(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا) النساء 11
قدم الوصية على الدين في آيتي الميراث 11 و12.
وورد هذا التقديم أربع مرات في هاتين الآيتين: مرة في الآية 11 وثلاث مرات في الآية 12.
في السنة النبوية قضى رسول الله ﷺ بالدين قبل الوصية (الترمذي)، وأجمع على ذلك العلماء.
اطلعت على أقوال المفسرين: الزمخشري والقرطبي والألوسي وغيرهم، ورأيت بعد ذلك أن الكلام في آيتي النساء 11 و12 يقع على الميراث، والوصية أقرب إلى الميراث من الدين. فالميراث والوصية كلاهما توزيع: الميراث توزيع على الورثة من الأقارب، والوصية توزيع على الفقراء من غير الورثة، أما الدين فهو حق متعلق بالتركة، ولهذا يطرح من التركة قبل توزيعها، حتى لو لم ينص عليه.
أقوال المفسرين
البغوي: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إنكم تقرؤون الوصية قبل الدَّين، وبدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالدَّين قبل الوصية».
وهذا إجماعٌ أن الدين مُقدّم على الوصية. ومعنى الآية الجمع لا الترتيب، وبيان أن الميراث مؤخر عن الدين والوصية جميعًا، معناه: من بعد وصية إنْ كانت، أو دين إنْ كان، فالإِرث مؤخر عن كل واحد منهما.
الزمخشري: فإن قلت لم قدّمت الوصية على الدين، والدين مقدم عليها في الشريعة؟
قلت: لما كانت الوصية مشابهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عِوَض، كان إخراجها مما يشقّ على الورثة ويتعاظمهم، ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مظنّة للتفريط، بخلاف الدين فإنّ نفوسهم مطمئنة إلى أدائه، فلذلك قدمت على الدين بعثًا على وجوبها، والمسارعة إلى إخراجها مع الدين، ولذلك جيء بكلمة «أو» للتسوية بينهما في الوجوب.
ابن عطية: هذه الآية إنما قصد بها تقديم هذين الفعلين على الميراث، ولم يقصد بها ترتيبهما في أنفسهما، ولذلك تقدمت الوصية في اللفظ، والدين مقدم على الوصية بإجماع، والذي أقول في هذا: إنه قدم الوصية إذ هي أقل لزومًا من الدين، اهتمامًا بها وندبًا إليها كما قال تعالى: (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة) الكهف 49.
وأيضًا قدمها من جهة أنها مضمنها الوصية التي هي كاللازم يكون لكل ميت، إذ قد حضّ الشرع عليها، وأخر الدين لشذوذه، وأنه قد يكون ولا يكون، فبدأ بذكر الذي لا بد منه، ثم عطف بالذي قد يقع أحيانًا، ويقوي هذا كون العطف بـ (أو)، ولو كان الدين راتبًا لكان العطف بالواو.
وقدّمت الوصية أيضًا إذ هي حظ مساكين وضعاف، وأخّر الدين إذ هو حظ غريم يطلبه بقوة، وهو صاحب حق له فيه، كما قال عليه السلام: إن لصاحب الحق مقالاً.
الرازي: روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إنكم لتقرؤون الوصية قبل الدين، وإن الرسول ﷺ قضى بالدين قبل الوصية. واعلم أن مراده رضي الله تعالى عنه التقديم في الذكر واللفظ، وليس مراده أن الآية تقتضي تقديم الوصية على الدين في الحكم لأن كلمة «أو» لا تفيد الترتيب ألبتة. واعلم أن الحكمة في تقديم الوصية على الدين في اللفظ من وجهين:
الأول: أن الوصية مال يؤخذ بغير عِوَض فكان إخراجها شاقًا على الورثة، فكان أداؤها مظنّة للتفريط بخلاف الدين، فان نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه، فلهذا السبب قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين في اللفظ بعثا على أدائها وترغيبًا في إخراجها، ثم أكد في ذلك الترغيب بادخال كلمة «أو» على الوصية والدين، تنبيهًا على أنهما في وجوب الإخراج على السوية.
