استيقظ النبي ﷺ ذات ليلة وجعل يصلي ويبكى واشتد بكاؤه وتواصل حتى جاء بلال لينبهه إلى صلاة الفجر، فسأله: لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبدا شكورا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } (آل عمران: 190) [1] .
رأت البشرية أناسا يحملون قلوبا رقيقة وعيونا دامعة، ورأت من يحمل عقلا حاد الذكاء يغوص في أعماق الفكرة ويحلل القول ويستخرج منه مقصد صاحبه وإن غاب عن ألوف السامعين وذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء، لكنها لم تر من يجمع بينهما إلا الأنبياء ومن سار على دربهم.
بعد البكاء الشديد المتواصل يحذر النبي ﷺ من الغفلة عندما نقرأ هذه الآيات، والحقيقة أن التدبر مطلوب عند قراءة أي موضع من القرآن {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
وقفة مع آيات الفكر والعقل
لنقف قليلا مع هذه الآيات التي تحرك العقل نحو الفكر والنظر في ملكوت الله سبحانه وتعالى، انظروا إلى السماء كم هي مرتفعة ومتسعة من الذي يمسكها؟؟ { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [فاطر: 41].
والأرض كم هي منبسطة وفيها السهل والجبل والوادي والبحار والأنهار والينابيع، وكم فيها من خيرات أودعها الله تعالى من أرض قابلة للزراعة وأخرى تحتوي في باطنها على معادن ونفط وأرزاق لا يعلم عنها الإنسان شيئا يدلنا الله تعالى عليها وفق حكمته ورحمته ولطفه بخلقه، كم في السماء والأرض من مخلوقات وكائنات نعلم بعضها ونجهل أكثرها مع كل هذا التقدم العلمي الهائل، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام: 59]
{وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} تعاقب الليل والنهار يذهب هذا بهموم وأحزان ويأتي ذلك بفرج ويسر، يطول هذا ويقصر ذاك يأتي النور وتذهب الظلمة والحر والبرد، في كل ذلك آيات بينات على وجود الإله الخالق المدبر قيوم السموات والأرض، هذه الآيات لا يفهمها إلا أولو الألباب الذين يصفهم الحق تعالى بأنهم:” يتفكرون في خلق السموات والأرض”.
إذا تعطل الفكر وحلت الغفلة كان الوعيد الشديد من النبي ﷺ:” ويل لمن قرأها ولم يتفكر” الويل تهديد بعقاب شديد أليم وقد جاء في كتاب الله تعالى عقوبة على جرائم منكرة منها {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22]،فكيف تكون عناية النبي ﷺ بتكوين الإنسان المفكر الذي ينجو من الويل بتفكره الذي يؤدي إلى طاعة الله تعالى؟؟
أحد مهام النبي ﷺ، بناء العقل المفكر الراشد القادر على البحث عن الصواب والوصول إلى الحقيقة أو الاقتراب منها، وقد سلك النبي ﷺ في ذلك عدة مسالك، منها:
إتاحة الحرية للمجتهدين
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ” (سنن النسائي) ،قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم:”َهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَكَّلَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ إِلَى اجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ وَجَعَلَ لَهُمُ الْأَجْرَ عَلَى الِاجْتِهَادِ”[2] الذي أصاب الحق، له أجران أجر الاجتهاد وأجر الحكم الصواب ،أما المجتهد الذي أخطأ فله أجر واحد هو أجر الاجتهاد، هذا المخطأ يحصل على أجر لأنه بذل جهده في البحث عن الحق وبذل هذا الجهد عبادة له أجرها عند الله تعالى، ووفر النبي – ﷺ – للمجتهد بذلك حماية فلا يلحقه لوم من الناس، وأرشدنا إلى أنه لا يأثم.
وهذا الأجر الممنوح والإثم المرفوع ليس لكل أحد؛ بل لمن يملك أدوات الاجتهاد، وليس في كل موضوع؛ فهناك مسائل يسميها العلماء أركان الشريعة وأمهات الأحكام فيها نصوص قطعية وأحكام ثابتة يدخل الاجتهاد في فهمها وتيسير إدراك الناس لمقاصد الشرع منها، أما من يقحم نفسه للحكم في مسائل تحتاج إلى علم بالنصوص الشرعية وكيفية فهمها دون أن يكون عنده من ذلك شيء فإنه يهلك نفسه ويضر بمن يسير خلفه، ونحب أن نؤكد أن المفكر المسلم ساعة أن تلقى ما يتعلق بعالم الغيب من الوحي، وأشغل فكره بعالم الشهادة من الكون والبيئة والبشر، شهدت البشرية طفرات في العلم غير مسبوقة.
