من المواضيع الأساسية في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، هي العلاقة بين النفس، والروح، والجسد. وقد تناقش العلماء والفلاسفة المسلمون عبر العصور هذه المسألة من زوايا مختلفة، محاولين الوصول إلى تعريف دقيق لماهية الإنسان. في هذا المقال، نستعرض آراء المتكلمين والفلاسفة، مع التركيز على ابن حزم الأندلسي وابن سينا، لفهم أعمق لهذه العلاقة المعقدة.
التعريف المترادف بين الروح والنفس
إن الترادف من جهة والتمايز من جهة أخرى بين مصطلحي الروح والنفس الذي قد نجده عند علماء التزكية والسلوك، ربما سيعرف نوعا من التطابق والاختلاف النسبي عما ذهب إليه بعض الفقهاء والمتكلمين. نرى أن ابن حزم الأندلسي باعتباره فقيها ومتكلما في نفس الوقت يرادف بين النفس والروح مع إيضاح تعريف فلسفي وربما مادي لمعنى الروح أو النفس. فيقول بأنه قد “ذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالميعاد إلى أن النفس جسم طويل عريض وعميق، ذات مكان عاقلة مميزة مصرفة للجسد… وبهذا نقول: النفس والروح اسمان مترادفان لمسمى واحد ومعناهما واحد”[1].
بالرغم من هذا الترادف الاصطلاحي عنده إلا أنه حينما يريد تعريف النفس يعرضها بالإضافة أو بالوصف الذي تتميز به نفس دون نفس. كما يقول: “هناك نفس خبيثة وأخرى طيبة، ونفس ذات شجاعة وأخرى ذات خبث، وأخرى عالمة وأخرى جاهلة، فصح أن لكل حي نفس غير نفس غيره…”[2].
هذا الوصف قد يقترب من تعريف علماء تزكية النفس في جانبها الوظيفي والسلوكي بصفة خاصة وليس في الوصف التجريدي الذي يطابق الروح كما سبق وبينّا.
النفس والروح بين التفسير الفلسفي والنص الشرعي
يؤكد ابن حزم أن النفس “هي الروح نفسها”. برهان ذلك أنه قد قام البرهان كما ذكرنا بأن هاهنا شيئا مدبرا للجسد الحي الحساس المخاطب. ولم يقم برهان قط بأنهما شيئان. فكان من زعم بأن الروح غير النفس قد زعم بأنهما شيئان. وقال ما لا برهان له بصحته وهذا باطل. قال تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111]، فمن لا برهان له فليس صادقا. فصح أن النفس والروح اسمان لشيء واحد”.
ثم يستشهد بالنصوص الشرعية لتأكيد مذهبه الاصطلاحي. فيقول: “عن أبي هريرة… أن رسول الله ﷺ قال لبلال: “اكلأ لنا الليل“، فغلبت بلالا عيناه، فلم يستيقظ النبي ﷺ ولا بلال، ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس. فكان رسول الله ﷺ أولهم استيقاظا. فقال: يا بلال، فقال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، بأبي أنت وأمي يا رسول الله” وذكر الحديث[3]. وقال الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) إلى قوله (أَجَلٍ مُسَمًّى) [الزمر: 42]
حدثني أبو قتادة الأنصاري في حديث ذكر فيه نوم رسول الله ﷺ حتى طلعت الشمس، أن رسول الله ﷺ قال: “ألا إنا نحمد الله أنا لم نكن في شيء من أمر الدنيا شغلنا عن صلاتنا، ولكن أرواحنا كانت بيد الله عز وجل، فأرسلها أنى شاء”[4]. فعبر رسول الله ﷺ بالأنفس والأرواح عن شيء واحد. ولا يثبت عنه عليه السلام في هذا الباب خلاف لهذا أصلا[5].
متى يكون الإنسان إنسانا بحسب عناصره؟
كما يطرح ابن حزم مرادفا اصطلاحيا آخر قد يعتبر إشكالا معرفيا وواقعيا، وهو هل وصف الإنسان ينطبق على الروح أو النفس حسب الترادف أم على الجسد، أم هما معا. وفي هذا يقول: “اختلف الناس في هذا الاسم – أي الإنسان – على ما يقع. فذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع على الجسد دون النفس. وهو قول أبي الهذيل العلاف. وذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع على النفس دون الجسد، وهو قول إبراهيم النظام. وذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع عليهما معا كالبلق الذي لا يقع إلا على السواد والبياض معا.
احتجت الطائفة التي ذكرنا بقول الله عز وجل: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ [الرحمن: 14]. وبقول الله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ [الطارق: 5-7]، وبقوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (٣٧) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ﴾ [القيامة: 36-38]، وبآيات أخرى غير هذه. وهذه بلا شك صفة للجسد لا صفة للنفس، لأن الروح إنما تنفخ بعد تمام خلق الإنسان الذي هو الجسد.
واحتجت الطائفة الأخرى بقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}. وهذا بلا خلاف صفة للنفس لا صفة الجسد، لأن الجسد موات، والفعالة هي النفس وهي المميزة الحية الحاملة لهذه الأخلاق وغيرها.
كلا هذين الاحتجاجين حق وليس أحدهما أولى بالقول من الآخر، ولا يجوز أن يعارض أحدهما بالآخر، لأن كليهما من عند الله عز وجل، وما كان من عند الله فليس بمختلف. قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]. فإذ كل هذه الآيات حق فقد ثبت أن للإنسان اسماً يقع على النفس دون الجسد، ويقع أيضا على الجسد دون النفس، ويقع أيضا على كليهما مجتمعين. فنقول في حي: هذا الإنسان وهو مشتمل على جسد وروح. ونقول للميت هذا إنسان وهو جسد لا نفس فيه. ونقول إن الإنسان يعذب قبل يوم القيامة وينعم، ويعني النفس دون الجسد[4].
وأما من قال إنه لا يقع إلا على النفس والجسد معا فخطأ يبطله الذي ذكرنا من النصوص التي فيها وقوع اسم الإنسان على الجسد دون النفس، وعلى النفس دون الجسد”. هذا المبحث عند ابن حزم يمثل بعدا آخر في تعريف النفس كما قلنا، ألا وهو اعتبار مصطلح الإنسان ككل مرادفا لمصطلح النفس. وبهذا الاعتبار فقد تدخل دراسة الجسد ووظائفه في دائرة البحث النفسي، لأن الجانب الجسدي قد انطبق عليه مصطلح الإنسان، والذي سينطبق اصطلاحيا على النفس.
النفس والجسد في الدراسات النفسية الإسلامية
نظرا للترابط الذي بين النفس والروح والجسد في النشأة الإنسانية وتكوينها، فإن الجانب الجسدي بهذا الاعتبار سيكون بالضرورة حاضرا في الدراسات النفسية، من حيث ربط وظائفه بوظائف النفس كسلوك موصوف[5]، والنفس كجوهر محرك للبدن ومصدر حياته. ومن هنا سيتأسس مبدأ الظواهر النفسية الجسدية في حقل معرفة النفس في الفكر الإسلامي كأحد الدعائم المعتمدة في مناهج البحث النفسي عند جميع المفكرين المسلمين، سواء كانوا علماء السلوك أو متكلمين وفقهاء وغيرهم.