شهدت مصر مع بدايات القرن العشرين ظهور طائفة من المفكرين الذين تلقوا تعليما دينيا ولكنهم تأثروا بالفكر الغربي واصطبغ مشروعهم المعرفي به، وفيما يلي نعرض لمشروع لم ينل حظه الكافي من الدرس وهو مشروع الشيخ أمين الخولي (1895-1966).
ولد أمين الخولي في قرية شوشاي مركز أشمون بمحافظة المنوفية، في الأول من مايو 1895م، وحفظ القرآن الكريم وجوده في سن مبكرة ، ثم أرسله أبوه إلى القاهرة حيث التحق بمدرسة مدرسة ماهر – وهي مدرسة تجمع ما بين العلوم الشرعية والعلوم الحديثة – وهو ما أهله فيما بعد للالتحاق بمدرسة القضاء الشرعي التي كانت تشترط في طلابها معرفة جيدة بالعلوم الشرعية، وقد أنهى دراسته في مدرسة القضاء الشرعي بتفوق عام 1920، ثم عُين مدرسا بها، وترأس مجلتها الوليدة “القضاء الشرعي”.
السيرة الذاتية
تطلع الخولي إلى السفر إلى أوروبا، وواتته الفرصه حين صدر مرسوم ملكي بتعيين أئمة للسفارات المصرية المنشأة في العواصم الأوروبية الكبرى، فعين أمين الخولي بسفارة روما عام 1923 وبقى في إيطاليا ثلاث سنوات أجاد فيها اللغة الإيطالية، قبل أن يُنقل إلى مفوضية مصر في برلين في مطلع عام 1926، فتعلم الألمانية وتهيأ له بذلك الاتصال المباشر بالثقافة الغربية. ومع إلغاء وظيفة الإمامة من السفارات والمفوضيات عاد إلى مصر عام 1927.
اشتغل الخولي عقب عودته مدرسًا بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، وأصبح أستاذًا لكرسي الأدب العربي عام 1943، ثم انتقل سنة 1946 إلى كرسي الأدب المصري في العصور الإسلامية، وآل به التدرج في الوظائف حتى وصل إلى منصب رئيس قسم اللغة العربية ثم وكيلاً للكلية عام 1946، وفي أخريات حياته أصبح عضوا بمجمع اللغة العربية، وترأس تحرير مجلة “الأدب” التي توقفت بعد رحيله.
أزمة الفن القصص في القرآن
لم يكد يمضي وقت طويل على تقلد الخولي لمنصب وكيل كلية الآداب حتى تعرضت مكانته العلمية للاهتزاز عقب الأزمة التي أثارتها رسالة تلميذه محمد أحمد خلف الله “الفن القصصي في القرآن الكريم” عام 1947 التي أشرف عليها الخولي، ووقف مدافعا عنها في مواجهة الأزمة التي أثارتها ولم يتزحزح عن موقفه رغم صدور تقرير اللجنة العلمية التي شكلتها الجامعة يدين الآراء الواردة بالرسالة، وبلغ من تأييده لها أن كتب في جريدة الأخبار في ذروة الأزمة “أنه لو لم يبق في مصر والشرق كله أحد يقول أنه حق، لقلت وحدي وأنا أقذف في النار إنه حق حق”، وكان هذا أحد الدوافع التي حدت بجبهة علماء الأزهر رفع مذكرة إلى الملك فاروق شخصيا انتقدت فيها ريح الإلحاد التي عمت مصر، وضمنتها مطالب من بينها: أن تعقد جماعة كبار العلماء بالأزهر اجتماعا لمناقشة الخولي فيما ذهب إليه، وعدم التجديد له في عضوية مجلس كلية أصول الدين بالأزهر، وإيقافه وخلف الله عن عملهما بالجامعة لحين البت في أمرهما .
وانتهت الأزمة بتدخل الحكومة وإلغاء الدرجة العلمية الممنوحة لخلف الله، وحرمان الخولي من حق الإشراف على الرسائل الجامعية المتصلة بالدراسات القرآنية، حتى أن تلميذه شكري عياد اضطر لتغيير تخصصه في رسالة الدكتوراة من “الدراسات القرآنية” إلى “الدراسات البلاغية” حتى يظل محتفظا بإشراف الخولي.
