تعتبر العلاقة بين المسائل الفقهية والعقيدة من الأمور التي أثارت الكثير من النقاش في التاريخ الإسلامي. فمن المثير للاهتمام وجود بعض المسائل الفقهية في كتب العقيدة، حيث تبدو هذه المواضيع في غير مواضعها المعتادة حسب التصنيف الفقهي والعقدي. لكن، تعمد العلماء وضعها لعدة أسباب تحمل دلالات عميقة تتعلق بأهمية هذه المسائل من منظور ديني وتاريخي. في هذا المقال، نستعرض الأسباب والدلالات التي دعت علماء المسلمين إلى إدراج بعض المسائل الفقهية ضمن كتب العقيدة.

حديث جبريل وإيضاح الدين

جاء في آخر حديث جبريل المشهور: “فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم”[1]، وسمى رسول الله “الإسلام والإيمان والإحسان” دينًا، وهي الأمور التي سأل عنها جبريل في ملأٍ من الصحابة بأسلوب شد انتباههم وأدعى لضبط تلك الأمور ضبطًا وفهمًا يقرر بأن مسائل العقيدة والفقهية كلها من الدين، ويجب الاعتناء بها، ونزول جبريل عليه السلام من أجلها يدل على أهميتها وعدم الاستهانة بها وإن تفاوتت درجاتها. ولذا، لم يُعرف في عهد الصحابة وتلاميذهم تقسيم الدين إلى أصول وفروع إلا لاحقًا، ولا بأس بالتقسيم – فلا مشاحة في الاصطلاح – وخاصة إن أُريد به ما يهدف إلى تقريب المعلومات إلى الأفهام وتيسير إيصالها للأذهان كما هو شأن علوم الآلة، ولذا تقبّل أهل العلم هذا التقسيم بهذا الاعتبار وصاروا يقولون به إذ لم يترتب عليه أي أثر سلبي.

أما من جعل تقسيم الدين إلى أصول وفروع مطية لرد خبر الآحاد في مسائل العقيدة، والاستخفاف بمكانة السنة النبوية، والتلاعب بالأحكام الشرعية الثابتة، وما أشبه ذلك من أمارات الاستهانة والآثار السيئة التي قد تكمن وراء قصد التقسيم، فإن هذا تقسيم مردود.

قال أبو العباس ابن تيمية: “ولم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول وفروع. بل جعل الدين “قسمين” أصولًا وفروعًا لم يكن معروفًا في الصحابة والتابعين ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين إن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم لا في الأصول ولا في الفروع ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة وأدخله في أصول الفقه من نقل ذلك عنهم”.[2]

العقيدة والفقه: هل هناك فرق؟

العقيدة مترادفة للتوحيد والإيمان من حيث العموم، ومسائلها مسائل علمية قلبية محضة لا صلة لها بأفعال الجوارح وإن كانت هي أساس قبولها، أي هي أمور عقدية قطعية إجماعية تختص بالإيمان بالله سبحانه وتعالى وبجميع الأمور الغيبية والنبوات، وتسمى بأصول الإيمان الستة التي يجب أن يعتقدها الإنسان ويتعبد بها، ولن يدخلها التغيير ولا التعطيل ولا التحريف أو التأويل، ولذا لم يختلف جميع الأنبياء في اعتقادها والإيمان بها.

وأما المسائل الفقهية فهي شرائع تتعلق بأفعال العباد المكلفين حسب كل زمان من أتباع الأنبياء، وتسمى بالأحكام التكليفية الخمسة التي هي: الواجب، والمستحب، والحرام، والمكروه، والمباح، وتدخل في جميع أبواب الدين العملية، وهي قابلة للاجتهاد والتغيير أحيانًا، ومن هنا سمي أمور عقدية بأصول الدين وما سواها يسمى بالفروع.

