من المهام الأصيلة للعلماء في الأمة هو القيام بالمسؤولية الحضارية حين تأخذ السنن الأمة إلى مراحل متراجعة على سلم الحضارة، وتتمثل هذه المهمة في تهيئة الأمة وجدانيًا وعقليًا وتربويًا لها، والبحث عن الفكرة المركزية التي ينطلق منها هذا البعث، وهنا يشير الفاسي إلى مركزية فكرة “الدين” في تحقيق التألق الحضاري والانبعاث من جديد، وهذا يتطلب “…معرفة الدين نفسه ومركزه من الديانات الأخرى ومن النظريات والأفكار الإنسانية على اختلاف العصور.
وهذا ما يستوجب المعرفة بالبشر وباللغات والتطورات التاريخية والعلمية، وكل مقومات الحضارات الإنسانية، ووسائلها الثقافية لتكوين الخلق الإنساني في كل البيئات والعصور، وهكذا تصبح الدعوة الدينية نفسها محورا أساسًا تحيط به كل المعرفة الإنسانية وتنجذب إليه كل الابتكارات والمناهج البناءة، فتصبح هي والثقافة متحدتي المعنى، مشتركتي المدلول”.
الإصلاح الثوري الذي أحدثه الإسلام في المجتمع العربي كون من نفسه تعليما جديدًا
وإذا عرضنا لدراسة معالم الفكر العربي في الصدر الأول وتبينًا ثروة العرب الفكرية المدهشة في أبان نهضتهم العلمية المبدعة، وجدنا أن كل ما فعله العرب لم يكن إلا بباعث من الدين ولخدمة مقاصده، فالإصلاح الثوري الذي أحدثه الإسلام في المجتمع العربي كون من نفسه تعليما جديدًا كان الرسول مدرسته الأولى التي أخرجت من الأساتذة العلماء من ذهبوا في الآفاق يبلغون الدعوة، وينشرون العلم بمقوماتها، وسرعان ما احتاج الناس إلى تفهم الغايات والأسباب والمعاني والألفاظ فبدأت العلوم الإسلامية تتكون وسرعان ما بدأ الفكر العربي يتفتح، فاحتاج إلى معارضة المقاومين له ومقارعتهم بالحجة والبرهان فتكونت العلوم الإنسانية العقلية والفلسفية، وكان عصر الالتقاء بين مختلف الثقافات الإنسانية في ظل الدولة الإسلامية.
ولقد انتبه الكثيرون من علماء المسلمين ومن علماء الاستشراق أيضًا إلى الأثر الذي أحدثه الدين في ميدان المعرفة العربية، فاعترفوا بكون الدين نفسه كان السبب المباشر لا في خلق جو علمي قوى في الوسط المسلم فقط، ولكن في ابتكار العلوم وتعاطي ما كان موجودًا منها.
ومن ناحية أخرى يرى الفاسي مركزية القرآن في حركة النشاط الحضاري في تاريخ الحضارة الإسلامية، ويرى ضرورة استعادة تلك المركزية في بناء العلوم والمعارف الإسلامية المعاصرة “…إن القرآن الكريم كان سبب العلوم الإسلامية ومرجعها كلها فإنه ما من علم إلا وقد نظر أهله في القرآن وأخذوا منه مادة علمهم أو مادة الحياة له. فقد كانت سطوة الناس في الأجيال الأولى من العامة وأشباه العامة، شديدة على أهل العلوم النظرية إلا أن يجعلوا بينها وبين القرآن شيئًا من التأويل والاستشهاد والنظر في آثار الله، إلى ما يشبه ذلك بما يكون في نفسه صلة طبيعية بين أهل العقول والبحث وأهل القلوب والتسليم”.
قيام علماء المسلمين بمهمتهم هو الذي جعلهم يفتحون للفكر الإسلامي آفاقًا جديدة ويبتكرون للنظر منهجا تجريبيًا يختلف تماما عن الفكر القياسي
لقد فتح القرآن أذهان المسلمين ودفعهم لأن يقوموا بالنظر في الكون وتلمس أسراره واستجلاء غوامضه، وقد استجابوا للدعوة وقاموا بالمهمة فكان منهم الأقطاب العاملون الذين أناروا السبيل وعبدوا المناهج لمن بعدهم.
