النوم حاجة، وفرصة، ومجال؛ بل هو آية كما وصفه القرآن الكريم، في قوله تعالى: ” وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ”[1] ، يقضى الإنسان-تقريبا- ما يقرب من ثلث عمره في النوم، ومن المستحيل أن يكون ذلك الثلث مهدرا، أو لا قيمة فيه ولا فائدة منه، غير أن كثير من الناس غافلون عن ذلك الفضل العظيم في النوم، وغافلون عن الآفاق التي يفتحها النوم، فعندما يغمض الإنسان عينيه للنوم فهناك رؤية من نوع آخر، فقد لاحظ علماء الأعصاب والمختصون في الدراسات الفسيولوجية والفيزيائية للجسم تراجع غالبية الوظائف في الجسم أثناء النوم كالنبض والتنفس، إلا العين فمع عمق النوم تزداد حركتها زيادة كبيرة، وكأنها ترى، وتتابع، وترصد.

أثار النوم اهتمام الفلاسفة، واعتبروا أن النفس تترك البدن لتسبح في عوالم أخرى، ثم تعود مع الاستيقاظ، واتخذ الرومان إلها للأحلام هو “مورفيوس”، وكان الاغريق يسمون النوم “الموت المزيف”، وفي كثير من الثقافات توجد أدعية وأقوال يتلفظ بها الإنسان قبل النوم، فيتوجه الإنسان بكافة جوارحه إلى قوى الغيب لتحميه أثناء نومه، ليتحقق النوم الآمن، فاختلاط النوم بالموت فكرة أخافت الانسان، وجعلته يشعر باحتياج إلى إله قوي يحفظه.

أما الأديان، فاعتبرت النوم ما هو إلا موت، بل هو تدريب يومي على الموت، فالحياة التي يعيشها الإنسان لابد أن تنتهي لتبدأ الحياة الأخرى، ونظر الإسلام إلى النوم على أنه آية، ومعجزة كبيرة، واعتبره الموتة الصغرى، وتحدث القرآن الكريم عن تأثيرات كبرى للنوم في حياة الإنسان والمجتمعات، فإبراهيم –عليه السلام- ما ذبح ابنه إسماعيل-عليه السلام- إلا برؤية، وقصة يوسف-عليه السلام- كانت الرؤيا حاضرة فيها؛ بل إن نجاة مصر من المجاعة المهلكة التي امتدت سبع سنين، واتخذت الدولة إجراءات اقتصادية صارمة للنجاة من المجاعة القادمة، ما جاءت إلا برؤية الملك للبقرات السبع، وما القوة المعنوية في غزوة بدر إلا برؤية رآها النبي-- رأي فها في الكفار عددا قليلا، قال تعالى: ” إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ۖ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ “[2].

النوم..لغز

في منتصف الثمانينات أصدر “ألكسندر بوربلي” alexander borbély كتابه “اسرار النوم” Secrets of Sleep، أكد فيه على مجموعة من الحقائق، منها: أن النوم عالم لا نعرف عنه إلا القليل، وأنه يشكل ولادة جديد للإنسان، كأنه أشبه باعادة شحن الطاقة، فهو أحد أساسيات الحياة، وبدونه لن توجد حياة، وهو رمز للتعب والاجهاد، وكذلك رمز لفتور الهمة والكسل.

النوم النعمة المنسية
كتاب أسرار النوم للمؤلف ألكسندر بوربلي

وقد ذهل العلماء في العشرينيات خاصة “هانز بيرجر” Hans Berger عند تسجيل الموجات الكهربائية الصادرة من المخ أثنا النوم، فالمخ يرسل إشارات يمكن رصدها، ثم قفزت أبحاث النوم قفزة كبيرة مع ” ناثانيال كليتمان” Nathaniel Kleitman الذي وهب عمره الذي امتد قرابة القرن لدراسة الابحاث التجريبية عن النوم، وأصدر عام 1939 كتابه “النوم واليقظة” Sleep and Wakefulness، مهتما بدراسة الحركة السريعة للعين أثناء النوم، وبعد نصف قرن من الأبحاث خلص العلماء إلى أن النوم سر ولغز، لم يكتشف بعد.

