يحتفل العالم في الـ 23 أغسطس من كل عام بـ”اليوم الدولي لذكرى الاتجار بالرقيق الأسود وإلغائه”، وذلك بهدف توثيق مأساة الاتجار بالرقيق في ذاكرة الشعوب كافة، وإعطاء فرصة للنظر معا في الأسباب التاريخية لهذه المأساة الإنسانية وأساليبها وعواقبها وتحليل تفاعلات التي أثارتها في العالم.
إن الحديث عن تجارة الرقيق ليس حديثا عابرا أو ثانويا، فقد استمرت هذه التجارة تجارة اللاإنسانية المأساوية عبر المحيط الأطلسي، والذي شهد واحدة من أحلك الفصول في تاريخ البشرية، لمدة تفوق الـ 400 سنة، على الرغم من المقاومة الشرسة من قبل الملايين من الشعوب المستعبدة.
ومعروف أن الرق من الأمور التي كانت منتشرة قبل الإسلام، ولما جاء الإسلام لم يكن طرفا أوحد فيها، ولكنه جفف منابعها، ودعا إلى تركها، وجعل عتق الرقاب من أفضل الأعمال المقربة إلى الله تعالى، وأبدى الإسلام رغبته في تحريمه من جميع الأطراف.
وفي عصرنا الحالي، ونظرا للآثار السلبية التي خلفتها تجارة الرقيق، كان على الأمم المتحدة أن أعلنت يوم 23 أغسطس من كل سنة يوما عالميا لإحياء اليوم الدولي لذكرى الاتجار بالرقيق عبر المحيط الأطلسي بموجب قرار صادر عن الجمعية العامة في 17 ديسمبر عام 2007 ، تكملة لليوم الدولي لإحياء ذكرى تجارة الرقيق وذكرى إلغائها الذي أعلنته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو”.
ودعا القرار إلى وضع برامج التوعية التثقيفية من أجل حشد جهات منها المؤسسات التعليمية والمجتمع الدولي بشأن موضوع إحياء اليوم الدولي لذكرى الاتجار بالرقيق عبر المحيط الأطلسي لكي تترسخ في أذهان الأجيال المقبلة أسباب تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي ونتائجها والدروس المستخلصة منها والتعريف بالأخطار المترتبة على العنصرية والتحامل.
جريمة ضد الإنسانية
وفي تغريدة على حسابه على تويتر، أشار الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى أن الاتجار بالرقيق عبر المحيط الأطلسي انتهى منذ 200 سنة. لكنه أضاف “للأسف، لا نزال نعيش في ظلال الظلم العنصري.” كما شدد الأمين العام على الحاجة الماسة إلى محاربة العنصرية وتفكيك الهياكل العنصرية وإصلاح المؤسسات العنصرية.
وفي رسالة لها بمناسبة اليوم الدولي لذكرى الاتجار بالرقيق، قالت المديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي، “إننا ننحني إجلالا وتكريما لذكرى جميع ضحايا الاستعباد والاتجار بالرقيق إذ نحيي اليوم ذكرى أولئك الثوار.” و تُعد مكافحة الاتجار بالرقيق ومحاربة الاستعباد معركة متواصلة لا تحدها حدود المكان ولا الزمان. وأشارت أزولاي إلى أن “الاتجار بالرقيق الأسود نجم عن تصور عنصري للعالم، فقد أفضى هذا التصور بعدما تفاقم أمره وبات منظومة فكرية قائمة على أفكار عنصرية، إلى ممارسة سياسية واقتصادية واجتماعية ظالمة ومجحفة للغاية، يُعترف الآن بأنها جريمة ضد الإنسانية.” إذ لا يزال المنحدرون من أصل أفريقي يعانون في جميع أرجاء العالم معاناة يومية من العواقب الوخيمة لهذه التركة المشؤومة، وتصل هذه المعاناة أحيانا إلى حد إزهاق أرواحهم.
