عندما يجعل العقل لغيره الوصاية عليه فإنه يتعطل عن انطلاقه وإبداعه، فهو يحتاج في تعقله إلى قوة البرهان، وليس قوة الإجبار، وتعد المفاهيم من أكثر أبواب المعرفة قلقا ومعاندة، لأن المفهوم هو روح المعرفة والحياة على حد سواء، فهو يتخلل نسيجهما معا.
وفي هذا الإطار صدر العدد السادس والسابع ربيع وصيف عام 2018 في (522) صفحة من دورية “نماء” الفصلية المحكمة التي تعنى بعلوم الوحي، واختص العدد بملف مهم بعنوان “التجديد في المفاهيم من خلال منظور علوم الوحي والدراسات الإنسانية”، متناولا العديد من الدراسات والأبحاث حول تجديد المفاهيم تأسيسيا على رؤية منطلقة من الوحي، فتناول عدة اجتهادات منها: اجتهاد الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، والمفكر المصري عبد الوهاب المسيري، في عالم بناء المفاهيم، كي يرتقي العقل المسلم من النقل من الموروث أو الحداثي إلى رتبة المكابدة المفهومية، التي تخلق التفاعل والالتحام بين العقل الروح للوصول إلى الحقيقة والإبداع.
مفهوم المفهوم
المفهوم هو الخطوة الأولى في بناء العلوم خاصة الاجتماعية، ومن دون مفاهيم واضحة لن يكون هناك وصف صحيح، ولا تحليل يمكن الاعتماد عليه للتوصل لتفسيرات أو تنبؤات، والمفهوم هو مجموعة من الصفات والخصائص التي تُحدد الموضوعات التي ينطبق عليها اللفظ تحديدا يكفي لتمييزها عن الموضوعات الأخرى، وهو يتألف من المعاني والمشاعر التي يستدعيها اللفظ في أذهان الناس.
وحتى تصير الفكرة مفهوما ينبغي أن تتوافر فيها مجموعة من الشروط، منها: أن تتمتع بالعمومية والدقة معا، وأن يُساعد في عملية المعرفة، إذ أن المعرفة العلمية لا قوام لها بدون المفهوم، فهو أداتها، وليس مجرد حصيلة لها، ومن ثم فهو أشبه بالوعاء المعرفي الجامع، كما أنه الفضاء المعرفي لأية حضارة، يحدد سماتها التي تعطي لها ملامحها الذاتية، وتتكاثف فيه أبعادها الأساسية من العقيدة واللغة والمنهج، وتبني مفهوما ما يعني تبنى منظومة متكاملة من الأفكار، تسبب تحيزات في المنهج وتُنتج آثارا كبيرة في مجال البحث والتطبيق، وهو ما يطلق عليه النموذج المعرفي باعتباره بنية تصورية يجردها عقل الإنسان-بشكل واع أو غير واع- من كم هائل من العلاقات والتفاصيل والحقائق، ولكل نموذج معاييره الداخلية التي تزوده ببعده الغائي.
وقد ظل المفهوم في التراث العربي والإسلامي منحصرا ضمن مباحث اللغويات والمنطق، لذا عرفت الخبرة الإسلامية الدمج بين علم الفقه والمنطق اصطلاحا واستعمالا، لكن المفاهيم الكبرى، كالثقافة والعلم والمعرفة والدين ظلت حديثة نسبيا، وفي عالم المفاهيم لا يمكن قصر التعريف على اللغة والاصطلاح فقط، ولكن لا بد من ربط المفهوم بالبيئة التي أنتجته وظهر فيها، ويلاحظ أن المعجم الحداثي يعتبر بالإنسان وليس بالإله، وبالعقل وليس بالغيب، وبالحياة الدنيا وليس بالآخرة، وهو ما يجعل دلالة المفهوم واستخدامه مختلفا داخل حيز الحضارة الإسلامية والغربية.
