أصدرت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، مؤخراً، “كتاب الهادي في القراءات السبع” لمؤلفه الإمام أبي عبد الله محمد بن سفيان القيرواني المقرئ (ت: 415 هـ)، ويأتي إصدار هذا الكتاب في جزأين وبتحقيق من الدكتور يحيى عبد الرزاق الغوثاني نظراً لأهميته العلمية والتاريخية، فهو “يعتبر أقدم كتاب يُعثر عليه في علم القراءات من تراث القرن الرابع الهجري في المغرب وفي القيروان على وجه الخصوص”.
وحرصاً على المساهمة في تسليط الضوء على كتب التراث الإسلامي، سنقدم في هذه السطور تعريفاً بـ “كتاب الهادي في القراءات السبع” الذي ظل كتاباً تعليمياً سهلاً ومرجعاً أساسياً مهماً في علم القراءات منذ القرن الرابع الهجري حتى يومنا هذا، وسيظل كذلك نظراً لقيمته العلمية التي صمدت على مدى قرون طويلة، ولكونه يبرز لنا دور القيروان الحضاري في علم القراءات.
نبذة عن ابن سفيان
مؤلف “كتاب الهادي في القراءات السبع” هو محمد بن سفيان القيرواني المالكي المقرئ، لا تتحدث المصادر عن تاريخ ولادته بالتحديد مثل عدد من أعلامنا الأجلاء، ولكن المحقق الدكتور يحيى عبد الرزاق الغوثاني يُجزم بأن ابن سفيان ولد قبل (380 هـ) أي أواخر القرن الرابع الهجري؛ العصر الذي كان “حافلاً بنهضة علمية كبيرة، فقد ظهر فيه أبرز العلماء الذين لا زالت أسماؤهم مدوية في عالم البحث والفكر”، فصار يُعرَف بعصر الرواد في سائر الفنون أو عصر الأكابر.
كانت معظم إقامة محمد بن سفيان بالقيروان، ولكنه قام برحلات قليلة إلى بعض البلدان العربية، أولها رحلته إلى مصر التي كان يريد أن يجعلها محطة من محطات حج بيت الله الحرام، ولكن يبدو أن الحج لم يتيسر له “فعاد من مصر ولم يحج” كما قال ابن الجزري في ترجمته، فتحولت هذه الرحلة إلى رحلة علمية بحتة، أما الرحلة الثانية فكانت إلى بلاد الحجاز بهدف أداء فريضة الحج (عام 413 هـ)، وفي آخر المطاف من حياته قام بالرحلة الثالثة التي تعد امتداداً للرحلة الثانية، فزار المدينة المنورة “ونعم فيها أياماً ثم مرض فيها وكانت وفاته أول صفر من سنة 415 هـ.
حفظ محمد بن سفيان القرآن الكريم مبكراً واطَّلع على علم القراءات في بداية حياته بالقيروان، ولكن اهتمامه لم يقتصر على علم القراءات فقط، بل كان له باع طويل في علم الفقه، وكان خبيراً في علم اللغة والنحو، وكانت له معرفة بعلم الحساب والهندسة، يقول أبو الطيب الخلودي الفقيه: “كان شيخنا أبو عبد الله بن سفيان فاضلاً، وكان له اعتناء بعلم الحساب والهندسة، وقد حكى ابن مُحرزٍ عنه في مسألة.
أما بخصوصه شيوخه، فقد ذهب المحقق الدكتور يحيى الغوثاني إلى أن محمد بن سفيان “لم يكن مكثراً من الشيوخ إلا أنه قصد أكابرهم فحضر وقرأ عليهم”، ومن أبرزهم: أبو الطيب عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون بن المبارك الحلبي، وإسماعيل بن أحمد أبو إبراهيم القروي، وأبو الحسن القابسي، ويعقوب بن سعيد الهواري، وكردم بن عبد الله بن أبي زياد القصطيلي.
ولم يرحل محمد بن سفيان دون أن يترك لنا أثراً وراءه، بل ترك لنا مجموعة من الآثار العلمية النافعة، منها: كتاب الهادي في القراءات السبع (موضوع حديثنا)، والإرشاد في مذهب القراء، والتذكرة في القراءات، واختلاف قراء الأمصار في عدد آي القرآن، ومذهب ورش في اللامات والراءات، كما رَّبى جيلاً كان همه القرآن الكريم ونشر علومه، فكان من أبرز تلاميذه: أحمد الحجري، أبو العالية البندوني، أبو علي الحسن بن علي بن حمدون الجلولي، أبو محمد عبد الحق الجلاد، عبد الملك بن داود القسطلاني، وأبو بكر عتيق بن أحمد بن إسحاق التميمي المعروف بالقصري.
