“النزعة الإنسانية في شخصانية محمد عزيز الحبابي” كتاب صدر مؤخرا من تأليف الباحث إبراهيم مجيديلة، وهو كتاب تسلّط فصوله الثمانية الموزعة على أربعة أقسام الضوء على فكر الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي عمومًا، وفلسفته الشخصانية خصوصًا، مقدّمًا إياه أول مرة بوصفه أحد رموز النبوغ الفلسفي الإنساني في الفضاءين الإسلامي والعربي، ومجدِّدًا استأنف القولَ الفلسفي ومسيرةَ من سبقوه فيه في المغرب.
كتاب “النزعة الإنسانية في شخصانية محمد عزيز الحبابي” صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة “أطروحات الدكتوراه، ويقع الكتاب في 416 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
مؤلف كتاب “النزعة الإنسانية في شخصانية محمد عزيز الحبابي” هو الكاتب إبراهيم مجيديلة وهو باحث مغربي حاصل على الدكتوراه من جامعة ابن طفيل في القنيطرة في المغرب (2019). أستاذ الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي، وباحث متخصص في الفكر العربي المعاصر والفلسفة المعاصرة. نشر العديد من الدراسات والمقالات في مجلات محكّمة، منها مجلة تبين، ومجلة يتفكرون.
من هو الفيلسوف محمد عزيز الحبابي؟
محمد عزيز الحبابي (1922-1993) فيلسوف مغربي بارز، يعد من رواد الفلسفة الشخصانية في العالم العربي. قام بتطوير مفهوم “الشخصانية الإسلامية” التي تمثل رؤية تجمع بين الفلسفة الوجودية والقيم الإسلامية، مما يبرز أهمية الفردية والحرية الإنسانية في إطار المجتمع. اشتهر الحبابي بأفكاره التي تسعى إلى تحقيق توازن بين التقدم الفردي والاعتراف بأهمية الجماعة، وقد ألّف عدة كتب منها “الشخصانية الإسلامية” و”من الكائن إلى الشخص”. كانت فلسفته تهدف إلى مواجهة التحديات الاجتماعية والثقافية التي تواجه الإنسان العربي الحديث.
الفلسفة كتقليد مؤسسي أكاديمي
يهدف كتاب “النزعة الإنسانية في شخصانية محمد عزيز الحبابي” إلى الاعتراف بالفيلسوف الحبابي بوصفه صاحبَ مشروعٍ فكري وتآليف جعلت الفلسفة تقليدًا مؤسسيًّا وأكاديميًّا قائمًا بذاته في الجامعة المغربية، وفي اليقظة الفلسفية المغربية خاصة، والعربية المعاصرة عامة. وقد أَشبهت العودةُ إلى مشروع الحبابي في هذا السِّفر حوارًا متعدد الأبعاد والمقاصد حول ما فكّر وأعمل نظره وشغل عقله ووجدانه به.
وكان المقصد الأهم في هذا إعادة قراءة نصوصه الفلسفية منظورًا إليها من زاوية إشكاليةِ الأنسنة أو النزعة الإنسانية، وهو مقصد يصدر عن دعوى تفيد أن شخصانية Personalism الحبابي الواقعية والإسلامية والغدية تستدمج داخلها عناصر تجعلها نزعة إنسانية أو قادرة على إعادة بناء هذه النزعة وفق رؤية مغايرة، وأنها بمنزلة الإطار النظري الذي تُحَلّ في إطاره إشكاليات كبرى، كإشكالية مركزية الإنسان في التفكير المنسوب إلى النزعة الإنسانية أو الذي ينتقدها، والتي تولّد أسئلة في مجالات متعددة، كالميتافيزيقا (العلاقة بين الإنسان والإله) والأنطولوجيا (ما الكائن؟ وكيف يجري الانتقال من الكائن إلى الشخص، ومن الشخص إلى الإنسان؟) والإبستيمولوجيا (هل يمكن أن يهمش الإلهَ اعتبارُ الإنسان مركزًا للمعرفة ومرجعًا للأخلاق؟) والأكسيولوجيا (أنسنة القيم التي تحكم الفكر والسلوك والعمل) والاقتصاد والسياسة والثقافة.