وقيام علماء المسلمين بمهمتهم هو الذي جعلهم يفتحون للفكر الإسلامي آفاقًا جديدة ويبتكرون للنظر منهجا تجريبيًا يختلف تماما عن الفكر القياسي الذي يسير عليه المنطق الأرسطي. وقد قرر الاستاذ بريفو BRIFF ULT في كتابه MAKING OF HUMANITY أن روجي بيكون تعلم العربية والعلم العربي. وأنه لم يكن له ولا لسميه الآخر فضل في إدخال المنهج التجريبي إلى أوربا، ولم يكن روجي بيكون في الحقيقة إلا واحدًا من رسل العلم والمنهج الإسلامي إلى أوربة المسيحية.
ولم يكف بيكون عن القول بأن معرفة العرب وعملهم هو الطريق الوحيد للمعرفة الحق لمعاصريه. ويقول بريفو: انتشر منهج العرب التجريبي في عصر بيكون، وتعلمه الناس في أوربة تحدوهم إلى هذا رغبة ملحة ـ
وهكذا نجد أن القيام بتحمل الميراث الثقيل الذي خلفه الرسول الأعظم ﷺ للعلماء، أدى بهم إلى أن يتحققوا قبل كل شئ بحقيقة العلم، كما أن الدعوة الإسلامية جعلت الفكر العربي يتحرر من كل القيود التقليدية ويميز بين ما هو منسجم مع العقل وما هو من الطفيليات التي تلتصق بالذهن كأغلوطة مقدسة موروثة.
ولقد اعترف دارسوا الحضارات الإنسانية بأن العرب استطاعوا أن يجعلوا خبر طابع لحضارتهم من مقدرتها على استكناه المسائل واقتناء المعرفة من جميع المنابع ثم صهرها وصياغتها بمقتضى المقياس العربي القائم على التجربة وعلى النظر. وبذلك هضموا كل ما تعلموه، واستحقوا أن يكونوا أساتذة العالم لا في ما ابتكروه من علم فقط بل في كل ما نقلوه عن غيرهم بأمانة ودقة.
إن علماء الإسلام الأولين أعطوا الشخصية النموذجية لانكباب الإنسان على التوفيق بين الطبيعة المعطاة له على أنها لا تحمل قيما روحية وبين الغاية الخلقية التي تملأ الطبيعة
لقد انصرف المجهود العربي كله لتوجيه الفاعلية الإنسانية الاجتماعية نحو منحى نمو الأخلاق أو بعبارة أدق منحى معرفة الإنسان لنفسه. فالطبيعة تؤخذ كخميرة أولى لتصنع منها عن طريق الثقافة مدنية غايتها هي الخلق أي معرفة الذات.
والعلم لا يقوم إلا بتجلية القيمة النهائية لتنوع الحوادث الإنسانية ولا يمكن أن يتخذ العلم الوضعي أو قوانينه كمعيار نهائي إلا إذا أعطينا للعلم وظيفة تزييف القيم الإنسانية وهو ما لا يستطيع العلم أن يدعيه. فالغاية أذن هي إنجاح التجربة الإنسانية المبتدئة من المشاهدة والمعتمدة على العقل في تقديم الحوادث المتنوعة طبقًا للغاية المثلى.
إن علماء الإسلام الأولين أعطوا الشخصية النموذجية لانكباب الإنسان على التوفيق بين الطبيعة المعطاة له على أنها لا تحمل قيما روحية وبين الغاية الخلقية التي تملأ الطبيعة بمحتوى روحي جديد عن طريق الثقافة. فالأشعري والماتريدي وأحمد بن حنبل ومالك والشافعي وأبو حنيفة والباقلاني وعياض وابن رشد وابن سينا والغزالي وابن تيمية وعديد غيرهم من مختلف أساطين المعرفة الإسلامية، ضربوا خير مثل لقيام “العالِم” بمهمته، في تجرد من حب الذات، وبُعد عن الملذات.