لا شك أن تغير الزمان ومستجدات العصر تفرضان على المسلم أن يراجع باستمرار دوره ورسالته، ليس فقط على مستوى طرح رسالته بلغةٍ وأداء معاصرَيْن، وإنما أيضًا في مراجعة المضمون والمحتوى، خاصة فيما يقبل ذلك مما هو دون الثوابت والكليات والأصول. ومن المهم التنبيه ابتداءً إلى أن هذه المراجعة المطلوبة لدور المسلم ورسالته المعاصرة، ليس مخاطَبًا بها غير المسلمين أو المستوى العالمي فحسب، كما هو شائع حين يُطرح “خطاب المراجعة”، بل يخاطَب بها أولاً المسلم نفسه، حتى يكون لديه تصور صحيح عن ذاته ينطلق منه ويتحرك في إطاره، قبل أن يقدمه للآخرين.
مراجعة دور المسلم ورسالته المعاصرة
ويمكن أن نشير إلى أهم المسائل التي تتصل بضرورة مراجعة المسلم لدوره ورسالته المعاصرة، في عشر نقاط نتناولها بإيجاز وتبسيط، وهي تتصل بالإطار العام الحضاري لهذه المراجعة المطلوبة باستمرار؛ والتي تُعَد إحدى واجبات الوقت حتى نكون عنوانًا جيدًا على ديننا الخاتم ورسالتنا العامة.
1- ربانيُّ المصدر
وأول ما يجب تأكيده وتوضيحه في هذه المراجعة أن المسلم رباني المصدر؛ أي يستمد مفاهيمية وأفكاره الأساسية من الله تعالى، أي من الوحي قرآنًا كريمًا وسنةً نبويةً. فقد جاء الإسلام ليشكّل للمسلم عقله وقلبه، وليضبط فعله وحركته، وليوجه سعيه ومقاصده؛ سواء فيما يتصل بحقائق الألوهية والنبوة، أو معالم التشريع والأخلاق.
قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 38). وقال أيضًا: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} (المائدة: 15). وقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3).
وهذه “الربانية” تمنح المسلم صحة في الاعتقاد، وتزكية في الضمير، واستقامة في التعبد، وعدلاً في التشريع، وخُلقا في التعامل. كما أنها تحفظ المسلم من الهوى، وتوفر طاقته من العبث، خاصة وبالأساس فيما هو خارج عن نطاق قدراته وحدود عقله ومعرفته؛ فالإنسان له سلطان فيما يدركه، ومطلوب منه في هذا الجانب أن يبذل غاية ما يستطيعه فكرًا وعملاً؛ لكن ثمة مساحات هي فوق طاقة البشر وحدود العقل. وقد جاء الدين ليملأ للإنسان هذه المساحات: نورًا من الله تعالى، ومعرفةً من الوحي، واستهداءً بالفطرة.
2- توحيديُّ العقيدة
فعقيدة الإسلام قائمة على أصل مهم وهو التوحيد؛ فالله سبحانه وتعالى فرد صمد لا ند له ولا شريك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } (سورة الإخلاص).
وهذا التوحيد يحرر عقل المسلم من الخرافات والمتناقضات، ويحرر سلوكه من الابتداع والانحراف، ويحرر وجدانه من الخضوع والمذلة لغير الله تعالى؛ صاحب الأمر والنهي، وصاحب الملك والسلطان.
فالتوحيد أمر عقدي يتصل بالمعرفة ويمتد تأثيره للوجدان والضمير والجوارح والأفعال. وحديث ابن عباس المعروف يُجْمِل ذلك كله أحسن الإجمال؛ فعند الترمذي وأحمد، عن ابن عباس قَالَ: “كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ”.
وهذا التوحيد، القائم على تعظيم الله تعالى، ووصفه بكل كمال وتنزيهه عن أي نقص، هو ميزة الإسلام الكبرى وأساسه المتين. والإسلام يقدم التوحيد أو المفهوم عن الألوهية، في صورة واضحة دون لبس أو تعقيد أو غموض؛ ويجذب إلى رحابه بهذا الوضوحِ غيرَ المسلمين، الذين يجدون فيه مفهومًا متسقًا مع الفطرة، لا تَكلف فيه ولا تَناقض.
3- تعدديُّ النظر
فالمسلم يبحث عن الحكمة أينما وُجدت، ويلتقط الحكمة أيًّا كان قائلها؛ لأن المعرفة الإنسانية أكبر من أن يمتلكها أحد، فهي شاملة ومتنوعة ومتعددة بتعدد شئون الحياة.. ولأن الإسلام دين للناس جميعًا، ولا يصح أن يكون ثمة حاجز بينه وبينهم.. كما أن الإسلام ترك لنا مساحات كثيرة في الحياة، واقتصر فيها على الأصول العامة والقيم أو القواعد الكلية.