مشروع طريق الرقيق
وفقا للأهداف المرجوّة من مشروع اليونسكو المشترك بين الثقافات بعنوان “طريق الرقيق: المقاومة والحرية والتراث”، فمن المفترض أن هذا اليوم فرصة للنظر معا في الأسباب التاريخية لهذه المأساة وأساليبها وعواقبها، وكذلك تحليل التفاعلات التي أثارتها بين أفريقيا وأوروبا والأميركيتين ومنطقة البحر الكاريبي.
فالمشروع – كما قالت أزولاي – يهدف لمساعدة “الحكومات والجامعات ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني على قراءة تلك الصفحات المأساوية من تاريخنا والتفكر فيها واستخلاص العبر منها، ومكافحة النزوع إلى نسيان أو إنكار الماضي، على الرغم من توثيقه توثيقا جيدا، والتعريف بهذه التركة التاريخية بكل أبعادها وتعقيداتها.”
ويندرج هذا المشروع ضمن المشارع المهمة للعقد الدولي للمنحدرين من أصل أفريقي، الذي استهلته الأمم المتحدة في عام 2015، وهو يرمي إلى دحض كل الحجج البلاغية أو العلمية التي استُخدمت لتسويغ نظام الرق والعبودية.
عبودية العصر الحديث
وعلى الرغم من إلغاء هذه الممارسة المقيتة إلا أن عالم اليوم ما يزال يشهد أشكالا جديدة من العبودية. فعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي بُذلت، ما تزال العبودية الحديثة آفة مروعة، وهي موجودة على نطاق واسع. وتتخذ العبودية الجديدة عدة أشكال كالإتجار بالبشر، والعمل القسري والدعارة والاتجار بالأعضاء البشرية..وهي كلها ممارسات تشكل جريمة بحق الإنسانية، ضحاياها ينتمون إلى مختلف شرائح المجتمع، لكنها تستهدف غالبا الفقراء والمعوزين والأكثر هشاشة.
وتشير التقديرات إلى أن عدد ضحايا الأشكال الجديدة من العبودية حول العالم يتخطى الأربعين مليون شخص، وهو يوازي بثلاثة أضعاف عدد ضحايا الاتجار بالرقيق الأسود عبر المحيط الأطلسي.
وتعتبر تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي واحدة من أخطر الجرائم ضد الإنسانية التي شهدها العالم على الإطلاق. لكنها ليست مجرد حاشية قاتمة في تاريخ البشرية – لأننا ما زلنا نعيش بموروثاتها المخزية. لقد كشف جائحة كوفيد – 19 بشكل صارخ عن تلك الموروثات – بما في ذلك العنصرية وعدم المساواة ونقاط ضعف المنحدرين من أصل أفريقي في جميع أنحاء العالم. إن الظروف الصحية المرتبطة بالعنصرية الهيكلية ، مثل ارتفاع ضغط الدم وسوء التغذية والتعرض للتلوث ، تضر بالفعل بالمجتمعات في الشتات الأفريقي. لكن كوفيد – 19 أدى إلى تصعيد الوضع بشكل كبير وتسبب في معاناة السكان المنحدرين من أصل أفريقي بشكل غير متناسب.
وكشفت دراسة جديدة واسعة أثر تجارة الرقيق بين قارات أفريقيا وأميركا الشمالية وأميركا اللاتينية، وما حدث من استغلال اقتصادي وجنسي لملايين الرجال والنساء، حتى القرن التاسع عشر، مستعينة بتحليل الحمض النووي (دي ان إيه) للمتحدرين منهم. وشارك أكثر من 50 ألف شخص في القارة الأمريكية وأوروبا وإفريقيا في هذه الدراسة التي تجمع بين تحاليل الحمض النووي الفردي ومحفوظات مفصلة حول السفن التي نقلت “العبيد” وعددهم 12.5 مليون رجل وامرأة وطفل بين العامين 1515 و1865، حيث أنزل 70 % منهم في أميركا اللاتينية ؛ و300 إلى 500 ألف في أميركا الشمالية القارية.