إبــداع المفاهيــم
تناول العدد تجربة الدكتور طه عبد الرحمن في عالم إبداع المفهوم، فمشروعه قائم على التأصيل والتجديد، لذا أمد العقل العربي بتجربة مميزة في مجال بناء المفاهيم، ولعل أول معلم في التجربة هو تفعيل روح الحداثة لا تقديس صورها، مع السعي الدائم للخصوصية المفهومية بناء وبيانا، وهو ما يعبر عن نوع من الاستقلال المعرفي للمفكر يجعل من المفهوم ذو حضور قوي في عالم اللغة، وله إشعاع دلالي ورمزي، ومرتبط بمجموعة أخرى من المفاهيم.
وقد نجح طه في إبداع مفاهيم منتمية للهوية اللغوية والحضارية بحيث تتسم بالإجمال والجمال والإبداع والإحاطة، فنقد تجربة المترجمين العرب في نقل المصطلح، وأرجع ذلك إلى ضعف تكوينهم الفلسفي، مؤكدا أن المترجم ليس ناقلا للمصطلح فقط؛ بل له دور وفعل فيما يُشحن به ذلك المصطلح من دلالات، وإذا كان المترجم ناقلا لا مؤصلا فإنه يحرم المفهوم والمصطلح في المجال التداولي العربي من الثراء والإثراء.
وقد لاحظ طه أن بعض المترجمين الأوائل للمصطلحات والمفاهيم وقعوا أسرى التهويل، فوقفوا عاجزين أمام المصطلح، لذا نقلوه كما هو في لغته مثل: “الديالكتيك” “التراجيدي” و”كوميديا” فغزا المفهوم بلغته الأصلية المعجم العربي، وتجلى ذلك في كتاب “مفاتيح العلوم” للخوارزمي الذي حوى الكثير من المصطلح اليوناني واللاتيني مكتوبا بحرف عربي، هذا النقل عرض المصطلح المنقول للانغلاق والإغراب في اللغة العربية، كذلك استمرت الإحالة الدائمة إلى القاموس الأجنبي لإدارك المفهوم، فكانت هناك صعوبة في تداوله عربيا، لذا ظل أسيرا للنخبة المثقفة فقط، فخلق بؤسا في الثقافة العربية.
ولفت طه الانتباه إلى خطأ آخر في المفاهيم المترجمة هو تعبيرهم عن الخالق سبحانه وتعالى بصفات بعيدة عن الممارسة في الشريعة واللغة العربية مثل الحديث عنه بـ”السبب الأول” أو “الصانع” أو “العلة الأولى” أو “علة العلل”، والحقيقة أن تلك الصفات قد تكون ترجمة أمينة للنص الأجنبي لكنها غريبة عن الحقل الدلالي في اللغة العربية، إذ غفل المترجم عن إدراك الفارق بين اللسانين في ترجمة المفهوم، كما أفرط المترجمون في إدخال “اللا” على الكثير من المفاهيم مثل “اللامعقول-واللامركزية-والمفهوم-واللامبالاة-اللاجدوى” وهذه التقنية قهرت المفهوم في اللغة العربية.
الأخطاء في نقل المفاهيم تراوحت بين ضعف التكوين اللغوي، وضعف التكوين الفلسفي وهو ما أنتج مفاهيم بها الكثير من المشكلات، وبعيدة عن الحقل التداولي العربي والإسلامي، وكان طه يريد للمتفلسف العربي أن يكون المفهوم معبرا عن هويته الحضارية، ومن ثم ربط بين الفلسفة والاجتهاد في بناء المفهوم، على أن تكون مقرونة بالحرية واستقلال الرأي ونفي التقليد والتقديس.
التحيز والمفهوم
المفهوم تحمله الكلمة رغم أنها في بعض الأحيان ليست أمينة عليه، لأن تكرارها يعني تكرار المفهوم ذاته، لذا فالمفهوم يصنعه السياق الذي يتشكل فيه، والحقيقة أن المفاهيم ليست إجراءات محايدة، ولكنها متحيزة مرتبطة بالنموذج المعرفي للباحث، والثابت أن المفاهيم عرفت الهجرة من ثقافة إلى أخرى، ومن ميدان معرفي إلى آخر، وتوقف المفاهيم عن الهجرة يصيبها بحالة اختناق وانغلاق، والثابت-أيضا- أن الإنسان فهم الكون والحياة والإنسان ونمط العلاقات انطلاقا من مجموعة من المفاهيم والمعتقدات والتصورات.