ولهذا كان على المسلم أن يكون تعددي النظر، يرتكز على الوحي وعلى الذات في أمور، ويمد عقله إلى ما حوله من تراكمات المعرفة الإنسانية في أمور أخرى.
وحضارة المسلمين خير شاهد على ذلك، حين استفادت من إنجازات الأمم الأخرى في الإدارة والعلوم وشتى جوانب المعرفة..
4- أخلاقيُّ الفعل
الأخلاق ركيزة أساس في وعي المسلم وضميره وحركته؛ وهي الترجمان العملي لحقيقة قيمه ولمدى التزامه بهذه القيم؛ كما أن الأخلاق تشير إلى تقدير الإسلام للإنسان من حيث هو إنسان، تقريرًا لكرامته وضمانًا لحقوقه.
والأخلاق خير سفير للإسلام إلى الإنسانية، وخير مدافع عن الإسلام: من طريق العمل والواقع، وليس من طريق التنظير والمثاليات أو ما ينبغي أن يكون. ولهذا قيل: عمل رجل في ألف رجل، خير من قول ألف رجل لرجل.
ويكفي بيانًا لمكانة الأخلاق في الإسلام أن النبي ﷺ جعل إتمامها مقصدًا من مقاصد بعثته ورسالته؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ (السلسة الصحيحة).
وتتأكد الحاجة إلى أخلاق الإسلام، ولأهمية أن يكون المسلم أخلاقيَّ الفعل، بما نراه في عالمنا الذي أصبح يربط معايير الأخلاق بتقلبات المصالح لا بثوابت المبادئ، حتى أصبحت الأخلاق والقيم مظلة مطاطية لا تتسع إلا لمن ينضوي تحت مصالح من يرفع اللافتة الأخلاقية ويتاجر بها، وليست تتوجه لعموم بني الإنسان؛ وذلك بخلاف رسالة الإسلام التي شملت بأخلاقها مختلف الأديان والمذاهب والأعراق.
5- خيريُّ السعي
المسلم في سعيه ينطلق من فعل الخير ويتجه إليه؛ فالخير عنوان على سعيه وحركته؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج: 77).
و”مجال فعل الخير” يتسع لكل ما هو معنوي ومادي؛ من كلمة طيبة، إلى إماطة الأذى عن الطريق، إلى الصدقة ولو بشق تمرة، إلى نشر الوعي، وإلى الإصلاح بين الناس وإعادة لحمة المجتمع.. كما أن “حدود فعل الخير” تشمل الناس جميعًا، بل تشمل كل الكائنات من حول الإنسان؛ وقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت!! (حديث البخاري، عن عبد الله بن عمر).
6- عالميُّ الرسالة
رسالة المسلم للناس جميعًا، لأن الإسلام هو الدين الخاتم للرسالات والشرائع، وهو كلمة الله الأخيرة للبشرية، ونبي الإسلام محمد ﷺ هو النبي الخاتم: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (الأحزاب: 40). {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158).
وينبغي على المسلم في طور مراجعة دوره ورسالته المعاصرة أن ينطلق من هذه العالمية، وأن يدرك أنها تُرتِّب عليها مسئولية كبرى، سواء في البيان والاجتهاد في تبليغ الرسالة واتخاذ الوسائل العصرية ذات الأفق الممتد، أو في التلطف والحكمة والدعوة بالتي هي أحسن وأرفق، خاصة أن الإسلام قد تعرَّض لحملات كثيرة من التشويه والافتراء، وبالتالي يحتاج التغلبُ على ذلك للكثير من الجهد والكثير من الحكمة.
7- إنسانيُّ الخطاب
ويترتب على عالمية الرسالة أن يقدم المسلم خطابًا إنسانيًّا، أي خطابًا يحترم الإنسان مطلق الإنسان، ويقرر حقوقه ويضمن حرياته، ويمسد الجسور معه بعيدًا عن تجاذبات الدول والسياسات.
الإنسان في هذا العالم المليء بالصراعات والمشحون بالأفكار التائهة والضالة، التي تنازع الإنسان إنسانيته، يحتاج إلى من يعيد إليه فطرته، ويساعده في إنقاذ روحه، ويتلطف معه في دلالته على طريق الله تعالى، ويبين له برفق أن الدين ما جاء إلا لسعادة الإنسان في الدنيا ونجاته في الآخرة.. فضلاً عن التعاون على البر والتقوى والخير، والاشتراك في كل ما يعود بالنفع على بني الإنسان.
وقد برهنت قضايا المسلمين المعاصرة أن ثمة كثيرين في الغرب والشرق يتعاطفون مع قضايانا العادلة، وأبرزها فلسطين، وأن عموم الناس لديهم خير كبير وفطرة نقية، متى وجدوا من يساعدهم برفق على اكتشاف ذواتهم، وعلى التحرر من ضغط الإعلام الذي يلاحقهم، والساسة الذين يخدعونهم ويغذّون عوامل الشقاق والضغائن بين الشعوب.
