إن الورع من الألفاظ الشرعية المشهورة التي يتداولها الناس كثيرا ويقصدون بها التنزه والترفع عن الأمور التي تشتبه بين الحلال والحرام من أمور الدين، حيث لا يعلم وجه الحل منها فيؤتى أو وجه الحرام منها فيترك، ويطلق اللفظ غالبا بين العامة ليفيد المعنى المرادف للزهد مثلا، فيقال: فلان زاهد ورع، ليدل على درجة تقوى الله تعالى في قلبه، دون إدراك الفرق بين اللفظين، وقد اشتهر تعريفه واستعماله في كتب التراث الإسلامي للدلالة على اجتناب الشبهات خوفا من الوقوع في المحرمات، يقول القرافي: الورع ترك ما لا بأس حذرا مما به البأس وأصله قوله: – عليه السلام – «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه سلم»[1] فما المقصود بالورع، وما علاقته بالشبهات؟
بين الورع والزهد
ما معنى الورع والفرق بينه وبين الزهد؟
أما “ما لا بأس به” فإنه يحمل على الأمور المباحة التي أصلها الحل، فيتركه الرجل اتقاء من الوقوع في الإثم والعقاب الذي يترتب على العمل لاحتماله الكراهة أو الحرمة.
ومما يلاحظ من تصرف القرافي أنه اعتبر وقوع الورع في أفعال الجوارح بخلاف الزهد الذي يعد من هيئة القلب. وقد جرى على هذا التفريق حيث امتثل ببعض الخلافات الفقهية في الفروع، فقال: ومن الورع الخروج عن خلاف العلماء بحسب الإمكان، فإن اختلف العلماء في فعل:
– هل هو مباح أو حرام؟ فالورع الترك
– أو هو مباح أو واجب؟ فالورع الفعل مع اعتقاد الوجوب حتى يجزئ عن الواجب.
– وإن اختلفوا في الفعل هل هو مندوب أو حرام؟ فالورع الترك
– أو مكروه أو واجب؟ فالورع الفعل حذرا من العقاب في ترك الواجب، وفعل المكروه لا يضره.
وذلك كاختلاف العلماء في مشروعية الفاتحة في صلاة الجنازة..
فالإمام مالك يقول: ليست بمشروعة
والشافعي يقول: هي مشروعة أو واجبة، فالورع الفعل لتيقن الخلوص من إثم ترك الواجب على مذهبه.
وكالبسملة قال مالك: هي في الصلاة مكروهة
وقال الشافعي: هي واجبة، فالورع الفعل للخروج عن عهدة ترك الواجب.
فإن اختلفوا هل هو حرام أو واجب فالعقاب متوقع على كل تقدير فلا ورع إلا أن نقول إن المحرم إذا عارضه الواجب قدم على الواجب؛ لأن رعاية درء المفاسد أولى من رعاية حصول المصالح، وهو الأنظر، فيقدم المحرم ها هنا فيكون الورع الترك.
وإن اختلفوا هل هو مندوب أو مكروه فلا ورع لتساوي الجهتين على ما تقدم في المحرم والواجب ويمكن ترجيح المكروه كما تقدم في المحرم وعلى هذا المنوال تجري قاعدة الورع[3].
وفي تعريف القرافي والأمثلة التي ذكرها يظهر أنه حمل قوله: “حذرا مما به البأس” على الشهبات التي تنتج من اختلاف آراء الفقهاء واجتهاداتهم. وهنا تظهر العلاقة بين الورع والشبهة.
لذلك يتضح من تعريف الكفوي وجود دلالة معنوية للورع على ترك الشبهات حين اختار فقال في الكليات: “الورع: الاحتناب عن الشبهات سواء كان تحصيلا أو غير تحصيل، إذ قد يفعل المرء فعلا تورعا وقد يتركه تورعا أيضا ويستعمل بمعنى التقوى وهو الكف عن المحرمات القطعية”[4].
وقد أشار في هذا التعريف للمعنيين، أولهما ترك الشبهات، والثاني بمعنى التقوى، ونرى الربط بينهما حيث إن المعنى الثاني الذي هو التقوى مما يحمل الإنسان على ترك الشبهات واجتنابها، لذلك جاء في الحديث السابق: “لا يَبْلُغُ العَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حتَّى يَدع ما لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ بَأْسٌ”، فإن التقوى يقتضي ترك الشبهات. وهذا بابه الفقه لذلك رتب العلماء على ضوئه أمثلة وقضايا فقهية مختلفة
أما المحاسبي فقد سلك طريق التزكية في تعريف الورع فقال: «المجانبة لكل ما كره الله عز وجل من مقال أو فعل بقلب أو جارحة والحذر من تضييع ما فرض الله عز وجل عليه في قلب أو جارحة»[5].
