لما زار أحمد أمين اسطنبول في صيف سنة ١٩٢٨، وجد نفسه يقارن بين اسطنبول والقاهرة، من حيث المناخ، والنظافة، والهدوء، والعمران.. واندلعت في ذهنه أفكار لمشروعات.. كان أحدها مشروع لم يتم لروايةٍ تدور أحداثها في اسطنبول.. يقول أحمد أمين: “إن الأربعين يوماً التي قضيتها في الاستانة موضوع لرواية جيدة بل روايات، ففيها المناظر، وفيها الأشخاص، وفيها الأحداث، ولا ينقصها شيء إلا المرأة والتحرير الروائي”.
ويقول كارلوس فوينتس: “أعتقد أن كتبي مستلهمة من صور مدن، ومدينة أحلامي وكوابيسي هي مكسيكو سيتي، باريس ونيويورك مثلا لا تحفزانني على الكتابة. كثير من قصصي قائم على أشياء رأيتها هناك. قصة “الملكة الدمية” في مجموعة Burnt Water مثلا هي شيء ظللت أشاهده كل مساء حينما كنت مراهقاً… أنا كاتب مدينة وليس بوسعي أن أفهم الأدب خارج المدينة. والمدينة بالنسبة لي هي مكسيكو سيتي ومراياها وأقنعتها، والصور الصغيرة اللاذعة التي أراها عندما أنظر إلى قاعدة هذه المدينة الطوطمية، في قاع المدينة، المدينة بوصفها فضاءً يتحرك فيه الناس ويتقابلون ويتغيرون”.
المدن إذن.. فارقةٌ للغاية في نظر كثير من الكتّاب، وهي تزود من شاء منهم بذخيرة كافية لكتابة أشياء عظيمة للغاية!
وسواءٌ.. أكانت المدينة التي يزورها كاتب ما.. مدينةً جديدة عليه -كما هو حال أحمد أمين وإسطنبول- أو كانت مدينته التي يعرفها كما يعرف اسمه ويألفها كما يألف أمه -كما هو حال كارلوس فوينتس ومكسيكوسيتي- فإن المدينةَ بابٌ عظيم من أبواب الوحي الكتابي.. تصلح ليستغرق الكاتب عمره في تصوير لقطات منها: واسعة حيناً، وضيقة حيناً، عمودية تخترق جدران التاريخ وأسقف الزمن، أو أفقيةً لا تفعل أكثر من استلهام المدينة في طورها الحالي لكتابة أعمال أدبيةٍ تصفها وتوثقها، وتحبس ظل بعض لحظاتها ليكون مقروءاً ما دام في الأرض من يفك شفرة الحرف ويحل ألغاز العبارات.
بوسع الكاتب أن يوسع اللقطة فتنظر عيناه نظرة شاملة إلى المدينة الواسعة، شخصيتها، ما يجعلها تختلف عن غيرها من المدن، وبوسعه أن يصغر اللقطة جداً فيجعل ميدان نظرته مقهى أو دكاناً صغيراً أو زاويةً في شارع، أو كابينة اتصالات أو شجرة.. وبوسعه أن يقسم المدينة إلى أقسامٍ كبيرة، يختار منها جزءاً: قد يكون حياً من أحيائها، أو مجتمعاً صغيراً ضمن مكونات مجتمعها الكبير، أو فرداً عادياً يعيش في تلك المدينة وتتشكل ماجرياته في أزقتها ووراء جدرانها.. وهكذا.
ومن وراء معرفة الكاتب بالمدينة التي يكتب عنها، سواء أكانت معرفة عميقة نتجت معايشة طويلة أم معرفة طارئة نتجت عن زيارة حديثة أو استيطان حادث؛ يعيد الكاتب تكوين المدينة على هيئة كلمات، وهذا أخطر ما في الكتابة! أنها تمنح كل شيء معنى مضافاً، وتعيد تشكيل الظواهر مهما كانت معقدة! وأي شيء أعقد من المدينة؟ مساحة شاسعة، وألوف، أو ملايين من الأنفس تركض فيها وتدرج، وتولد وتعيش وتورق وتذبل وتدفن، لكل نفس منها ماض وحاضر ومستقبل وذكريات وأحلام وأوجاع ومخاوف وصداقات وعداوات، وكل ذلك يجتمع في إطار واحد يدعي “المدينة”، يختزله إنسان جريء وشبه ساحر يدعى “الكاتب” في مقالة أو رواية!
يعيد الكتّاب التفكير بشكل جديد في المدينة مهما تكن قديمة، ويصنعون من بذورها أشجاراً، ويضخمون في وعي القارئ مشاهد وتفاصيل هامشية ربما لا تثير انتباه أحد، ويلاحظون مجريات الحياة اليومية في تلك المدينة، وتفاصيلها، ومشاعر ساكني المدينة وسلوكهم.
هذه المدينة في عيون الكتّاب، وهي في عيوننا -معاشر القراء- مثل ذلك وأكثر!
وكأيّن من إنسان قرأ كتاباً، أو مقالةً، فقُذف في قلبه من بعدها حبّ مدينةٍ ما، القاهرة، بغداد، دمشق، إسطنبول، باريس، غزة فلورانس، أسمرا، نيويورك، بكين، طهران، وقائمة طويلة من المدن، دخلت وجدان من قرأ روايةً ما.. “رحلة بلدسار”، “دروز بلغراد”، “سمراويت”، “الجحيم”، “جسر على نهر درين”، “عزازيل”، “ثرثرة على ضفاف النيل”، “غرابة في عقلي”، “فرانكشتاين”، “رائحة المطاط”.. وقائمة طويلة من الأعمال الأدبية التي احتلت المدنُ صفحاتها على نحو قد يقارب الواقع، وقد يزوقه، وربما ينزل به دركة أو دركات.
علينا معاشر القراء أن نحذر هذه الكتب، لا أعني أن نفر منها، لكن أن نقرأها متحسبين لتلك الأثمان الباهظة التي علينا أن ندفعها من خيالاتنا، وأحلامنا، ورغباتنا برؤية مدينة ما!
نعم! بوسع الكتّاب -بما أوتوا من سحر البيان– أن يجعلونا نحب مدينةً ما، وأن يحملونا على زيارتها لكي نرى بأعيننا ما يزعمون من سحرها وجمالها، فالكتّاب سفراء لمدنهم التي استحقوا الانتماء إليها بفعل عيشهم فيها أو عبث أقلامهم بها!