8- عمرانيُّ النفس والمادة
يتميز الإسلام بأنه رسالة للروح والجسد، للعبادة والعمران؛ فالأرض كلها محراب، والسعي كله عبادة.
ورسالة المسلم المعاصرة تقتضي منه أن يعي ذلك جيدًا، وأن يسعى لتحقيق العمران في الجانب المعنوي بالتعبّد والتزكّي والتخلّق، كما يحققه في الجانب المادي بالتحضّر والاستصلاح والاستزراع.. فيكون مصحِّحًا لمسيرة الحضارة المعاصرة التي انشغلت بجانب المادة وأهملت الروح، ويكون جامعًا بين عمران النفس وعمران المادة؛ بلا رهبانية تخاصم الدنيا، ولا مادية تجور على حقوق الروح: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 32).
9- تدافعيُّ التاريخ
يدرك المسلم أيضًا أن التاريخ لا يزال في حركة دائبة، وأنه يتحرك وفق سُنَن، وأن هذه السنن مبذولة لمن يأخذ بها ويفعّلها: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (النساء: 123). {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40).
فيبادر إلى معرفة هذه السنن وإلى بذل شروطها.. ويتخذ من التدافع- لا الصراع- مركبًا يشق به طريقه بين الأمم.
وهذا التدافع يستلزم الاستعداد بكل أنواع القوة التي تمكِّن من حماية الحق، ورفع الظلم عن المظلومين، ومواجهة المعتدين.. فهي قوة تَدفع لا تَصرع، وتحمي لا تعتدي؛ لأنه لا يمكن إلغاء حالة التعدد الديني والعرقي التي جعلها الله تعالى بين الناس، وإنما المطلوب إدارة هذا التعدد ليكون تنوعًا لا تضادًا، وتعارفًا لا تخاصمًا؛ فهو “تدافُع” يدفع الظلم والعدوان، مع بقاء التعدد والتنوع، وليس “صراعًا” يهدف إلى محو الفوارق بين الناس أو محو الوجود للمخالفين: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99).
10- ميدانيُّ الدنيا والآخرة
المسلم يعتقد أن الدنيا دار اختبار وابتلاء، ومحطة للعمل والزرع؛ ثم يكون بعدها دار الثواب والعقاب، ومحطة الجزاء والحصاد. وهذه الرؤية لا شك تنعكس على اعتقاده وسعيه، بحيث لا ينحصر فكره وتدبيره في نطاق هذه الدنيا الزائلة، كما يفعل الماديون؛ وإنما يتحرك فيها وعينه على الآخرةِ، دارِ الجزاء والبقاء.
والاعتقاد بالدار الآخرة هو فرع عن الاعتقاد بالإيمان بالله تعالى، وهو ركن ركين من أركان الإيمان.. به يخشع المرء وتتواضع النفس ويخلص القلب وتنضبط بوصلة الجوارح؛ وهذا فارق كبير بين المسلم وغيره ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)} (الجاثية: 23، 24).
والإيمان باليوم الآخر ليس مدعاة لاعتزال الدنيا ولا لتحقير العمل بها والسعي فيها؛ بل العكس هو الصحيح. إن الإيمان بدار الجزاء ينبغي أن يكون حافزًا قويًّا للإحسان في دار العمل، ولبذل أقصى الطاقات فيها: عمارةً وإصلاحًا وعملاً للصالحات؛ حتى يدخر المرء لنفسه ما يستحق عليه الجزاء الأوفى يوم الحساب.
وهذا يستلزم تصحيح مفهومنا عن الدنيا، هذا المفهوم الذي تأثر بأفكار انعزالية ورهبانية ليست منضبطة بالمعيار الإسلامي.. حتى تركنا الدنيا وأسبابها لمن يسخِّرها لغير الحق، ويستعلي بها على الضعفاء، ويغتصب الحقوق، ثم لا يجد رادعًا ولا مانعًا..!!
رؤية قابلة للإضافة
بهذه النقاط العشر يمكن أن نشكّل رؤية عامة حضارية لدور المسلم ورسالته المعاصرة، وبما يصح أن يكون إطارًا معبِّرًا عن “النموذج المعرفي الإسلامي” بشكل عام، ومدخلاً جيدًا للتعريف بالإسلام لدى غير المؤمنين به.
ولا شك أنه يمكن إضافة نقاط أخرى يكتمل بها هذا البناء المعرفي، ويتفعّل من خلالها دورُ المسلم في عالمٍ هو أحوج ما يكون إلى هداية الله تعالى والتعرف على رسالته.
ولعل المسلم المعاصر يقوم في هذا الصدد بما هو واجبٌ عليه وأمانة في عنقه، نحو ذاته ونحو الناس جميعًا..