أما البروفيسور ماثيو ووكر Matthew Walker ، مدير مختبر النوم والتصوير العصبي في جامعة كاليفورنيا، والذي قضى أكثر من عشرين عاما في دراسة النوم، وأصدرا عدد من الكتب كان آخرها ” لماذا ننام: إطلاق العنان لقوة النوم والأحلام” Why We Sleep: Unlocking the Power of Sleep and Dreams، فرأى النوم رغم أنه أحد أهم جوانب الحياة، إلا أنه الأقل فهما، إذ لم يمتلك العلماء إلا القليل للإجابة على سؤال: لماذا ننام؟ وما فائدة النوم؟ والعواقب الصحية والنفسية المدمرة لقلة النوم.

النوم النعمة المنسية
كتاب “لماذا ننام: إطلاق العنان لقوة النوم والأحلام” – البروفيسور ماثيو ووكر

يؤكد “ووكر” أن النوم يثري داخل الدماغ القدرة على التعلم والحفظ واتخاذ القرارات المنطقية، ويعيد ضبط العواطف، ويعيد تقوية جهاز المناعة، ويضبط عملية التمثيل الغذائي، وينظم الشهية، وتهديء الأحلام الذكريات المؤلمة، ويساهم النوم في دمج المعارف داخل مخ الإنسان معطيا الفرصة لتحقيق الإبداع والابتكار، فالنوم حيوي لتحسين مستويات التعلم والمزاج والطاقة؛ وتنظيم الهرمونات، ومنع السرطان ومرض الزهايمر والسكري،  وإبطاء آثار الشيخوخة، وتعزيز الكفاءة والإنتاجية، فمثلا تكلف اضطرابات النوم الاقتصاد البريطاني أكثر من 30 مليار جنيه إسترليني سنويًا، أي 2 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وهناك مثل إنجليزي يقول: ” كلما كان نومك أقصر، كانت حياتك أقصر” The shorter your sleep, the shorter your life

الأحلام..سر

الأحلام نعمة عظيمة لا تقل عن النوم، فقد سحرت الإنسان وكدرت صفوه، والعلم التجريبي يستخدم مناهج اختزالية في دراستها، فالأحلام تخدم أهدافا بيولوجيه، ومعنوية، لذا فهي ضرورة، ولا يمكن الاستغناء عنها، وكان احد علما النفس، يقول:” إن الرجل حين يحرم من القدرة على رؤية الأحلام لابد من أن ينتهي أمره في النهاية إلى الخبل” فهي تساعد على امتصاص الافكار وإعادة ترتيبها، وإكمال الناقص منها، بل إن بعض الاختراعات المهمة والمؤثرة في تاريخ البشرية جاءت من الأحلام، فمثلا اختراع “الياس هاو” Elias Howe، لماكينة الخياطة، كان نتيجة حلم مزعح، بل إن أهم العقول وهو “البرت أنشتاين” والذي كان ينام عشر ساعات يوميا، يذكرأن بعضا من اكتشافاته وانجازاته، كان للإحلام دور فيها، فالأحلام ضرورة لصحة الإنسان، ويراها بعض علما النفس “رسائل يبعث بها الإنسان إلى نفسه”، وهي تستخدم لغة مجازية، لها قواعدها، وإخراج معنى الحلم الى النور يحتاج إلى معرفة؛ بل إن بعض الناس كان يذهب إلى الأحلام ليجد فيها الراحة السلوى والطمأنينه، فقيس بن الملوح كان يقول:

وإنّي لأهوى النَّوْمَ في غَيْرِ حِينِهِ    لَعَلَّ لِقَاءً في المَنَامِ يَكُونُ

تُحَدِّثُني الأحلامُ أنِّي أراكم        فيا لَيْتَ أحْلاَمَ المَنَامِ يَقِينُ

وكان الصوفية يقولون “نوم العارف يقظة”، فإغفال دور الأحلام في بناء الذات أو حل المعضلات، وتجديد الطاقات، يعتبر تبديدا لرصيد إنساني موفور وقادر على تحقيق المنفعة، فالتواصل داخل الإنسان بين الروح والكون يجعل النوم حالة يبحث فيها الإنسان عن خلاص، لذا من يطالع مذكرات كثير من الذين عاشوا تجربة السجن يدرك أن للأحلام حضورا في صمودهم، وأن فائض الفراغ والوقت الذي يغلف حياتهم، مَثل فائضا في الأحلام والرؤى، وكأن الأحلام هي احتجاج الأعين المغمضة على الواقع الصعب، تبصر فيه الروح مستقبلها وهي متحررة من الإحباط، فـ” الأحلام إن لم ترفع رأسك فسترفع معنوياتك”. 

وكان من الآداب الإسلامية قبل النوم أن يتوضأ الإنسان، طلبا لتطهير الجسم وإفراغه من أضراره لمساعدة الروح على السباحة في عالم الروح أثناء النوم، كذلك من الآداب أن يحاسب الإنسان نفسه لدقائق قبل نومه، فيفرغ قلبه من أحقاده وأخطائه، ومع تلك الحالة من التطهر البدني والروحي يُوجد الاستعداد للأحلام، يغمض الإنسان عينيه فاتحا المجال لروحه للانطلاق، لذا لم يكن عجيبا أن تكون ساعات النوم الهادئة الوادعة عند البعض هي أوقات للبحث عن المستعصي من الحلول، والغامض من المسائل، والشائك من القضايا، ساعات تتخاطب فيها النفس بالرموز والشفرات، وقد احتفظ لنا التراث بأن الإمام الشافعي أوجد حلولا لسبعين مسألة فقهية في منامه عندما بات في منزل الإمام أحمد بن حنبل، ولم يجد الإمام أحمد الذي بات متعبدا أن يقول لابنته: “نوم الشافعي خير من يقظة أبيك” فمن مسه الحلم توهج وخلق أنوارا في يقظته .

والأحلام ليس هروبا من الواقع بقدر ما هي محاولة للقفز عليه وتغيره، فالحقائق كانت غالبيتها أحلام، وروعة الحلم أن يأخذ من الواقع مفرداته وخيوطه لينسج منها ثوبا جديدا، فالأحلام لا تتغذى على الأوهام، والأحلام لا يشيب رأسها، كما يقول إيلياء أبو ماضي، و”ليس صحيحاً أن المرء يكف عن الحلم حين يصبح عجوزاً،  بل يصبح عجوزاً حين يكف عن الحلم” كما يقول ماركيز، بل إن الحلم هو الفاصل بين الإنسان الحيوان، فالحلم نفحة من العالم العلوي لم تمنح إلا للإنسان، لذا كان النبي يعتبرها الرؤية الصالحة جزءا من النبوة، ففي الحديث المتفق عليه:” رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة”.


[1] سورة الروم: الآية 23

[2] سورة الأنفال: الآية 43، وجاء في تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور:” كانت تلك الرؤيا من أسباب النصر ، وكانت تلك الرؤيا منّة من الله على رسوله والمؤمنين ، وكانت قِلة العدد في الرؤيا رَمزاً وكناية عن وهن أمر المشركين لا عن قلّة عددهم، ولذلك جعلها الله في رؤيا النوم دون الوحي، لأنّ صور المَرائي المنامية تكَون رموزاً لمعان فلا تُعَدُّ صورتها الظاهرية خلفاً، بخلاف الوحي بالكلام”.