معالم المشروع الفكري
يدور مشروع الخولي الفكري حول عدة عناصر يمكن تلخيصها كالتالي:
أولا: التفسير الأدبي للقرآن الكريم، يعد الخولي مؤسس مدرسة التفسير الأدبي للقرآن الكريم التي تولي عنايتها إلى إبراز الخصائص الأسلوبية والبيانية للقرآن باعتباره نصا أدبيا وتجعل منها مقصدا نهائيا لعملية التفسير ، وقد دعا الخولي إلى اعتماد هذا المنهج في التفسير ونظر إلى القرآن الكريم بوصفه (كتاب العربية الأكبر) وأثرها الأدبي الخالد، وهكذا يغدو النص القرآني نصا أدبيا في المقام الأول دون اعتبار لقداسة النص أو مقاصده الدينية والإيمانية.
وقواعد هذا المنهج الأدبي كما صاغها الخولي تتلخص في: النظر إلى السياق التاريخي المتعلق بالنص القرآني، وتحليل المفردة القرآنية وتتبع أصولها ومعانيها واستعمالاتها في مختلف المواضع القرآنية، والاستعانة بالصنعة النحوية بقصد بيان المعنى وتحديده، وأخيرا الدراسة البلاغية التي تتمثل الجمال القولي في الأسلوب القرآني، وتستبينه، وتستجلي قسماته على نحو يستشف منه خصائص التراكيب العربية.
أفلح الخولي في إقناع عدد من تلاميذه بتبني ذلك المنهج في دراستهم للنص القرآني، غير أن جهودهم لم تخل من انحرافات وادعاءات كما هو الحال في رسالة خلف الله التي طبقت نظرية الرواية التاريخية على القصة القرآنية وخلصت إلى أن قصص القرآن لا يمكن النظر إليه باعتباره حقائق تاريخية ثابتة وإنما هو تمثيل قصصي غرضه الاعتبار، وقد مهد القول بذلك لدعاة القراءات المعاصرة للقرآن الكريم كما فعل نصر حامد أبو زيد الذي صرح بأنه تلميذ غير مباشر للخولي، وأن محاولاته التفسيرية تشكل أساسا للقراءات المعاصرة.
ثانيا: التجديد في الدين، يعود اهتمام الخولي بالتجديد إلى عام 1933 حين نشر في مجلة الرسالة مقالا تحت عنوان لافت هو “التجديد في الدين” واستمر إلى صدور كتابه المجددون وهو آخر مؤلفاته، وفي هذا الكتاب يحاول الخولي إسقاط نظرية التطور الديني -التي كان من مؤيديها – على مفهوم التجديد الديني، حين يدمج بينهما في اصطلاح جديد كل الجدة هو “التجديد التطوري” ويضعه في مقابلة ما يمكن أن نطلق عليه “التجديد الإحيائي” لدى الأقدمين، ووفقا لتعريف الخولي فإن “التجديد الذي هو تطور ليس إعادة قديم كان، وإنما هو اهتداء إلى جديد كان بعد أن لم يكن” ويقصد بذلك أن غاية التجديد ليس إعادة الإسلام جديدا نقيا من منابعه الصافية كما يعتقد العلماء وإنما هو تطوير الدين ذاته بما في ذلك عباداته التي طرأ عليها التطور فعليا-كما يدعي- ويضرب مثالا لذلك بالزكاة (أصبحت تقدر بمقادير جديدة كالكيلوجرام بدلا من الصاع).
وقد سعى الخولي في محاولة أسلمة مفهوم التطور ودمجه ضمن الفكر الإسلامي، مفترضا أن الإسلام يحمل بداخله أسسا للفكرة التطورية ، وهذه الأسس أجملها في:
-امتداد دعوة الإسلام زمانا ومكانا وهو ما يعني حاجته الدائمة للتطور من أجل ضمان الاستمرارية.