التجارة بالعبيد واللاعقاب
في الوقت نفسه كشفت تقارير الأمم المتحدة وفقا للسجلات الدولية ، إلي أن تجارة العبيد الأفارقة ما زالت منتشرة في أمريكا الشمالية ، ولا تزال العبودية بلاء في العصر الحديث. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 40 مليون إنسان مرغمون على العمل بالسخرة أو على الزواج القسري أو أشكال أخرى من الاستغلال الجنسي. وتوجد في أفريقيا أعلى نسبة لانتشار العبودية إذ يقول تقرير أعدته مؤسسة ووك فري الحقوقية ومكتب العمل الدولي في 2018، إنه يوجد أكثر من سبعة ضحايا بين كل ألف نسمة عبيد .
ويعرف هذا التقرير العبودية بأنها “أوضاع استغلال لا يمكن للفرد رفضها أو الفكاك منها بسبب التهديدات أو العنف أو القهر أو الخداع أو استغلال السلطة. وأن من أوسع أشكال العبودية انتشارا في العصر الحديث الاتجار بالبشر من أجل الاستغلال الجنسي حيث يتعرض كثيرون للخداع ويحسبون أنهم سيحصلون على عمل آخر.
وذكر تقرير الأمم المتحدة ، إلي أنه رغم أن العبودية ألغيت بالفعل في جميع البلدان على مدى القرنين الماضيين، ولكن العديد من البلدان لا تعتبر العبودية جريمة قانونية، وتفتقر نصف دول العالم تقريبا -حتى الآن- لوجود قانون جنائي يعاقب على ممارسة العبودية أو التجارة بالعبيد. وفي تقرير نشره موقع “كونفرزيشن” الأسترالي، حيث يركز على إعادة تركيز الجهود العالمية للقضاء على العبودية الحديثة بحلول عام 2030، بما في ذلك مطالبة الدول بتجريم العبودية تماما وغيرها من الممارسات الاستغلالية باستخدام القوة أو الاحتيال أو الإكراه. وعلاوة على ذلك، ينبثق هذا البحث من قاعدة بيانات مخصصة لمكافحة العبودية، تنظر في التشريعات المحلية لكل بلد والالتزامات الملزمة التي قطعتها على نفسها من خلال الاتفاقات الدولية لحظر أشكال الاستغلال البشري، مثل العمل القسري والاتجار بالبشر والممارسات الشبيهة بالعبودية.
الإسلام والاتجار بالرقيق
محمد ﷺ والعبودية : لم يوجد الإسلام الرق ولم يشرعه، لأن الإسلام جاء والرقُ منتشرٌ بين الناس، وعند الأمم كلها، ولم يوجد في القرآن نصٌّ يبيح الرق، وإنما جاء في كتاب الله وفي السنة النبوية الدعوة إلى تحرير العبيد، واتخذ وسائلَ شتى لإنقاذ العبيد من العبودية.
وقد شجع النبي محمد ﷺأتباعه على عتق العبيد حتى لو اضطروا لشرائهم أولا ، أمر عليه الصلاة والسلام أصحابه في مناسبات عديدة أن يحرروا عدد كبير من العبيد. . ومن أبرز من حررهم ﷺ: صفية بنت حيي بن أخطب (التي أفرج عنها ثم تزوجها) ومارية القبطية (التي أرسلها له مسؤول بيزنطي) وسيرين (أخت ماريا القبطية ثم زوجها الرسول للشاعر حسان بن ثابت ) وزيد بن حارثة (الذي أطلقه محمد ثم تبناه).
منهج الإسلام في تحريم الرق : الرق من الأمور التي كانت منتشرة قبل الإسلام، ولما جاء الإسلام لم يكن طرفا أوحد فيها، ولكنه جفف منابعها، ودعا إلى تركها ، وجعل عتق الرقاب من أفضل الأعمال المقربة إلى الله تعالى، وأبدى الإسلام رغبته في تحريمه من جميع الأطراف ، فقال :”فَإِمَّا مَنًّا بعدُ وإمَّا فِداءً حتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزَارَها” (محمد -4) ، ولكنه ما كان يعقل أن لا يكون هناك أسرى حرب في الإسلام، في حين تسبى نساؤهم ويرق رجالهم. والمنصف يرى حال البشرية وموقفها من الرق بجانب موقف الإسلام في العصر القديم، ليرى أن الديانات الأخرى كانت تدعو إلى الرق والاستعباد، في الوقت الذي كان يدعو الإسلام إلى تحرير العبيد والمساواة الإنسانية بين بني البشر.