لماذا أُدرجت المسائل الفقهية في كتب العقيدة؟

يعتبر إدراج بعض المسائل الفقهية في كتب العقيدة أمرًا لافتًا للنظر لأنه في غير مواضعه المعتادة حسب التصنيف العلمي والتقسيم الدراسي، لكن العلماء قد تعمدوا ذكرها في هذا الموطن العقدي ليكون موجب الانتباه إلى أن:

  1. أدلة تلك المسائل أوضح من أن تُرد أو تُنكر.
  2. طابع الاستهانة بها والازدراء سيفضي إلى انطماس معالمها ودرس نورها وخفاء آثارها.
  3. إعادة التذكير بها في كتب العقيدة أدعى لتنويه شأنها وانتشارها وأوقع في النفوس والإحساس بها وتقديرها حق التقدير.
  4. فيه بيان هدي سلف الأمة في التسليم والتعظيم لأي أمر من الأمور الدينية دون الاستخفاف.
  5. من أنكرها أو استهان بها فقد جانب سبيل المؤمنين ومحجة الصادقين.

ولذا ترى أكثر المتفلتين عن المحجة المستقيمة في إنكار المسائل الفقهية الواضحة البرهان هم: الشيعة، والمعتزلة، والخوارج، وأشياعهم من طوائف أهل الهوى.

أبرز المسائل الفقهية الواردة في كتب العقيدة

1. وجوب غسل الرجلين في الوضوء

كانت مسألة وجوب غسل الرجلين في الوضوء حاضرة في كتب العقيدة لأنه من الأمور الفقهية المجمع عليها التي لا يتصور الخلاف فيها، لتواتر نقل الخبر النبوي فيه على مر التاريخ قبل ظهور الشيعة القائلين بإيجاب المسح على الرجلين في الوضوء، أو المعتزلة القائلين بالتخيير بين الغسل والمسح.

قال شيخ الإسلام: “ومن مسح على الرجلين فهو مبتدع مخالف للسنة المتواترة وللقرآن، ولا يجوز لأحد أن يعمل بذلك مع إمكان الغسل… قد اعتقد كثير من أهل الضلال أنها لا تغسل، بل فرضها مسح ظاهرها عند طائفة من الشيعة، والتخيير بينه وبين الغسل عند طائفة من المعتزلة”.[3]

وقال النووي: “أجمع العلماء على وجوب غسل الوجه واليدين والرجلين، وانفردت الرافضة عن العلماء، فقالوا: الواجب في الرجلين المسح، وهذا خطأ منهم؛ فقد تظاهرت النصوص بإيجاب غسلهما”.[4]

2. المسح على الخفين

المسح على الخفين هو مسألة فقهية محررة في كتب الفقه، ثم أوردها العلماء ضمن مسائل الاعتقاد من أجل الإنكار على الرافضة والخوارج المنكرين للمسح على الخفين.

قال سفيان الثوري: “من لم يمسح على الخفين فاتهموه على دينكم”[5]، نظرًا لثبوته عن النبي وأصحابه في صحاح الأخبار التي يبلغ مجموعها مبلغ التواتر، وقد انعقد الإجماع على مشروعيته قبل ظهور أهل الهوى.

وقال الإمام النووي: “أجمع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر، سواء كان لحاجة أو لغيرها، حتى يجوز للمرأة الملازمة بيتها والزمن الذي لا يمشي، وإنما أنكرته الشيعة والخوارج، ولا يعتد بخلافهم”. وقال الحسن البصري رحمه الله: “حدثني سبعون من أصحاب رسول الله أن رسول الله كان يمسح على الخفين”.[6]

3. التعجيل بصلاة المغرب

من المعلوم أن أوقات الصلوات محلها في كتب الفقه لا كتب العقيدة، لأنها داخلة في أبواب الأحكام الفقهية الظاهرة والمتكررة في كل يوم. ولكن لما وجد من أهل الهوى من اعتاد تأخير وقت صلاة المغرب إلى وقت تشبيك النجوم تدينًا، رأى العلماء أن يكرروا ذكر مسألة وقت صلاة المغرب في كتب العقيدة تنبيهًا إلى خطورة تعمد مخالفة السنة العملية الظاهرة.