الثاني: أن سهام المواريث كما أنها تؤخر عن الدين فكذا تؤخر عن الوصية، ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كان سهام الورثة معتبرة بعد تسليم الثلث إلى الموصى له، فجمع الله بين ذكر الدين وذكر الوصية، ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين، بل فرق بين الدين وبين الوصية من جهة أخرى، وهي أنه لو هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصايا وفي أنصباء أصحاب الإرث، وليس كذلك الدين، فانه لو هلك من المال شيء استوفى الدين كله من الباقي، وإن استغرقه بطل حق الموصى له وحق الورثة جميعًا، فالوصية تشبه الإرث من وجه، والدين من وجه آخر، أما مشابهتها بالإرث فكما ذكرنا أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية والإرث، وأما مشابهتها بالدين فلأن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كما أنها معتبرة بعد الدين، والله أعلم.
القرطبي: إن قيل: ما الحكمة في تقديم ذكر الوصيّة على ذكر الدَّين، والدَّين مُقدَّم عليها بإجماع؟ وقد روى الترمذيّ عن الحارث عن عليّ: أن النبي ﷺ قضى بالدَّين قبل الوصية، وأنتم تقرُّون (تقرءون) الوصيّة قبل الدّين.
قال: والعمل على هذا عند عامة أهل العلم أنه يُبدأ بالدّين قبل الوصية. وروى الدّارَقُطْنِيّ من حديث عاصم بن ضمرة عن عليّ قال: قال رسول الله ﷺ: “الدَّين قبل الوصيّة وليس لوارث وصيّة” رواه عنهما أبو إسحاق الهَمْدانيّ. فالجواب من أوجهٍ خمسة:
الأوّل: إنما قصد تقديم هذين الفصلين على الميراث، ولم يقصد ترتيبهما في أنفسهما، فلذلك تقدّمت الوصية في اللفظ.
جواب ثان: لما كانت الوصية أقلَّ لزومًا من الدَّين قدّمها اهتمامًا بها كما قال تعالى: (لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً) الكهف 49.
جواب ثالث: قدّمها لكثرة وجودها ووقوعها، فصارت كاللازم لكل ميّت، مع نصّ الشرع عليها، وأخّر الدّين لشذوذه، فإنه قد يكون وقد لا يكون. فبدأ بذكر الذي لا بُدّ منه، وعطف بالذي قد يقع أحيانًا. ويقوِّي هذا: العطف بـ (أو)، ولو كان الدَّين راتبًا لكان العطف بالواو.
جواب رابع: إنما قدّمت الوصية إذْ هي حظّ مساكين وضعفاء، وأُخّر الدَّين إذ هو حظُّ غريم يطلبه بقوّةٍ وسلطان، وله فيه مقال.
جواب خامس: لما كانت الوصية ينشئها مِن قِبَل نفسه قدّمها، والدَّين ثابت مؤدًّى، ذكره أو لم يذكره.
الألوسي: إيثار (أَوْ) على الواو للإيذان بتساويهما في الوجوب، وتقدمهما على القسمة، مجموعين أو مفردين. وتقديم الوصية على الدين ذكرًا مع أن الدين مقدم عليها حكمًا كما قضى به رسول الله ﷺ فيما رواه علي كرم الله تعالى وجهه، وأخرجه عنه جماعة، لإظهار كمال العناية بتنفيذها، لكونها مظنّة للتفريط في أدائها، حيث إنها تؤخذ كالميراث بلا عِوَض، فكانت تشقّ عليهم، ولأن الجميع مندوب إليها، حيث لا عارض، بخلاف الدين في المشهور، مع ندرته أو ندرة تأخيره إلى الموت.
وقال ابن المنير: “إن الآية لم يخالف فيها الترتيب الواقع شرعًا لأن أول ما يبدأ به إخراج الدين ثم الوصية، ثم اقتسام ذوي الميراث، فانظر كيف جاء إخراج الميراث آخرًا تلو إخراج الوصية، والوصية تلو الدين، فوافق قولنا قسمة المواريث بعد الوصية، والدين صورة الواقع شرعًا. ولو سقط ذكر بعد، وكان الكلام أخرجوا الميراث والوصية والدين (لأمكن) ورود السؤال المذكور”، وهو من الحسن بمكان.
ابن عاشور: المقصد هنا التنبيه على أهمّية الوصيَّة وتقدّمها. وإنَّما ذكر الدين بعدها تتميمًا لما يتعيّن تقديمه على الميراث، مع علم السامعين أنّ الدين يتقدّم على الوصيّة أيضًا، لأنّه حقّ سابق في مال الميّت، لأنّ المدين لا يملك من ماله إلاّ ما هو فاضل عن دين دائنه.