من النادر أن تجد إنسانا في الحياة المعاصرة لم يشعر بمعاناة الملل، وهو ملل من الانشغال، وملل من الفراغ، وملل من تخمة الاشباع، وملل من قسوة الاحتياج، وملل من غياب المعنى وفقدان الغاية، ورغم أن الملل من المفردات الحديثة التي لم تظهر إلا في القرون الأخيرة، ورغم سرعة انتشاره الواسعة على الكوكب الأرضي، إلا أن حجم الدراسات النفسية والاجتماعية المهتمة به ما تزال قليلة مقارنة بمفاهيم أخرى مثل السعادة والاكتئاب، لكن أشد أنواعه هو الملل الوجودي، الذي يشعر فيه الإنسان بغياب المعنى، وتلاشي الجانب المتسامي في تكوينه أمام إلحاح الاحتياجات والشهوات والملذات.
أزمة وجودية
رغم الحديث عن الملل في كتابات فلسفية ودينية قديمة، إلا أن الملل كان حالة طارئة مؤقتة في تلك الحياة، عانى منه أفراد قليلون، لكن الانتشار الواسع للملل، وتحوله إلى ظاهرة، يكاد يرتبط بالثورة الصناعية والحداثة والتنوير، لتراجع مفهوم الإيمان الديني، مقابل وعود الحداثة بإنشاء الفردوس الأرضي، واقتران الامتاع وتحقق الذات بالاستهلاك وإشباع اللذة، كذلك تغير مفاهيم وتوقيتات وساعات العمل والراحة والترفيه في العصر الحديث عنها في السابق.
الخطورة الأكبر للملل في الحياة المعاصرة، كونه عقبة كئود أمام تحقيق السعادة، ومعاناة تكشف عن الفراغ الروحي الذي تزداد رقعته مع انتشار الرقمية، وأحد المسببات الرئيسية للجريمة خاصة بين المراهقين والشباب، يقول “فيكتور هوجو” في رواية البؤساء:”هناك شيء أفظع من جحيم المعاناة، جحيم الملل”، أما الفيلسوف الوجودي ” سورين كيركجارد ” فيعتبر الملل أصل كل الشرور، ويراه الدكتور مصطفى محمود “عقوبة الطبيعة لمن لا يعمل” أما أبشع أنواعه، فهو الملل من الأشياء التي لا يمكن الاستغناء عنها.
وقد ارتبط الملل بسلوكيات سلبية ومخاطر أمنية، مثل حالات الاكتئاب وتعاطي المواد المخدرة وارتكاب الجرائم أو الانتحار، نظرا لتأثيره على الصحة العقلية والنفسية والجسدية للإنسان، ورغم غياب تعريف دقيق للملل، إلا أنه يعبر عن غياب التحفيز والدافعية، إضافة إلى رتابة الحياة وفقدان الرغبة وغياب الاهتمام، وتشير الأبحاث الطبية على الدماغ البشري أن البشر ينجذبون للمحفزات الجديدة، وهذا التحفيز يُطلق هرمون الدوبامين في الجسم، وهو الهرمون المسؤول عن السعادة، وهو ما يحقق الشعور بالاسترخاء والراحة، ومع غياب التحفيز الجديد أو رتابته، فإن إفراز هذا الهرمون يقل، وبالتالي يشعر الانسان بالتوتر.
والملل، وقد يسعى لصناعة تحفيز لنفسه من خلال أفعال قد تكون ضاره بنفسه أو بالمجتمع، فحقيقة الملل أنه ينبع من رغبات لم تتحقق، وتحتاج إلى إشباع، وتشير أبحاث في علم الاجتماع أنه إذا ساد الملل في وقت الفراغ، وكان هناك نقص في القدرات والمهارات الشخصية، وضعف في فرص الترفيه، فإن هناك جريمة متوقعة أو سلوك منحرف.
ايجابيات الملل
ورغم قسوة الملل وخطورته الاجتماعية والنفسية والأمنية، إلا أن البعض يرى فيه جانبا مشرقا، ودافعا للابداع والابتكار، والانتقال من حالة التوتر وعدم الرضا إلى حالة أفضل، فنجد كتاب “قوة الملل: لماذا الملل ضروري لخلق حياة ذات معنى“[1] لـ” مارك هوكينز” Mark A. Hawkins، فإن الملل حالة ضرورية، تدفع الإنسان لنحت معنى لحياته ووجوده ولكنه أشار إلى قضية مهمة وهي أن ملء الملل بالأنشطة والترفيه ليس كافيا للتخلص من الملل، كما أن ملء الملل بالأشياء الخاطئة قد يُنشيء مللا أكثر إيلاما، من الملل الناجم عن الفراغ، كما أن الابتعاد عن الملل وتجنبه يمنع من خلق معنى للحياة، فالملل قد يكون مساحة متاحة للإبداع وتطوير الذات، وهذ يفرض أن يكون هذا الملل واعيا وإيجابيا، فهو ينمي الملكات الابداعية والقدرة على حل المشكلات.
لذلك تحدث الكتاب عن “الملل الواعي” وهي أن يكون العقل حاضرا بشكل كامل في لحظات الملل، ويسعى لاستثمارها كفرصة للتأمل الذتي واليقظة الروحية، وهذا يتطلب إدماج للملل الواعي في الحياة اليومية للشخص، وأن يقتنص الإنسان لحظات السكون للابتعاد عن التشتت، وتنمية قدراته الإنسانية.
وأشار الكتاب إلى مسألة اجتماعية إنسانية مهمة، ففي بعض الحالات فإن الإنسان في سعيه للهروب من الملل، قد يلجأ إلى المبدأ النفعي في علاقاته مع الآخرين، فيستخدمهم كأدوات للهروب من الملل، ثم تتوقف علاقته بهم مع انتهاء حالة الملل، ولا شك أن ذلك مٌضر بالعلاقات الإنسانية، ومن الضروري أن يكون التخلص من الملل وسيلة لبناء علاقات صحية ونافعة مع الآخرين.