وقد أنثى عدد من علماء الإسلام على محمد بن سفيان، حيث قال عنه الإمام ابن الجزري: “الفقيه المالكي صاحب (كتاب الهادي) أستاذ حاذق، تفقّه على أبي الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي حتى برع في الفقه”، وقال عنه شيخه أبو الحسن القابسي: “من أراد أن ينظر إلى زهرة من زهرات الدنيا فلينظر إلى أبي عبد الله محمد بن سفيان”، وقال تلميذه الحافظ حاتم الطرابلسي: “كان رجلاً عاقلاً فهماً، حلواً متقلِّلاً، أَشْهَرَ مَنْ في المغرب في وقته بالقراءات وأبصرهم بها”.
أهمية كتاب الهادي
يُحظى “كتاب الهادي في القراءات السبع” بمكانة عالية في علم القراءات، وتتمثل أهميته في أنه “يعتبر أقدم كتاب يُعثر عليه في علم القراءات من تراث القرن الرابع الهجري في المغرب وفي القيروان على وجه الخصوص”، ويمكن اعتباره من مرتبة كتاب “التيسير” لأبي عمرو الداني، و”التذكرة” لطاهر بن غلبون، كما يعتبر أصلاً من أصول “النشر في القراءات العشر” لابن الجزري، وبتحقيقه يكون الدكتور يحيى عبد الرزاق الغوثاني قد قدم خدمتين مزدوجتين للباحثين في القراءات: خدمة كتاب الهادي، وخدمة كتاب النشر.
ولا شك أن انتباه الدولة العثمانية إلى القيمة العلمية لـ “كتاب الهادي في القراءات السبع” في القرن الثاني عشر (أي بعد سبع مائة سنة من تأليفه) يمثل دليلاً مهماً على أهمية هذا الكتاب العظيم النافع، ففي سنة 1150 هـ “أصدر السلطان محمود خان أمراً إلى رئيس القراء في القسطنطينية الشيخ محمد بن مصطفى بن رمضان المعروف بجلبي العزيزي بأن ينسخ الكتاب بخطه الجميل”، ثم وقفه في سبيل الله لمن يطالعه من أهل العلم.
وبما أن “كتاب الهادي” كان أقدم الكتب في علم القراءات في القرن الرابع الهجري في المغرب وفي القيروان، فقد كان له أثر واضح في الكتب التي ألفت بعده، حيث تأثر به مثلاً: مكيُّ بن أبي طالب في “التبصرة”، ومحمد بن شُريح في كتابه “الوافي”، وابن الباذش في كتابه “الإقناع”، وابن الجزري في “النشر في القراءات العشر”، والمنتوري في “شرح الدرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام نافع”.
ولعل من الأمور التي تؤكد لنا أهمية “كتاب الهادي” أنه يكشف لنا عن دور ابن سفيان القيرواني في علم القراءات، ويُبيّن لنا منزلته بين الأئمة في هذا العلم في القرنين الرابع والخامس الهجريين، كما يبرز لنا دور القيرواني الحضاري في القراءات، وقد دفعت أهمية “كتاب الهادي” باحثين آخرين إلى محاولة التعريف بمؤلفه ابن سفيان القيرواني، حيث تحدثت عنه الدكتورة هند شلبي في كتابها “القراءات بإفريقية” كرائد من رواد علم القراءات في إفريقية، كما تحدث عنه الدكتور محمد المختار ولد أبَّاه في كتابه “تاريخ القراءات في المشرق والمغرب“.
قضايا كتاب الهادي
موضوع علم القراءات من المباحث القرآنية المتشعبة والمتخصصة، ولذلك فقد تناول محمد بن سفيان في “كتاب الهادي” جملة من القضايا المتعلقة بتاريخ القراءات، حيث قام بتقسيم كتابه إلى عدة أبواب تناول من خلالها: تسمية القراء والناقلين عنهم، واختلافهم في الاستعاذة والبسملة والمد والوقف على المهموز، كما توقف مع باب الإدغام، والاختلاف في الفتح والإمالة، والوقف على هاء التأنيث، وباب تفخيم الراءات وترقيقها.
وقد حرص محمد بن سفيان في كتابه “الهادي في القراءات السبع” على أن يتناول كل قراءة من القراءات السبع على حدة وبشيء من التفصيل، حيث بدأ بقراءة نافع المدني، ثم قراءة عبد الله بن كثير المكي، ثم أبو عمرو بن العلاء البصري، ثم عبد الله بن عامر الشامي، ثم عاصم بن أبي النجود وحمزة بن حبيب الزيات، وعلي بن حمزة الكسائي، وثلاثتهم كوفيون.