– اقتصاد دعوته في الغيبيات وإراحته العقل من الإتيان بالتفاصيل، وبحسب الخولي فإن هذا الاقتصاد في العقيدة لن يدع فرصة للصدام بين العقيدة وبين ما يستطيع الإنسان أن يكتشفه من سنن الغيب، ولن تكون العقيدة معه بحاجة لتوفيق تصوراتها مع العلم.
– عدم تورط الإسلام في كتابه ببيان شيء عن نشأة الحياة على الأرض وظهور الإنسان مما تورطت فيه الكتب السابقة عليه، ويبدو أن هذه المسألة ذات أهمية قصوى للخولي لأنها تسمح للنظريات العلمية-وفي مقدمتها بطبيعة الحال الداروينية- أن تفسر نشأة هذا الكون وتقدم إجاباتها على السؤال الأبدي كيف بدأ الخلق وما هي علة بقائه.
– عدم تورط الإسلام في ذكر تفاصيل تاريخ الأمم والملوك والرسل السابقين ، وهي مسألة مهمة لأنه يؤسس عليها أن القرآن في جانبه القصصي “لا يعنى بما دون العرض الأدبي الفني المحض فلا يعنى ببيان زمان الحادث ومكانه.. ومع هذه الخطة تجئ الرواية المادية للتاريخ [هكذا] بلسان الحفريات والآثار، بكل ما يمكن أن تجيء به فلا يخشى الإسلام منها مناقضة ولا تكذيبا، ولا يتعرض بها الإسلام للأزمة التي تعرض لها غيره”.
ثالثا: إصلاح الأزهر، أولى الخولي عناية لقضية إصلاح الأزهر، وليس أدل عليها من أنه عاود الكتابة فيها بضع مرات على أزمان متباعدة، مرجعا إياها إلى أن مصر لن تحسم موقفها تجاه النهضة إلا إذا حسمت موقفها من الأزهر، ويرجح أن أزمة الأزهر نبعت من تحوله تدريجيا إلى مدرسة جامعة يجتمع فيها طلاب العلم من كافة الأنحاء، حتى أصبح أهل الأزهر يقيمون فيه كل الوقت لتلقي العلم، وتكونت بذلك فئة خاصة متميزة في المجتمع عرفت باسم “المجاورين”، وهذا التجمع سرعان ما تحول إلى العزلة والتقوقع حول الذات، وفقد صلاته بالحياة الخارجية شيئا فشيئا وساء فهم أصحابه لما يجري فيها، وترتب على ذلك جملة آثار سلبية أعاقت نهضة مصر حيث أصبح الأزهريون معادين للتطور للاجتماعي وأنصارا للجمود، وضيقوا مساحة الحرية الدينية وأعاقوا التطور التشريعي وبخاصة في مجال قوانين الأسرة.
ويذهب الخولي إلى أن إصلاح الأزهر ينبغي أن يكون عبر الاقتصار على رسالته العلمية باعتباره معهد ديني بحيث لا يكون له أي دور في المجال السياسي والاجتماعي والتشريعي ولعله تأسى في ذلك بالمؤسسة الكنسية في الغرب، ووفقا للخولي فإن هذا لا يعني اضمحلال دور المؤسسة الأزهرية حيث أن وظيفتها الأساسية هي “تقديم تدين لا سلطة فيه أو كهنوت” ولا تدهور منزلة الأزهري الاجتماعية لأنه “صاحب دين، مكانه منها يتحدد بما يفيده للحياة من حيث هو دين وثقافة لا غير، دون اختلاط بعمل أي فئة أخرى من فئات المجتمع التي لها خلفيتها وسلوكها الملائم لعملها”.
ما نخلص إليه أن مشروع أمين الخولي الفكري تأثر جليا بالمؤثرات الثقافية الغربية وبخاصة في مسائل؛ التعامل مع النص القرآني باعتباره نصا أدبيًا، ومحاولة صبغ مفهوم التطور الدارويني بالصبغة الإسلامية، والدعوة إلى تقليص أدوار المؤسسة الدينية وقصرها على الدور التعليمي.