ويلاحظ أن مفاهيم الثقافة والحضارة والاتصال والإعلام من المفاهيم المهاجرة، انتقلت من مواطن نشأتها في الغرب إلى أماكن توطن متنوعة، ومنها البيئة العربية والإسلامية، ورغم ذلك ظلت تلك المفاهيم أسيرة للرؤية الغربية، رغم القشور والمسوح التي غطتها من الثقافات المختلفة، فظلت تستبطن الخصوصية الغربية التي أنتجتها وأشاعتها، وهي تختلف عن الخصوصية الحضارية الإسلامية ذات الطابع التوحيدي والاستخلافي المرتكزة على قيمة الإنسان ووظيفته الحضارية.
فمثلا مفهوم الثقافة من المفاهيم الحديثة على البيئة المفاهيمية العربية، ويرى المفكر الجزائري مالك بن نبي أن مشكلة تعريف مفهوم الثقافة يكمن في الثقافة نفسها، التي لم تكتسب قوة التحديد بعد، ورغم أن المفهوم أول من نحته عربيا هو سلامة موسى في كتابه “الثقافة والحضارة” إلا أن سلامة موسى اعترف عام 1927 أن المفهوم يرجع إلى العلامة ابن خلدون، لذا كان مالك بن نبي يرى أن كل تفكير في مشكلة الإنسان هو بالضرورة تفكير في مشكلة الحضارة، وكل تفكير في مشكلة الحضارة هو تفكير في مشكلة الثقافة، على اعتبار أن الحضارة في جوهرها مجموعة من القيم الثقافية المحققة، ومن ثم فمصير الإنسان مرهون دوما بثقافته .
أما الدكتور عبد الوهاب المسيري فقدم جهودا في بناء مفهوم فقه التحيز، على اعتبار أن المفاهيم تساهم في بناء النموذج المعرفي، وعليه تكون عملية التبعية أو الاستقلال في المجال المعرفي، فالمسيري في رحلته في دراسة مفهوم التحيز، التي امتدت ما يقرب من ثلاثين عاما، خلص إلى أن العلوم الاجتماعية مهما تجرد أصحابها تحوي تحيزاتهم الفلسفية ، بل رأى أن التحيز يمتد إلى العلوم الطبيعية، فثمة صياغات فلسفية وعقائدية وراء التجارب العلمية، وأكد أن التحيز مستبطن وكامن في النموذج الإدراكي، وهناك الكثير من النخب العربية تستبطن النموذج الإدراكي المتحيز للغرب، لذا ترى العالم بمنظور الغرب وليس بالمنظور العربي.
والمسيرى يفضل استخدم مفهوم فقه التحيز بدلا من علم التحيز، على اعتبار أن كلمة فقه تشير إلى البعد الاجتهادي والاحتمالي والإبداعي للمعرفة، وهو ما يفتح باب الاجتهاد دائما ويسمح بدخول الذات والخبرة الشخصية في عملية الإدراك، ويثري الفكر ليس باجتهاد جديد فقط ولكن بمنهج جديد.
والتحيز مرتبط في الأساس برؤية الكون، تلك الرؤية التي تحدد كل المفاهيم والأفكار والمصطلحات، والتي يتكون منها النموذج المعرفي، وفي ضوء ذلك يمكن فهم التحيز في ضوء قاعدتين أساسيتين، الأولى: حتمية التحيز: فالتحيز أمر حتمي ملاصق للإنسان. والثانية: التحيز ليس نهائي فهو ليس نهاية المطاف، لأن نهاية المطاف هو الإنسانية المشتركة التي تسبق أي تنوع أو تحيز.
وجوهر مفهوم فقه التحيز هو استعادة ثنائية الإنسان والطبيعة، واسترجاع الإنسان ككائن مركب لا يمكن أن يرد إلى العالم الطبيعي فقط، ووفقا لذلك رأى أن النموذج المعرفي الغربي نموذج معاد للإنسان، نموذج كافر بالإله والإنسان معا، فهو ينزع القداسة عن كل شيء، وينكر المعنى، كما أنه نموذج يحاول أن يصل إلى مستويات من التعميم لا تبررها درجة المعرفة.