ولعل قارئ “كتاب الهادي” سيلاحظ حرص مؤلفه على عرض الأسانيد بالتفصيل تارة وبالاختصار تارة، ومن الأمثلة على ذلك قوله عند حديثه عن قراءة نافع رواية عيسى بن مينا الملقب (قالون): “فأما قراءة نافعٍ من رواية عيسى بن مينا عنه ولقبه قالون، فإني قرأت بها على أبي الطيب عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون الحلبي، وقرأ أبو الطيب على أبي سهل صالح بن إدريس البغدادي الورَّاق، وقرأ أبو سهل على أبي الحسن علي بن سعيد القزَّاز.. إلخ”.
وإذا جاز لنا أن نقول إن محمد بن سفيان ركّز في القسم الأول من كتابه “الهادي في القراءات السبع” على اختلافات القراء المتعلقة بالأبواب الكبيرة في القراءات كما أشرنا قبل قليل، فإننا يمكن أن نقول أيضاً إنه اهتم في القسم الثاني بذكر اختلافات القراء فيما يتعلق بالحروف والحركات مثل {يُخَادِعُونَ} و{يَخْدَعُونَ}، وقام بجرد الاختلافات الموجودة في القرآن الكريم من سورة البقرة حتى سورة الناس مع تبيان طريقة كل قارئ من القراء السبعة ورواتهم.
منهج ابن سفيان
لقد تولَّى عنا محمد ابن سفيان عناء البحث عن الهدف من تأليف كتابه “الهادي في القراءات السبع” والأسس المنهجية التي قام عليها، فقال في المقدمة بعد البسملة والصلاة على سيدنا محمد ﷺ وصحبه أجمعين: “وقد رغب إليَّ بعض المجتهدين من طلبة القراء في إملاء كتاب نجمع الأصول، ونُبين الفروع، نحذف التطويل، والقصد إلى المعاني، فأجبتهم إلى ذلك، وأملَلْتُ هذا الكتاب بديهاً من غير فكر مصنف، ولا عُدة لوقت الأمل، بل من سأل في أي وقت أجيبَ فيما سألَ عنه، ونحن نعتذر من تقصير إن وقع.
ورغم كل ذلك فقد قام الدكتور يحيى الغوثاني بالغوص في أعماق “كتاب الهادي” وخرج إلينا بمجموعة من المعالم البارزة في منهج محمد ابن سفيان، أولها أن “كتاب الهادي” كتاب تعليمي غلب عليه أسلوب التسهيل والتبسيط ولم يتكلف صاحبه فيه تأنق العبارة، وثانيها أنه يعتمد على الرواية والتلقِّي اعتماداً كلياً من الشيوخ والمتقنين وخاصة شيخه أبو الطيب بن غلبون، ولهذا كان محمد ابن سفيان غالباً ما يقول: “وهذا تحكمه المشافهة”، و”هكذا قرأت على أبي الطيب.. وبالوجهين قرأتُ”، وبهذه المنهجية يكون ابن سفيان قد حافظ لنا على تراث شيخه ابن غلبون.
أما السمة الثالثة من معالم منهج ابن سفيان فتتمثل في التقسيم والتبويب وسهولته وحسن ضم النظير إلى نظيره، ففي العصر الذي كانت تتسم فيه كتب القراءات بالضعف في هذا الجانب استطاع صاحب “كتاب الهادي” أن يحوز قصب السبق في حسن التبويب والتقسيم، ولعل تقسيمه لـ “باب وقف حمزة وهاشم” الذي حيَّر دارسي القراءات على مدى التاريخ يمثل دليلاً قاطعاً على براعته في التقسيم والتبويب بكل سهولة ودقة وأمانة.
ومن المعالم البارزة في “كتاب الهادي” اليقظة والاحتراز، ويعني ذلك أن ضبط ابن سفيان من الدرجة العالية النادرة في زمانه، فلم يخلَّ بشيء من القراءات المتواترة المنسوبة للأئمة السبعة، ومن الأمثلة على كمال يقظة محمد بن سفيان قوله في باب النون الساكنة والتنوين: “اعلم أن القراء أجمعوا على إظهارها عند حروف الحلق.. وهذا إجماع من القراء ما عدا ورش فإنه ينقل حركة الهمزة إلى التنوين والنون”.
ولا تقتصر معالم منهجية “كتاب الهادي” على ما سبق، بل هناك معالم أخرى منها: تعقيباته على المتقدمين مع الأدب الجمِّ، وقوة الاستحضار كأن يقول: “ونذكرُ ذلك في موضعه”، و”تقدم ذكره.. أو ذكرهن”، هذا بالإضافة إلى الإبداع والابتكار في تأصيل المادة العلمية، وقوة الشخصية العلمية المتمثلة في تغليطه للنحويين في تغليطهم للقراء، ومن الأمثلة على ذلك قوله: “وقد غلَّط النحويون قنبلاً في قراءته”، ثم يرد عليهم بقوة قائلاً: “وهو غلط عند النحويين”، وكل هذا وغيره يؤكد الأهمية العلمية والتاريخية لـ “كتاب الهادي”.