السؤال عن مركزية الإنسان
هل السؤال عن مركزية الإنسان يستتبع التفكير في حضور الدين في شخصانية الحبابي وتأثيره في تصوره للنزعة الإنسانية؟ الجواب أن البعد الديني لفلسفة الحبابي لا يُنكَر، فهو ما فتئ يعود إلى الأفكار الدينية ليفلسفها ويجعل منها منظارًا للحكم، ما يفتح الباب ربما أمام أسئلة أخرى، هي: هل تندرج فلسفة الحبابي ضمن الفلسفة الدينية؟ وهل شخصانية الحبابي الإسلامية فلسفة أم علم كلام؟ وما المرتكزات التي استمدها الحبابي من الدين في بناء رؤيته للإنسان؟ وكيف أثّرت تلك المرتكزات في نزعته الإنسانية؟
تبدو شخصانية الحبابي فلسفةً في قيم البشر وأنسنتها في كثير من القضايا، خصوصًا المرتبطة بسيادة التقنية واقتصاد السوق التي أدخلت الإنسانية في بؤرة أزمات مسّت القيم الروحية والأخلاقية، فمارس نقدًا قِيَميًّا اعتبره بعضهم نقدًا للحداثة، وبشّر بقيم النزعة الإنسانية لمواجهة تلك الأزمات، طارحًا – انطلاقًا من أسئلة الأنطولوجيا الثلاثة السالفة الذكر – سؤالًا فلسفيًّا أنثروبولوجيًّا هو “من يكون الإنسان؟”. إذًا، يضعنا الحبابي في كتاباته أمام عمليتين مركزيتين، هما: التشخصن والتأنسن.
تتعلق النزعة الإنسانية عند الحبابي بأنسنة العالم والعلاقات الإنسانية وفضاءات الفعل الإنساني في عالم يسوده الخوف بسبب الحروب والنزاعات والعنف والإرهاب، ولكن هل تستطيع النزعة الإنسانية ذلك؟
إن في الواقع الإنساني عوامل مضادة للأنسنة تعمل باعتبارها كوابح لأنسنة الكائن البشري، مثل الدعوات التي تعلن موت الإنسان بعدما أعلنت موت الإله، ما يعطي انطباعًا أن النزعة الإنسانية مجرد تزييف لحقيقة الواقع، أو سردية أعلنت الحداثة نهايتها. ولبناء المفاهيم التي شيّد عليها الحبابي نزعته الإنسانية، يسلك الكتاب أولًا مسارًا يربط المفاهيم بأصولها اللغوية والفلسفية والتاريخية، ثم مسارًا يحدد دلالتها ووظيفتها وعلاقاتها البينية ضمن نسق الحبابي الفلسفي الشخصاني.
ما يعني أنه يؤوّل المفاهيم ضمن سياق فلسفي يحلّل الإشكالية العامة للبحث، ويتيح التدخل الفاعل في النصوص وإعادة بنائها وفق مؤهلاتها للأنسنة. وهو لا يبغي إعادة كتابة تاريخ الشخصانية، بل قراءة شخصانية الحبابي تأويليًّا، واستجلاء الإنسية الجديدة في فلسفتها، من دون إغفال الوقوف عند تقاطعاتها مع باقي الفلسفات المعاصرة، بغية تحقيق أحسن فهم لها.
الدراسات السابقة
إن الدراسات التي اهتمت برصد مشروع الحبابي الفلسفي نادرة، والمتوافر منها لم يبلور رؤية شاملة لأسس فلسفته، فمثلًا أطروحة دكتوراه فاضل سيداروس بعنوان “الأسس الأنثروبولوجية – الفلسفية في الشخصانية الواقعية: دراسة عن محمد عزيز الحبابي” (جامعة القديس يوسف، 1971) تنبّهت مبكرًا إلى عطاء الحبابي الفلسفي المتميز، لكنها لم تقدّم رؤية شاملة لفكره، وجاءت تجزيئية واختزالية (كحال معظم الدراسات حول شخصانية الحبابي، سواء التي أنصفته أو التي انتقدته أو التي قيّمته)
كما اهتمّت بالشخصانية الواقعية ومقارنتها بغيرها من المذاهب الشخصانية أكثر من الاهتمام بأسس الحبابي الأنثروبولوجية الفلسفية، وأقصى ما وصلت إليه هو إعادة كتابة كتابَيه: من الكائن إلى الشخص والشخصانية الإسلامية، وإعادة بناء مضمونهما كرونولوجيًّا تبعًا لتاريخ صدورهما، بخلاف ما نبتغي الوصول إليه في كتابنا النزعة الإنسانية، وهو التأويل الإنسي لشخصانية الحبابي، والرؤية الكلية لحضور الإنسان في العالم وفاعليته فيه.