أما كتاب “اختراق الملل“[2] لـ” مارلو لاين” فيتحدث عن فوائد الملل التي لا تحظى بالتقدير، والتي من الممكن أن تحرر الإنسان المعاصر من الضغوط، وتطلق العنان لإبداعه، فقد يكون الملل محفزا للإنسان للتفكير خارج الأطر الضاغطة التي تحول بينه وبين الإبداع، أو كما يقولون “التفكير خارج الصندوق”، وهذا يفرض على الإنسان الابتعاد عن التسويف والمماطلة في إنجاز أعماله وأهدافه، والأهم أن يدرب جزءا من عقله وقدرته عى التفكير الابداعي، مع رفع مهاراته باستمرار، لكن الكتاب أشار إلى ضرورة إشعال عقلية النمو، أي وجود طاقة وحافز دائم ومتجدد لتنمية الذات والارتقاء بها.
ويلفت الكتاب الانتباه إلى أن الملل هو أشبه بجرس إنذار بوجود انخفاض في قدرات العمل، وضعف في الحافز، وأن الشخص بحاجة إلى شيء أفضل ومكان أفضل من المكان القابع فيه، ومن هنا يكون الملل وجها لضعف أو غياب الحافز، لكن الوجه الاخر للملل هو أنه في ذاته حافز ومحرض على التغير وتحسين القدرات والارتقاء بالمكانة وتغيير المكان الذي لم يعد يسع القدرات النامية المتعاظمة.
أما كتاب “لماذا الملل مهم؟“[3] لـ”كيفن هود غاري” Kevin Hood Gary، فيؤكد “غاري” أننا نتعامل مع الملل بأحد طريقين، إما بتجنبه من خلال تسليه أنفسنا باستمرار، وفي حال الفشل فإننا نتقبل الملل ونتعامل معه كجزء لا مفر من حياتنا، لكن الكتاب يطرح الطريق الثالث للتعامل مع الملل من خلال العثور على أنشطة تحول الملل إلى حالة ذهنية إنتاجية، كما تحدث عن “الملل الوجودي” أو حالة فقدان المعني، فهذا القلق لا يبحث عن المتعة أو الإنجاز، ولكنه يبحث عن التأمل العميق والمعنى، فالملل الوجودي هو الأكثر إرهاقا للروح.
وينبه الكتاب أن أحد وجوه الملل أنه مشكلة أخلاقية، لأنه نابع من ضعفٍ في الروح والشخصية معا ودليل على ضعف الإرادة وتواضع القدرات، وأن المخرج من هذا الملل قد يأتي من التحلي بالفضائل والقوة الأخلاقية، وتعليم الناس كيفية استغلال أوقات فراغهم، فالوجه الآخر للملل هو إساءة استغلال الفراغ، ومن ثم يصبح العلاج كامنا في مواجهة السبب، أي إحسان استخدام وقت الفراغ، وتحويله لقوة إبداعية وإنتاجية.
والحقيقة أن الفراغ ليس عبئا يجب على الإنسان التخلص منه، أو تجنب الاشتباك معه، فهو طاقة للإبداع، والحضارات والابداعات لم تُشيد إلا مع وجود الفراغ، فالانشغال الكثيف لا يمنح الفرصة للبناء والابداع والابتكار، فحيز العقل والروح يكونان ممتلئان ولا يسمحان بالمزيد من الأعباء والأحمال.
الملل في الثقافة الإسلامية
الرؤية الإسلامية تعترف بوجود الملل والسأم، لكنها ترفض الاستسلام له، ففي نوافل العبادات إذا شعر فيها المسلم بملل فلا بد أن يتوقف إذا أحس بالفتور والملل وفقدان الدافع، ففي الحديث الذي رواه “ابن حبان” قال ﷺ :” لِيُصَلِّ أحدُكم نشاطَه فإذا كسِل أو فتَرَ فليقعُدْ”، والملل في الجانب العبادي يسمى “الفتور”، وكما يؤكد الإمام ابن القيم، فإن هذا الملل قد يكون أمر طبيعي، شريطة ألا يترك الفروض الدينية، وألا يقع في المنهيات الشرعية، فيقول:” فَتَخَلُّلُ الْفَتَرَاتِ لِلسَّالِكِينَ، أَمْرٌ لَازِمٌ، لَا بُدَّ مِنْهُ: فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى مُقَارَبَةٍ وَتَسْدِيدٍ، وَلَمْ تُخْرِجْهُ مِنْ فَرْضٍ، وَلَمْ تُدْخِلْهُ فِي مُحَرَّمٍ: رَجَا لَهُ أَنْ يَعُودَ خَيْرًا مِمَّا كَانَ “.
وهو ما يؤكد الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد، في قوله ﷺ :”لِكُلِّ عملٍ شِرَّةٌ[4]، ولِكُلِّ شرَّةٍ فَترةٌ، فمن كانَت فَترتُهُ إلى سنَّتي، فَقد أفلحَ، ومَن كانت إلى غيرِ ذلِكَ فقد هلَكَ”[5] وبالتالي يجب أن يكون للملل في الجانب العبادي حدودا دنيا لا ينزل عنها، وإلا وقع المسلم في المحظورات.
الأمر الثاني أن الملل حالة نفسية صعبة يجب أن يبحث لها المسلم عن مخرج، ومن ذلك الترويح عن النفس بما هو حلال ومباح، ومما نسب إلى علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- : ” روحوا القلوب ساعة فإنها إذا أكرهت عميت.