وما يطلب تركه من الأمور أربعة أشياء؛ شيئان واجب تركهما، وشيئان ترك أحدهما استبراء خوف أن يكون مما كره الله عز وجل والآخر يترك احتياطا وتحرزا.
الشيئان الواجب تركهما
أحدهما: ما نهى الله عز وجل من العقد بالقلب على الضلال والبدع والغلو في القول عليه بغير الحق ولا يعتقد إلا الصواب.
والثاني: ما نهى الله عز وجل عنه من الأخذ والترك من الحرام بالضمير والجوارح.
أما الأمران الآخران مما لا يجب تركهما، فهما:
أحدهما: ترك الشبهات خوف مواقعة الحرام وهو لا يعلم؛ استبراء لذمته لتمام الورع كما قال النبي ﷺ (من ترك الشبهات استبرأ لذمته ودينه وعرضه من واقع الشبهات فكأنما واقع الحرام)
والثاني: هو ترك بعض الحلال الذي يخاف أن يكون سببا وذريعة إلى الحرام كما روي عن النبي ﷺ أنه قال (لا يكون العبد من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس)
مثاله: ترك فضول الكلام لئلا يخرجه ذلك إلى الكذب والغيبة وغيرهما مما حرم الله تعالى القول به.
والأمران الأخيران يتمثل فيهما الرع كما بين ذلك المحاسبي حيث القصد منهما الحذر من الاسترسال في الأمور المباحة أو المختلف فيها مخافة زلة القدم.
وقد وصف السلف الورع بأمور ثلاثة بناء على ما تقدم:
- ترك جميع ما حاك في الصدور من جميع الحكايات والقول
- الوقوف عند كل شبهة إذا لم يتبين فيها الحلال من الحرام
- ترك المباح الذي ليس به بأس حتى لا يكون ذريعة إلى المكروه أو المحرم
أثر الورع في الشبهات أو الأمور المشبهات
ما هي أنواع الشبهات ؟
اعتمد الفقهاء في مجال تأصيل التورع عن الشبهات بتركها ومجانبتها على الحديث الصحيح المشهور، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب[6].
يقول ابن دقيق العيد: هذا أحد الأحاديث العظام التي عدت من أصول الدين، فأدخلت في الأربعة الأحاديث التي جعلت أصلا في هذا الباب. وهو أصل كبير في الورع، وترك المتشابهات في الدين[7].
ذكر ابن دقيق من مواضع الشبهات واعتبرها من مثارات الشبهات أمورا منها:
1 – الاشتباه في الدليل الدال على التحريم أو التحليل
2 – تعارض الأمارات والحجج ولعل قوله – عليه السلام – ” لا يعلمهن كثير من الناس ” إشارة إلى هذا المثار
3 – أو عدم الاطلاع على وجه الاشتباه وإن علم أصل الحكم من حيث التحليل والتحريم.
وقد اعتنى الإمام الغزالي بهذا الحديث الذي يعد أصل الدين والفقه، ووصفه، فقال: هذا الحديث نص في إثبات الأقسام الثلاثة والمشكل منها القسم المتوسط الذي لا يعرفه كثير من الناس وهو الشبهة فلا بد من بيانها وكشف الغطاء عنها فإن ما لا يعرفه الكثير فقد يعرف القليل. وبين وزاد على مثارات الشبهات من الأحكام وتمييزها عن الحلال والحرام.
ثم قال: والتحقيق فيه أن الورع له أول وهو الامتناع عما حرمته الفتوى وهو ورع العدول وله غاية وهو ورع الصديقين وذلك هو الامتناع من كل ما ليس له مما أخذ بشهوة أو توصل إليه بمكروه أو اتصل بسببه مكروه وبينهما درجات في الاحتياط فكلما كان العبد أشد تشديدا على نفسه كان أخف ظهرا يوم القيامة وأسرع جوازا على الصراط وأبعد عن أن تترجح كفة سيئاته على كفة حسناته وتتفاوت المنازل في الآخرة بحسب تفاوت هذه الدرجات في الورع[8].