قال الإمام الشعبي: “واليهود لا يصلون المغرب حتى تشتبك النجوم .. وكذلك الرافضة”.[7]

وقال النووي: “قد ذكرنا إجماعهم على أن أول وقتها غروب الشمس، وحكى الماوردي وغيره عن الشيعة أنهم قالوا: لا يدخل وقتها حتى تشتبك النجوم، والشيعة لا يعتد بخلافهم”.[8]

قال ابن بطة: “ومن السنة المبادرة بصلاة المغرب إذا غاب حاجب الشمس قبل ظهور النجوم”.[9]

4. صلاة التراويح

من المسائل المقررة في كتب الفقه ثم تكررت في كتب العقيدة: مسألة صلاة التراويح، وهي صلاة مندوبة مسنونة صلاها النبي عليه الصلاة والسلام جماعة مع أصحابه في رمضان، وعليه عمل الناس في كل رمضان تأسّيًا بالنبي عليه الصلاة والسلام بلا نكير، إلا أن الشيعة تكرهها بدعوى أنها بدعة في الدين أحدثها عمر بن الخطاب وأن النبي عليه الصلاة والسلام قد منع قيام رمضان وأنكرها بل اعتبرها معصية.

هذا الادعاء باطل ومحجوج بما سبق وثبت بأن النبي عليه الصلاة والسلام قد صلى قيام رمضان مع الصحابة ثلاث ليال، لكنه لم يخرج في الليلة الرابعة رأفة وشفقة على أمته من أن تفرض عليهم فيعجزوا، ثم جاء عمر بن الخطاب ليحيي هذه السنة النبوية مرة أخرى لما رأى أن العلة قد زالت، فوافقه عليه الصحابة وكان إجماعًا، ولا يمكن أن تجتمع الأمة على الضلالة.

وقال قوام السنة الأصفهاني: “ومن السنة صلاة التراويح في شهر رمضان في الجماعة”.[10]

ومن العجيب أنه يوجد من الشيعة من لم يرفضوا صلاة التراويح تمامًا، وإنما رأوا أن تُصلّى بعد المغرب.

وقال أبو العباس ابن تيمية: “الرافضة تكره صلاة التراويح؛ فإذا صلوا قبل العشاء الآخرة لا تكون هي صلاة التراويح.. فمن صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة”.[11]

مسائل أخرى في كتب العقيدة

ومن هذه المسائل الواردة في كتب العقيدة وهي على خلاف ما كان عليه سلف الأمة، حيث يرى أهل السنة والجماعة:

  1. جواز الصلاة في السراويل خلافًا للخوارج.
  2. طهارة سؤر الكافر خلافًا للروافض.
  3. انتقاض الوضوء بخروج المذي خلافًا للروافض.
  4. مشروعية قصر الصلاة في السفر خلافًا لبعض الخوارج الذين لا يجيزون القصر إلا مع الخوف.
  5. مشروعية الصلاة على من مات من أهل القبلة خلافًا للخوارج.
  6. تحريم متعة النساء إلى يوم القيامة خلافًا للشيعة.
  7. مشروعية الرجم خلافًا للخوارج وبعض المعتزلة[12].

خلاصة

تتضح أهمية إدراج المسائل الفقهية في كتب العقيدة من خلال الدلالات والأسباب التي وضحها العلماء، والتي تهدف إلى منع الاستهانة بهذه الأحكام والتأكيد على ضرورة الالتزام بها ضمن إطار الدين الإسلامي. إن المسائل الفقهية والعقدية والأخلاقية كلها جزء من الدين، وجاء جبريل عليه السلام من أجل تعليمها جميعًا، مما يدل على أن الاهتمام بها جميعًا واجب على المسلم. ولذا، فإن من أهم أهداف إدراج الفقهيات ضمن كتب العقيدة هو التأكيد على خطورة الاستخفاف بها، وأن من استخف أو أنكر هذه المسائل فقد ابتعد عن سبيل المؤمنين.