” في العالم أكداساً من الكراهية والحقد لابد من تصفيتها”[1] الكراهية تستنزف طاقات الإنسان والشعوب والحضارات، وتبقى مرارتها طويلة، خاصة إذا تأسست على أفكار ورؤى دينية وثقافية، والكراهية تتوالد منها الكراهية، ولا سبيل لمواجهتها إلا بالغوص للوصول إلى الجذور البعيدة التي أنتجهتها، واقتلاعها ومعالجة آثارها.
وتقدم مجلة “أديان” النصف سنوية ، في عددها الـ(13)[2] الصادرة عن “مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان” اقترابا من الكراهية في الخطابات الدينية، إيمانا بدور المحاججة الفكرية في مواجهة الكراهية آثارها، على اعتبار أن الكراهية لم تتولد بين عشية وضحاها، ولكن باعتبارها مسار خاطيء يجب النكوص عنه.
الأديان الإبراهيمية والكراهية
هل حثت الأديان الإبراهيمية على الكراهية؟
قد يبدو السؤال مزعجا، لكن المجلة سعت للإجابة عليه من خلال التأكيد على أن الأديان الإبراهيمية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام، حوت نصوصا وقيما أخلاقية ترفض الكراهية، فنبذ الكراهية كان خطابا مبثوثا في الأديان السماوية بوضوح، فدعت الأديان hgebem إلى المحبة والوئام.
ففي المسيحية جاء على لسان السيد المسيح-عليه السلام-: “طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض…طوبى للرحماء، لأنهم يرحمون، طوبى لصانعي السلام”، وترفض المسيحية مبدأ العنف والكراهية، يقول المسيح-عليه السلام- :” اجعل سيفك في غمده، لأن كل ما يؤخذ بالسيف بالسيف يهلك”، ومن هنا كانت المسيحية في حقيقتها سلمية ومسالمة، ترفض أي سلوك عدواني، حتى لو كان من أجل الدفاع عن النفس.
أما الإسلام فاعتبر الناس، كلهم مهما اختلفت أعراقهم وأنسابهم وبيئاتهم، في مستوى واحد من الكرامة الحرية الإنسانية، وحث القرآن الكريم على العفو والتسامح والرفق والمحبة والصلح بين الناس، ,حث على نبذ الكراهية، وأمر القرآن بالاحسان وحسن معاملة أهل الكتاب، ونهت السنة النبوية عن التباغض والتحاسد والتنابذ، أي نهت عن كل صور الكراهية.
أما اليهودية، فقد فصلت مجلة “أديان” موقفها من الكراهية في أكثر من مقال، على اعتبار وجود نصوص يهودية تدعو إلى نبذ الكراهية، وأخرى تحوى انتقاصا وكراهية للغير، فهناك نصوص اعتبرت الرابطة التي تجمع اليهود بغيرهم هي رابطة الأخوة، فورد في سفر “التثنية”[3] “لا تكره أدوميا[4] لأنه أخُوكَ، لا تكره مصريا لأنك كنت نزيلا في أرضه”، ومن هنا طالبت اليهودية بحسن معاملة الضيوف الغرباء وعدم كراهيتهم واستعبادهم، ويلاحظ أن هناك رؤية توراتية تشجع على الكراهية، تتأسس على فكرة اختيار “الرب” لليهود باعتبارهم شعبا مقدسا، وهذا التصور جعل بعضا من النصوص اليهودية، محفزًا على الكراهية والتعصب الديني، فانبثق خطاب ديني يحرض على الكراهية والعنف تجاه الآخر، لكن توجد نصوص أخرى نقيضة لتلك النصوص تدعو لاحترام الإنسان والغريب، والتعامل معه على نحو لا يلغي إنسانيته.
ومما لاريب فيه أن توغل مفهوم الاختيار الإلهي لبني إسرائيل وما انبنى عليه من حقوق في تاريخ الجماعة اليهودية، قد أسهم بفعالية في تشكيل علاقة الجماعة اليهودية بغيرهم؛ من حيث القبول للآخر أو رفضه ومحبته أو كراهيته؛ فالفكر اليهودي لم يتوقف عند مجرد نص العهد القديم، بل صار فقها يُفتى به وتُدشَّن من خلاله الخطوط العريضة لاعتبارات التعامل مع الآخرين، إذ تعتبر الجماعة نفسها على الدوام صاحبة وضع خاص أمام “الرب” وعليه فإنها تعامل معاملة خاصة، فيتجاوز لها بكل سهولة عن كثير من أخطاءها الفظة، في حين أن الشعوب الأخرى تؤخذ بأقل جريرة.
ولكن لماذا انتشر خطاب الكراهية في خطاب الأديان الإبراهيمية؟
لعل ذلك يعود إلى اعتقاد أهل كل دين بأفضليتهم على الآخرين، وغياب ثقافة التعارف، وعدم تحويل أصل الاختلاف بين البشر، إلى قناعة لقبول ذلك الاختلاف، وإنشاء سلوك يقبل آثار هذا الاختلاف، فأخذت تنمو روح التنابذ، والكراهية حتى احتلت مساحة واسعة في الخطاب الديني، فالكراهية منبع الرذائل، وهي مُحرضة على الظلم والعدوان، فخطاب الكراهية هو أحد مسببات العنف والتطرف، وتعميق الانقسامات، كما أنه مدمر للتماسك الاجتماعي، ويضعف ولاء الناس وانتمائهم لمجتماعتهم، بما يضر العيش المشترك، خاصة عندما يغيب الخط الفاصل بين الدين والكراهية.