يقول فضيلة الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – : في مطالع البعثة المحمدية كان الرقيق واقعًا غير مُؤلِم ولا مستغرَب ولا منكور، وكانت جماهير الأرقَّاء تَزحَم المشارق والمغارب، لا يَأْبَهُ لهم أحدٌ ولا يفكر في إنقاذهم مُصْلِح. في أرجاء الدولة الرومانية النصرانية كان العبيد يَخدمون في صمت، وربما قُدِّم بعضهم طعامًا للوحوش في بعض المناسبات، وكان اليهود ـ وَفْقَ تعاليم التوراة ـ يُنظمون أساليب الاسترقاق للعِبرانيين وغير العبرانيين.
الإسلام أول من تكلم في تحرير الرقيق : كان الإسلام أول من تكلم في تحرير الرقيق في عصره : في هذا الجو القابِض الظَّلُوم كانت الإنسانية تعيش، ما أنصَفَتها فلسفة اليونان التي تُقرُّ الاسترقاق بعقلها المُفكر! ولا أنصَفَتها مَواريثُ التديُّن التي احتضنها الكهنة وأظلَمَت بها الأرض، حتى تكلَّم محمد ﷺ ، وأصاخ الناس إلى ما جاء به، فإذا هم يسمعون أن البشر كلهم إخوة بينهم نسَبٌ واحدٌ، وتَسري في أوصالهم نفخة مِن روح الله، وأنهم سواسيةٌ في الحقوق والواجبات، وأنهم خُلقوا ليَتعارفوا ويَتحابُّوا “يا أيُّها الناسُ إنَّا خلَقْناكُمْ مِن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعلناكم شُعوبًا وقَبائلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ” (الحجرات- 13) وسمع الناس للمرة الأولى في تاريخهم أن المُسترَقِّينَ يجب أن تُفَكَّ قيودُهم وتُعتقَ رِقابُهم، وأن العانِينَ ينبغي أن يُحرَّروا من الذُّلِّ والجُوع والهوان، وأن العقبات دون هذا كله لابد مِن اقتحامها لمَن يريد رضوان الله (فلا اقْتَحَمَ العَقبةَ. ومَا أدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أو إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ. أوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد- 11ـ16) وعلى المؤمنين أن يَتجرَّدوا لأداء هذا الواجب، فلا يُحرِّروا الأسرى ليَجعلوهم أتباعًا أو عبيدَ إحسانٍ بعد ما كانوا عبيدَ سطوةٍ، كلاّ، إنهم كما قال تعالى: (ويُطْعِمُونَ الطعامَ علَى حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأَسِيرًا. إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُريدُ مِنكم جَزاءً ولا شُكورًا) (الإنسان- 8 ـ 9).
إلغاء الإسلام لمصادر الرق
ولمَّا جاء دور التشريع لنقل هذه المبادئ إلى قوانينَ مُلزِمةٍ نظَر الإسلام إلى مصادر الرِّقِّ فألغاها كلها على النحو الآتي:
- الرق للعجز عن سداد الدين : من الجرائم عند الرومان عجز المعسر عن الوفاء بالدين، وقد رفض الإسلام هذه النظرة رفضا حاسما، ورصد من الزكاة المفروضة سهما لازما لسداد ديون المعسرين، قال تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) (البقرة – 280).
- خطف الأحرار : وكان الخطف مصدرا هائلا للاستعباد، وقد ظل الأوربيون يصطادون ملايين البشر بضعة قرون من غرب أفريقية، لكن الإسلام أبى خطف الأحرار، وهدم كل ما انبنى على هذا الخطف من آثار، وجاء في الحديث القدسي عن رب العزة: “قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته (غلبته) رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه الأجر.
- أسرى الحروب : وهو المصدر الثالث للاسترقاق وفي أول حرب خاضها الإسلام خرج على الدنيا بمبادئ أزكى وأرق في معاملة الأسرى، فنزل على رسول الله ﷺ في الأسرى بعد معركة بدر: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم. وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) (الأنفال– 70،71)