ألقى أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة قطر الدكتور محمد أبو بكر المصلح يوم الأحد 2 ديسمبر2018 محاضرة في جامعة حمد بن خليفة بعنوان: “الجهود الإصلاحية الإسلامية في القرن الخامس الهجري: الغزالي نموذجا”، ناقش فيها السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي نشأ في الإمام أبو حامد الغزالي وأسهم في تكوين شخصيته وبين مواقفه من الأفكار والأشخاص والأشياء –بتعبير مالك بن نبي– التي عاصرته.

وقد نبه المحاضر في مستهل محاضرته، التي ألقاها باللغة الإنجليزية، في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة مركز القرضاوي للوسطية الإسلامية والتجديد، إلى أن البحث في الجهود الإصلاحية لأعلام الأمة الأوائل لم يحظ بالدراسة الكافية بعد، مستدلا على ذلك بأن شخصية وهاجة مثل حجة الإسلام الغزالي لم تدرس الجوانب الإصلاحية عندها بما يكفي، منوها بما قام به الإمام أبو الحسن الندوي في كتاب: “رجال الفكر والدعوة”، حيث قدم الغزالي بصفته مصلحا اجتماعيا، وقد بين المحاضر أن ذلك الجهد –رغم أهميته- لا يكفي لاستقصاء الجهود الإصلاحية لشخصية مثل الغزالي، الذي يرى الكيلاني أنه كان مؤسسا لقدر من العلوم الفلسفية الإسلامية.

كما أشار المحاضر إلى الرأي الآخر الذي لم ير في الغزالي سوى معبر عن الهزيمة الثقافية والفكرية للمسلمين، وأنه كان يعكس تخلف عصره ويرجع صداه لا أكثر، وأن أفكاره كانت متخلفة وينبغي أن ترمى في الشارع، وغير بعيد من هذا الرأي ما ذهب إليه المستشرق زويمر الذي رأى أن سيرة الإمام الغزالي لم تكن سوى خيط من شبكة الأحداث التي عاشها، وهذا الاختلاف والتباين الشديد حول شخصية الغزالي يبرز أهمية دراسته ومحورية فكره وأثره في تاريخ الأمة.

وقد تحدث المحاضر عن الأسس الإصلاحية في فكر الإمام الغزالي، مبرزا تركيزه على محاربة الفساد، والفساد بمفهوم الغزالي –حسب المحاضر- مصطلح عابر للعلوم، فهو يشمل الفساد السياسي والفساد الاجتماعي والفساد الثقافي والفساد التربوي الأخلاقي، وقد حاول الغزالي أن يقدم منهجا إصلاحيا لكل واحد من هذه الجوانب، وقد أرجع الغزالي أسباب الفساد إلى:

-الجهل

حب الدنيا

-ضعف الحافز الديني

-سيادة الفساد

والجهل في نظر الغزالي “يؤدي إلى البؤس، ويعد رأس كل خسران”، ومن أسباب الجهل عنده:

أ-التقليد: وهو قبول الفكرة من دون حجة، والتقليد في نظ الغزالي ليس سبيلا إلى العلم، بل إن التقليد –في نظره- ستار يحجب الحقيقة عن القلب.

ب-الرضى بالعلوم والفلسفات والبعد عن العلوم الدينية: وقد أفنى الغزالي كثيرا من عمره يكتب ويناقش هذه الفكرة، ساعيا لبناء فلسفة إسلامية تنطلق من علوم الإسلام البرهانية والعرفانية، وقد بين في كتابه “المنقذ من الضلال” أن أي شخص يعتمد على العقل دون الاستفادة من نور الوحي هو شخص واهم.

ج-غياب المعرفة بواقع القلب: وقد كان الإمام الغزالي يولي القلب أهمية كبيرة في فلسفته الإصلاحية، إذ هو مناط نظر الله، وبحالته تتأثر باقي تصرفات ومواقف الإنسان، ذلك أن الإنسان يعرف الله من خلال قلبه، ومن لا يعرف قلبه لا يعرف نفسه، ولذلك يجهل كثير من الناس نفوسهم، ويفقدون القدرة على إدارتها لأنهم لم يعرفوا قلوبهم.

أما حب الدنيا فيربط الغزالي أثره بالقلب، مبينا –حسب المحاضر- أنه يحول دون خشوع الإنسان، وبالتالي دون حبه لله ومعرفته به، ذلك بأن حب الدنيا يفضي إلى ارتباط القلب بالجسد، فيحبذ صاحبه الدنيا على الآخرة، وارتباط القلب بالجسد تقييد له عن التحليق في آفاق المعارف القلبية الصافية.

كما بين المحاضر البواعث الباطنية للفساد في نظر الغزالي، وهي: الجموح، الجشع، الفوقية، معرجا على ظواهر الفساد التي رصدها الغزالي في عصره، وهي:

-ضعف الإيمان والاستكانة: وسببها هو الانطباعات غير الحقيقية التي تركتها الفلسفة في النفوس حول الإيمان والقضاء والقدر إلى غير ذلك من قضايا إيمانية.

-قمع التدين: وهو يؤدي إلى أمور غير محمودة، وقد حذر الغزالي من الورع المبالغ فيه، منتقدا بعض المتصوفين الذي يدعون الآخرين إلى التقوى في حين أن قلوبهم خاوية منها.

ومن الأمور المهمة في التفكير الإصلاحي للإمام الغزالي حديثه عن فساد الحكام، وتحليله الاجتماعي والثقافي لأسبابه، وأنه لم يكن راهبا في صومعة، وإنما كان عالما يعيش أحداث عصره وينفعل بها ويؤثر فيها.

وقد كان الغزالي –حسب المحاضر- يرى أن الأمة بعد الخلافة الراشدة أمسك بزمامها رجال مشغولون، ولم يقتصر الغزالي رحمه الله على كشف النقاب عن الفساد وتشخيصه بل حاول أن يقدم رؤية لاجتثاثه والقضاء عليه، من خلال تقديم رؤية لمحاربة الفساد الثقافي المتمثل في (الجهل)، حيث رفض أفكار الباطنية، وكان يستشهد بالقرآن لتعزيز أفكاره، كما بين الحاجة إلى علوم الدنيا والآخرة معا، متحدثا عن العقل ودوره في اتخاذ القرار، والعلاقة بينه وبين النقل، وأوضح أن علوم الدين لا يمكن استقاؤها إلا من خلال القرآن والسنة، وهو بذلك يؤسس لفكرة أهمية اتساق وتناغم النسق الفلسفي والثقافي المؤسس والمنتج.

كما قدم رؤيته لإصلاح الفكر ومنهجية التفكير والاستنباط في كتابه “المستصفى”، ورؤية للإصلاح التربوي والأخلاقي في كتابه “إحياء علوم الدين”، متحدثا فيه عن حب الدنيا وكيفية التخلص منه، كما حذر من البدع والفلسفات الباطنية.

ولم يغفل وضع رؤية لإصلاح النخبة الثقافية والعلمية من خلال حديثه عن خطر العلماء غير العاملين، وتركيزه على محورية العالم وضرورة أن يكون قدوة في سلوكه، والخطر الذي يشكله التنافر بين معارف العالم ومواقفه.