بيد أن ما سلف لا يعدم وجود دراسات كوّنت صورة مكتملة لمشروع الحبابي الفلسفي، في مقدمها كتاب يوسف بن عدي محمد عزيز الحبابي وتأسيس الفلسفة الشخصانية الواقعي، الذي يقدّم صورة عامة لفلسفة الحبابي ومنطلقاتها ومرتكزاتها وموقعها في سياق الفكر العربي المعاصر، لكنه بقي في مستوى الوصف ولم يتجاوزه إلى التحليل والاستشكال، ولم يعالج إشكالية محددة من إشكاليات الحبابي الكثيرة. ونجد هذا حاضرًا أيضًا في كتاب المفكر المغربي مصطفى القباج محمد عزيز الحبابي: الفكر المتحرك، من الشخصانية الواقعية إلى الشخصانية الإسلامية إلى الغدية، الذي اعتبر فكر الحبابي متحركًا، والغدية أفقًا يقصده ذلك الفكر، وهو منحى جيد في قراءة الحبابي وتحليله، إلا أن الغدية كانت محطّة مؤقتة في فكر الحبابي، الذي يجعل من النزعة الإنسانية الأعمّ أفقًا له.
أقسام وفصول كتاب “النزعة الإنسانية في شخصانية محمد عزيز الحبابي”
يشتمل كتاب “النزعة الإنسانية في شخصانية محمد عزيز الحبابي” على ثمانية فصول تتوزع على أربعة أقسام .
يأتي القسم الأول “النزعة الإنسانية والشخصانية”، بصفته إطارًا نظريًّا عامًّا للقضايا المعرفية الكبرى والإشكالات الأساسية التي ستقود التفكير التأويلي في باقي الأقسام.
في الفصل الأول من كتاب “النزعة الإنسانية في شخصانية محمد عزيز الحبابي” ورد تعريف الشخصانية بما يميزها من باقي الفلسفات، ولا يأتي رصد نشأتها وعوامل تطورها من أجل التأريخ المفصل لأعمال فلاسفتها، بل لتبيان مساهمة الحبابي فيها؛ فهو لم يكن مجرد مقلّد أعمى أو متبع بلا رؤية، بل كان مبدعًا ومجدِّدًا ومساهمًا في إثراء الفلسفة الشخصانية من جهة، وفي اليقظة الفلسفية العربية من جهة أخرى.
في حين خُصّص الفصل الثاني من كتاب “النزعة الإنسانية في شخصانية محمد عزيز الحبابي” للنظر في نشأة الفلسفة الشخصانية وماهيتها ومصادرها وأصولها ورهاناتها المعرفية والأخلاقية والعملية التي تميّزها من الفلسفات الأخرى. وكان لنقد المذاهب الشخصانية المتنوعة في الفصل دور في تقريب عناصر الأصالة وتبيان المرجعيات الفلسفية والدينية والغدية في شخصانية الحبابي إلى القرّاء.
يستكمل القسم الثاني “الأنثروبولوجيا الفلسفية الشخصانية: من ظهور الكائن إلى تأنسن الشخص” النظر في النزعة الإنسانية ويلزمها بالجواب عن سؤال: ما الإنسان؟ واعتبر القسم أن ما يربط الأنطولوجيا والأنثروبولوجيا هو التأويل الذي يساهم أيضًا في تأسيس أنثروبولوجيا شخصانية.
