدعوية من بعض القصور داخل بنية القيم وتناولها وممارستها، ومن وجوه ذلك من وجهة نظري ما يلي:
– عدم التركيز على “القيم الأساسية الإنسانية” التي يتميز بها كل إنسان وتدفعه في فعله وواقعه (حتى وإن كانوا يمارسونها واقعا) مثل “الجد والاجتهاد والهمة والشدة والبأس والولوع بالغاية والاستعداد للتضحية بكل شيء في سبيلها والحزم والحيطة وإدراك العواقب وحب النظام والإحساس بالمسئولية والامتلاك للعواطف والرغبات النفسية”، وهذا بعض ما أشار إليه الأستاذ عبد الحليم أبو شقة في دراسته ” خَواطر حَول أزمة الخُلق”.
– تغليب “القيم الجمعية” على القيم التي تُعنى بشأن الفرد في الأساس، منطلقة من أساس أن “الجمع” لا الفرد هو الأساس، وهذا في نظري يحتاج إلى إعادة نظر.