إقامة العدل مقصد رئيس من مقاصد الشريعة الإسلامية أكدته الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ ومنها قوله تعالى “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى” (النحل: 90) و”إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل” (النساء: 58) وقول رسوله ﷺ ” إن المقسطين عند الله على منابر من نور.
وعبر تاريخهم فهم المسلمون ما تأمر به النصوص القطعية من وجوب إقامة العدل وتنزيله من إطاره النظري ضمن أطر ومؤسسات واقعية تضطلع بمهمة تطبيق العدالة، وفي هذا السياق أقيمت مؤسسة القضاء في الإسلام وعهد إليها بمهمة الفصل في المنازعات، ومنحت صلاحيات لبعض رجال الإدارة المحلية مثل: المحتسب ورجال الضبط “الشرطة” من أجل ضمان تنفيذ العدالة. وفي السطور التالية أحاول التطرق إلى بنية المؤسسة القضائية وخصائصها ومهام أفرادها، وأروم من ذلك إلى الإجابة عن سؤال كيف طبقت العدالة داخل السياق الإسلامي.
المؤسسة القضائية: البنية والمهام
المحكمة هي الجزء الأبرز داخل المنظومة القضائية الإسلامية، وهي تفصل في المنازعات التي ترفع إليها من المتنازعين، وقبيل أن نتطرق لهيكل المحكمة ينبغي الالتفات إلى أنه بينما تُحل معظم النزاعات في المجتمعات المعاصرة ضمن المؤسسة القضائية الرسمية إلا أن المجتمعات ما قبل العصر الحديث كانت تمتلك بعض الآليات التي تمكنها من حسم النزاعات قبيل الوصول إلى ساحة القضاء، وكان قضاة الشرع منخرطون في حل هذه النزاعات بشكل غير رسمي، ولذا كانت النزاعات التي ترفع إلى المحكمة محدودة العدد وجلها يتعلق بالجنايات أو البيوع والأوقاف، لأن معظم النزاعات قد تم تسويتها بشكل غير رسمي. وبصفة عامة كانت هيئة المحكمة مكونة من تنظيم هرمي يتألف من :
– القاضي:
وهو أعلى منصب قضائي داخل المحكمة فصاحبه تلقى تعليما دينيا رفيعًا أهله لأن يصبح موضع ثقة الأهالي في الفصل في دعاويهم، وفي القرون الأولى كان القاضي ينظر القضايا في المسجد، وبمضي الوقت صارت المحكمة مؤسسة مستقلة لها قضاة معينون من قبل ولاة الأمر ، وكان القضاة يحكمون في القضايا استنادا إلى المدونة الفقهية التي هي جهد جماعي للفقهاء من مختلف العصور والأمصار، إذ لم يكن هناك قانون مدون مكتوب من صنع الحاكم كما هو الحال مع “قانون جستنيان” على سبيل المثال، وهو ما يعني أمران: أن القانون لم يكن مرتبطا بالنخبة الحاكمة ولم يصطبغ بطابع إقليمي معين، وأن إعمال القانون كان يعني تطبيق الشريعة الإسلامية.
كانت المهمة الرئيسة للقاضي هي الفصل في الدعاوى التي ترفع إليه وإصدار الحكم فيها وفقا للبينة التي يقدمها كل من المتداعيين، وينتقد بعض الدارسين القانونيين الغربيين ما أسموه “الدور السلبي للقاضي في عملية التقاضي” معتبرين أنه لم يكن يمتلك سلطة التحقيق في الدعوى وإنما اقتصر دوره على مراجعة الإجراءات القانونية وتقييم البينة (الشهادة)، فضلا عن أنه لم يمتلك سلطة إلزام المتنازعين المثول بين يديه كما يفعل المدعي العام في عصرنا، وهذا الانتقاد يغض الطرف عن مسألة هامة تميز القضاء الإسلامي وهي عدم انفراده بالفصل بالنزاعات إذ يلعب أفراد المجتمع المحلي دورا في العملية القضائية فالقاضي لا يصدر حكمه إلا بناء على الشهادة التي يؤديها أفراد المجتمع، فليس للقاضي تلك السلطة المطلقة التي يتمتع بها اليوم، من جانب آخر فإن مؤسسات الدولة في العصور الإسلامية لم تكن مؤسسات إلزامية، وكان تدخلها في حياة الأفراد هامشيا خلافا للعصور الحديثة التي تلعب فيه هذه المؤسسات دورا مركزيا بما لها من صفة إلزامية.
– الشهود العدول
وهم الذين يقوم القاضي بتعيينهم ضمن هيئة المحكمة ممن يتمتعون بالنزاهة الأخلاقية، وتتمثل مهمتهم في التحري عن عدالة واستقامة الأشخاص الذين لهم دعاوى أمام القضاء، وكثيرا ما كانوا يمثلون أمام المحكمة نيابة عن المتنازعين بصفة وكلاء، وكانت محاضر المحكمة عادة ما تذيل بتواقيع هؤلاء الشهود الذين كانوا عادة ما يكونون قادة محليين (فقهاء أو وجهاء أو ذوي مكانة اجتماعية) ولم يكن توقيعهم سوى موافقة جماعية على أن ما ورد بالمحضر من إجراءات وأحكام يلقى قبولا اجتماعيا فضلا عن القبول الشرعي.