حاول ابن رجب تقريب ما استغلق من معاني ما ذكره الإمام الغزالي، وهي من مثارات الشبهات، وننقل كلامه هنا لإتمام الفائدة.
يقول ابن رجب:
«وفي الجملة فما ترك الله ورسولُه حلالاً إلا مُبيَّناً ولا حراماً إلَاّ مبيَّناً، لكن بعضَه كان أظهر بياناً من بعض:
– فما ظهر بيانُه، واشتهرَ وعُلِمَ من الدِّين بالضَّرورة من ذلك لم يبق فيه شكٌّ، ولا يُعذر أحدٌ بجهله في بلدٍ يظهر فيه الإسلام.
– وما كان بيانُه دونَ ذلك، فمنه ما اشتهر بين حملة الشريعة خاصة، فأجمع العلماء على حله أو حرمته، وقد يخفى على بعض من ليس منهم،
– ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضاً، فاختلفوا في تحليله وتحريمه وذلك لأسباب:
منها: أنَّه قد يكون النصُّ عليه خفياً لم ينقله إلا قليلٌ من الناس، فلم يبلغ جميع حملة العلم.
ومنها: أنَّه قد ينقل فيه نصان، أحدهما بالتحليل، والآخر بالتحريم، فيبلغ طائفةً أحدُ النصين دون الآخرين، فيتمسكون بما بلغهم، أو يبلغ النصان معاً من لم يبلغه التاريخ، فيقف لعدم معرفته بالناسخ.
ومنها: ما ليس فيه نصٌّ صريحٌ، وإنَّما يُؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهامُ العلماء في هذا كثيراً.
ومنها: ما يكون فيه أمر، أو نهي، فيختلفُ العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنْزيه، وأسبابُ الاختلاف أكثرُ مما ذكرنا»[9].
وهناك أمثلة من الفتاوى العلمية التي بنيت في أساسها على الورع، فكان الحكم بالتحريم والترك بسبب الشبهة التي يحتويها، وقد أفرد الإمام المروذي صاحب الإمام أحمد بن حنبل كتابا سماه “الورع” جمع في صفحاته مسائل الإمام أحمد التي بناها على أصل الورع. ومن نماذج ما جاء فيه ما يأتي:
مسألة الشراء من الموضع الذي يكره:
قال المروذي: «قلت لأبي عبد الله ما تقول فيمن بنى سوقا وحشر الناس إليها غصبا ليكون البيع بها والشراء ترى أن يشترى منها فقال: تجد موضعا غيره وكره الشراء منها. قيل له: من اشترى منها يشترى منه؟ قال: إذا كان بينك وبينهم رجل فهو أسهل ولم ير به بأسا»[10].
مسألة هل للوالدين طاعة في الشبهة؟
المروذي: “قلت لأبي عبد الله هل للوالدين طاعة في الشبهة؟
فقال أحمد: في مثل الأكل
فقلت: نعم
قال: ما أحب أن يقيم معهما عليها وما أحب أن يعصيهما يداريهما ولا ينبغي للرجل أن يقيم على الشبهة مع والديه لأن النبي ﷺ قال من ترك الشبهة فقد استبرأ لدينه وعرضه، ولكن يداري بالشيء بعد الشيء فأما أن يقيم معهما عليها فلا[11].
باب من ورث من والده مالا فيه شبهة
المروذي: وسئل أبو عبد الله عن رجل مات وترك ضياعا، وقد كان أبوه يدخل في أمور _ ذكرتها لأبي عبد الله _ فيريد بعض ولده التنزه قال: ما كان له قبل دخوله _ يعني فيما يكره _ فلا بأس أن يرثه، وإن كان يعلم أن أباه ظلم أحدا، فينبغي له أن يرده إلى أهله، هو أعرف بأبيه.
[1] «الفروق للقرافي = أنوار البروق في أنواء الفروق» (4/ 210)
[2] أخرجه الترمذي في السنن، كتاب صفة القيامة، (2451) وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجه، باب الورع والتقوى، (4215).
[3] «الفروق للقرافي = أنوار البروق في أنواء الفروق» (4/ 210 – 212).
[4] «الكليات» (ص944).
[5] «المكاسب والورع والشبهة» (ص51):
[6] متفق عليه: البخاري (52)، مسلم (1599).
[7] «إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام» (2/ 277).
[8] «إحياء علوم الدين» (2/ 98)
[9] «جامع العلوم والحكم» (1/ 204 ت الفحل)
[10] «الورع – المروذي» (ص31)
[11] المرجع السابق