يكشف الفصل الثالث من كتاب “النزعة الإنسانية في شخصانية محمد عزيز الحبابي” منطلقات أنثروبولوجيةِ الحبابي الشخصانية من مصدرين: الفلسفة الأخلاقية، ومنظومة القيم الإسلامية المستنبطة من مرجعَي الكتاب والسنة، اللذين استطاع في ضوئهما حلّ كثير من إشكالات الروح والجسد، وعلاقة الأنا بالآخرين. ويقرر الفصل أن التوصل إلى جواب السؤال الأساسي “ما الإنسان؟” يستدعي الجواب عن سؤال سابق عليه هو “ما الكائن؟”.
ثم يتتبع الفصل الرابع دلالات مفهوم الشخص وتحولاته عند الحبابي بين لحظة الشخصانية الواقعية ولحظة الشخصانية الإسلامية، فيقاربه في اللحظة الأولى من خلال عملية التشخصن، وفي اللحظة الثانية من خلال مبدأ الشهادة.
أما القسم الثالث لكتاب “النزعة الإنسانية في شخصانية محمد عزيز الحبابي” فجاء بعنوان “النزعة الإنسانية الجديدة: جدلية المرتكزات والمركزية” فخُصِّص للبحث عن مرتكزات نزعة الحبابي الإنسانية، تمييزًا لها من غيرها من النزعات الإنسانية العلمانية والملحدة، وهي مرتكزات ترجع إلى الفلسفة والدين.
يتحدث الفصل الخامس من كتاب “النزعة الإنسانية في شخصانية محمد عزيز الحبابي” عن الإيمان والعقلانية والتحرر بوصفها ركائز نظرة الحبابي إلى الإنسان وموقعه في العالم وعلاقته بالله، وهي نظرة خُصّص لها الفصل التالي بوصفها القضية المركزية في النزعة الإنسانية.
يقارب الفصل السادس مركزية الإنسان بمقارنةٍ بين نزعتَين: نزعة لوك فيري Luc Ferry الإنسانية العلمانية، ونزعة الحبابي الإنسانية الإيمانية.
والقسم الأخير من كتاب “النزعة الإنسانية في شخصانية محمد عزيز الحبابي” هو القسم الرابع بعنوان “النزعة الإنسانية: مضاداتها وفعالياتها”، فيشخّص مضادات الأنسنة ويفحصها في فضاءات حيوية تمسّ الإنسان في وجوده وتتحقق فيها عملية الأنسنة أو تفشل، كالاقتصاد والسياسة والثقافة، متوقفًا عند بعض الأفعال المساهمة في أنسنة الكائن البشري بشروط.
خُصص الفصل السابع من كتاب “النزعة الإنسانية في شخصانية محمد عزيز الحبابي” لمقاربة عملية الأنسنة في مجالَي الاقتصاد والسياسة الأكثر تأثيرًا في الكائن الإنساني، وكذا لتحليل إشكالات الملكية والعمل والدولة والديمقراطية والتقنية، انطلاقًا من قناعة عامة مفادها أن أنسنة الكائن البشري لا يمكن أن تكون من دون أنسنة الاقتصاد والسياسة.
أما الفصل الثامن، وهو الأخير، من كتاب “النزعة الإنسانية في شخصانية محمد عزيز الحبابي” فقد أُفرد للحديث عن وجوب أنسنة الثقافة والحضارة بحمايتهما من جميع المضادات، لأن الإنسان كائن ثقافيّ حضاريّ منتِج للثقافة والحضارة، ونتاج لهما في الوقت نفسه. ويتناول الفصل بالتحليل والنقد كلًّا من العنصرية والاستعمار والاستغلال، منفتحًا على فاعليتين يراهما مؤنسِنتين هما: الفن والحب، وتُنقَذ بموجبهما الثقافة والحضارة من جميع العناصر التي تحول دون أنسنة الكائن البشري وواقعه.
كتاب “النزعة الإنسانية في شخصانية محمد عزيز الحبابي” فريد في تناوله الفلسفة الشخصانية ذات الشخصية المتميزة لدى الحبابي، سابق في موضوعاته، عميق في تحليلاته ونقده البنّاء، منفتح على قضايا متعددة تخص الإنسان، وتتداخل فيها الفلسفة بالدين، والتاريخ بالواقع، والاقتصاد بالسياسة، والأنثروبولوجيا بالأنطولوجيا، ولذلك استحق أن يتبوّأ مركزًا سامقًا في مكتبتنا العربية.