– كتبة المحكمة
وهم المسئولون عن تدوين محاضر الدعاوى ضمن سجلات المحكمة، وقد اقتضت طبيعة عملهم وثيقة الارتباط بالفقه أن يكونوا ممن نالوا تعليما دينيا، وكانوا مثل الشهود العدول همزة وصل بين المحكمة والمجتمع المحلي الذي تأسست فيه المحكمة.
وإضافة إلى هؤلاء الذين يشكلون البنية المؤسسية القضائية، يمكن الحديث عن المتداعيين الذين يمثلون طواعية أمام المحكمة ويعرضون قضاياهم بشكل مباشر دون وسيط محترف (المحامي)، مستخدمين في ذلك لغة غير قانونية دون اعتراض من هيئة المحكمة، وكان هذا شائعا لأنه لم تكن هناك تلك الهوة التي تفصل بين المحكمة كمؤسسة شرعية/قانونية وبين من يلجأون إليها أيا كان وضعهم الاقتصادي والاجتماعي ومستواهم التعليمي، وليست طبيعة المحكمة -التي لا تتقاضى أتعابا باهظة ولا تتطلب معرفة قانونية خاصة- هي من جسرت هذه الهوة وإنما الفضل يعود إلى الأفراد أنفسهم؛ لأنه خلافا للمجتمع الحديث الذي يعاني اغترابا في مجال القانون فإن أفراد المجتمع الإسلامي كانوا على معرفة بالمنظومة القانونية للشريعة، وكانوا يعيشون أخلاق التشريع ومبادئه في ممارساتهم الاجتماعية، وهو ما جعل الشريعة عرفا حيا ومعاشا داخل المجتمع.
ضمانات العدالة
جسدت المحكمة فكرة العدالة تجسيدا حيا بما وفرته من ضمانات كفلت للفئات الأضعف داخل المجتمع نظر قضاياهم بالقسط، ومن تلك الضمانات التي استخرجناها من مدونة الفقه الحنفي الذي كان معمولا به في الدولة العثمانية والولايات التابعة لها، والتي عرفت طريقها للتطبيق على يد قضاة الشرع:
– أن أحكام القضاة تصان عن الإلغاء والإبطال ولا يتم التعرض لها بالنقض إلا في حالة واحدة فقط وهي أن يصدر القاضي حكما لم يستوف شرائطه الشرعية عندئذ لا يكون نافذا.
– الحق لا يسقط بتقادم الزمان.
– يُمهل صاحب الحق إلى أن يتمكن من إقامة الدعوى دون تقيد بمضي خمسة عشر عاما كما ينص الأمر السلطاني.
– لليتيم بعد بلوغه أخذ حقه وملكه ممن استولى عليه.
– للمكره بعد زوال الإكراه فسخ البيع، ولا يبطل حق الفسخ بموت أحد المتعاقدين، فلورثة المكره الرجوع على المشتري أو ورثته.
– لا تقبل شهادة مشايخ البلد [ رؤساء القرى] في الدعاوى.
خصائص النظام القضائي
تحملنا الضمانات السابقة على الاعتقاد أن النظام القضائي الإسلامي كانت له خصائص تميزه عن غيره من الأنظمة القضائية، ومنها:
– الحضور الأخلاقي: وهو يتبدى في مسائلتين الأولى : مصداقية الشهادة – وهي أهم أركان العملية القضائية- التي كانت تستند إلى الأخلاق وحسن السيرة، لقد كانت وظيفة شهود المحكمة تزكية شهود العيان قبيل قيامهم بأداء الشهادة، وكانت إجراءات التزكية بالغة الدقة بحيث يستبعد من الشهادة من هو غير محمود السيرة، والثانية : عملية إصدار الحكم، إذ غالبا ما كان القاضي يستفسر عن مدى الالتزام الأخلاقي للمدعي وهل يمكن أن يكذب في ادعائه ضد المدعى عليه، وكان الحكم النهائي للقاضي يصدر بناء على هذا التقييم الأخلاقي للشخص.
– المساواة الاجتماعية: وهي تتجلى في أن إجراءات المحكمة لم تكن تميز بين أصحاب القوة والثراء وبين المعوزين، وكانت الأحكام تصدر دون مراعاة للأوضاع الاجتماعية للمتداعيين، ولعل هذا ما شجع الفئات الأضعف على التصدي لمن هم في مواقع القوة والنفوذ، وضمن هذا السياق كان الفلاحون غالبا ما يكسبون قضاياهم ضد ملاك الأراضي الجائرين، وكان اليهود والنصارى يكسبون قضاياهم ضد شركائهم المسلمين.
– أولوية الصلح على التداعي: وهي سمة لا نجد لها نظيرا في الأنظمة القانونية الأخرى وتجد صداها في مقولة “الصلح سيد الأحكام” التي تعكس النظرة المتجذرة بأن الوساطة والتحكيم جزء أساسي من العملية القضائية، وأنه ربما يتفوق على عملية الادعاء والتقاضي في ظل مجتمع يقدس العلاقات الأسرية ويعتقد بأن النزاعات التي تحوي أمورا حميمية يجب حجبها عن العامة ومعالجتها في نطاق ضيق.