نحو القمة
الحياة مليئة بالأمور التافهة التي تستغرق عمر الإنسان وتمنعه من عبادة الله تعالى وعمارة الكون وتستنزف طاقاته،لذلك قال النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا[3]»[4] هذه خطوة في غاية الأهمية نحو تكوين عقل واع يدرك شرف نفسه ووقته ومهمته، فلا يضيع عمره في تتبع الأحاديث التافهة التي تثير الجدل ولا يترتب عليها علم أو خبرة حياتية أو دينية، وللأسف يدخل البعض في هذه المستنقعات ولا يخرجون منها إلا بضيق في الصدور وربما اشتبكوا في ردود وردود على الردود حتى تمر الأوقات الطويلة، لو ذكروا ربهم أو فكروا فيما يهم دنياهم وأخراهم لكان خيرا لهم.
العلم أولا
يقوم هذا الدين على العلم، أول كلمات الوحي الذي أخرج الله تعالى به الناس من الظلمات إلى النور كانت:” اقرأ”، وهذا العلم كما هو مدون في الكتب كثير منه موجود في صدور الناس، يحتاج فقط لمن يسعى له ويجِدّ في طلبه، ويكفينا في الحث على طلب العلم قول الله تعالى لنبيه ﷺ وهو الذي شرفه ورفعه فوق الخلق {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } [طه: 114].
عندما نبني حياتنا على العلم ونزن الناس بميزان العلم ونتخذ قرارتنا بعد الدراسة والعلم نكون بذلك قد أدينا عبادة من العبادات، عندما نتعلم ونطبق ما تعلمناه في حياتنا ،نستفيد اقتراب قراراتنا من الصواب وأداء عباداتنا بفهم وحب وشوق وبقاء آثارها على قلوبنا وعقولنا، يدلنا العلم كيف نصحح من مسار حياتنا وعلاقاتنا مع أنفسنا وأسرنا والمجتمع والكون من حولنا.
مثيروا الغبار
منذ أن جاء الأنبياء ولهم أعداؤهم الذين يظهرون في ثياب الباحثين عن الحقيقة فيطلقون أسئلة يظهر منها أنهم يفكرون ولا شيء يكشف كذب هؤلاء وبعدهم عن الحق أكثر من المعرفة الصحيحة، فإذا كانت العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة فإن المعرفة الصحيحة تكشف عن الخطأ والضلال، والحق يملك قوته من الله تعالى وكلما ازداد انتشار الإسلام وتعلق الناس به كلما نشطت هذه الرياح الخبيثة التي لا تترك بابا من أبواب العقائد أو العبادات أو المعاملات حتى تطرح فيها عشرات الأسئلة أمام أناس لا يملكون أدنى قدر من المعرفة الدينية؛ فإما أن يتشككوا ويتوجهوا بأسألتهم لأهل الذكر أو يكتموا هذه الشكوك حتى تسمم حياتهم وتفسد عليهم دينهم.
كان النبي ﷺ يحصن أصحابه بالمعارف اللازمة لمواجهة هذه الموجات من التضليل، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ ” وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولَ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ ” (صحيح مسلم).
الاستفادة من الخبرات السابقة
يتعلم الإنسان من تجاربه وقد دلنا النبي – ﷺ – على أهمية ذلك لسلامتنا في الدين والدنيا فقال ﷺ : “لاَ يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ” (متفق عليه) فالمؤمن يستفيد من أخطاء الآخرين كما يستفيد من أخطاءه، فلا يخدع من شخص واحد مرتين ولا يخدع بنفس الخدعة مرتين، إنه يستفيد من العلم في حساب المكسب والخسارة ووزن من يدعون المحبة وهم ذئاب شرسة ومن يسوقون للوهم تلبية لمطامع لا يمكن أن تتحقق بحساب السوق.
هذا الحديث الذي صدرنا به هذه السطور يكشف عن طبيعة المؤمن،إنه صاحب قلب رقيق يبكى من خشية الله والشوق إلى لقائه سبحانه وصاحب عقل دقيق يتفكر في ملكوت السموات والأرض وفي مجريات الأحداث من حوله لا يكتفي، بالنظر إلى ظواهر الأمور فكم من ظواهر خداعة.
يتعلم المسلم من المنهج النبوي كيف يؤسس لعقل واع يعبد ربه على بصيره ويعمر الكون وفق مراده سبحانه وينظر في أخطائه فيتلافاها.