وتُشكل الكراهية الدينية المؤسسة على الدين، خطورة وتهديدًا للتعايش والتعارف بين المجتمعات والشعوب، إذ تمتد آثارها إلى ما هو سياسي واجتماعي، خاصة في ظل انتقاء النصوص وسوء وظيفها، وقراءتها خارج الرؤية الكلية الناظمة للأديان الإبراهيمية، وبعيدًا عن مقتضيات التوحيد والربانية، التي تدعو إليها هذه الأديان، والتي تؤكد على أهمية احترام الإنسان بمختلف مستوياته ومعتقداته، لأن الأفضلية الدينية لهذه الأديان، لا تلغي الإقرار بحرية الإنسان في الاختيار مند الخلق الأول للإنسان.
ومن سمات خطاب الكراهية الديني:
-اعتبار الذات هي الأصل والآخر هامش.
-تصويب وتصديق الكتب المقدسة للأنا وتخطئة الكتب الأخرى.
-القول بأن الآخر خلق لخدمتنا
-أفضلية دين على دين
-الانتقاء في قراءة النصوص المقدسة.
المرويات الثقافية والكراهية
توجد الكثير من المرويات الثقافية التي تعمق الكراهية، إذ تحوي هذه المرويات مضامين عدائية وأفكار متطرفة وتنميط للآخر، وهي موجودة داخل أغلب المجتمعات، ولعبت دورا في تشكيل وتأسيس الوعي الثقافي الجمعي للكثير من الشعوب والمجتمعات، ففي الثقافة الغربية-مثلا- هناك صورة قاتمة ومفزعة عن اللآخر المسلم صنعتها “أنشودة رولان” La Chanson de Roland [5] إذ صنعت منه وحشا بربريا معاديا للحضارة، وفي الواقع الإسلامي رسمت كتب كثير الرحالة المسلمين صورة نمطية عن كثير من الشعوب التي تحدثت عنها، صورة توحي بالسخرية، وتصف بعضا من تلك الشعوب بألفاظ فيها الكثير من الاحتقار، وقبيل موجات الاستعمار الأوروبي لعبت بعض النظريات والكتب دورا في احتقار الآخر وتبرير كراهيته وإستعماره، وإبراز خطاب التفوق الاستعماري، وكرست تلك المرويات كراهية وعنفا، مثل كتاب “التفاوت بين الاعراق البشرية” لـ” آرثر دو غوبينو”الصادر 1853، فهو من أكثر المراجع تداولا في الممارسة العنصرية والعرقية وفي نظريات المركزية وإقصاء الآخر.
والحقيقة أن تقبيح الآخر وتهجينه وتبغيضه يأخذ أشكالاً مختلفة وينتهج سُبلاً متنوعة لتفتيت القيم الإنسانية والمشترك بين الحضارات والثقافات، فاستراتيجيات صناعة الكراهية ليست بُنى انفعالية مؤقتة وعابرة، بل هي بُنى هادفة ومقصودة غرضها تحقيق الانفصال والانفصام بين الشعوب والأمم والثقافات باستخدام الاستخفاف والاحتقار، للوصول إلى ردود الأفعال العدائية، فتتحول الكراهية المؤقتة إلى كراهية مزمنة يعصب الشفاء منها.
ويمكن نبذ خطاب الكراهية من خلال نشر ثقافة المحبة والسلام، ونشر القيم الإنسانية المشتركة، وكما يقول علي بن أبي طالب:”الناس صنفان أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”، وفي رؤية الإسلام والأديان يتساوى الأفراد في الإنسانية، ومواجهة الكراهية بالكراهية يؤدي إلى إزدياد الكراهية، فالكراهية لا تواجه إلا بالمحبة، يقول الصوفي الكبير شمس التبريزي:” لا شيء أسهل من الكراهية ، أما الحب فهو يحتاج نفساً عظيمة.
[1] مقولة للمفكر مالك بن نبي في كتابه “مشكلة الثقافة”
[2] صدر العدد في النصف الأول عام 2020
[3] يعتبر سفر التثنية من الأسفار الخمسة الأولى المنسوبة إلى موسى –عليه السلام-ويشكل جزءا من التوراة، تشير الموسوعة اليهودية إلى أن النص عثر عليه عزرا عند عودة اليهود من سبي بابل، وهو سفر يحوي الكثير من التشريعات اليهودية
[4] الإدوميون: قبائل بدوية كانت تقطن في جنوب الأردن وتمتد في صحراء النقب في منطقة جنوب البحر الميت تحديداً وقد أقاموا مملكةً عُرِفت باسم إدوم عاصمتها بصيرا ترجع إلى القرن الـ20 ق.م
[5] تتكون الملحمة الشعرية من 4004 بيت تمجد الصليبيين، وتصف المسلمين بالوحشية والبربرية، وظهرت “أنشودة رولان” منذ القرن الحادي عشر الميلادي، وأثَّرت بعمق في وجدان الشعوب الأوروبية، وربما كان لها دور كبير في شحن الأوروبيين ضد العرب والمسلمين، وكتبها فرنسي مجهول، بناء على حادثة حقيقية وقعت عام 778م، أثناء قتال ملك فرنسا “شارلمان” ضد العرب والمسلمين.