يحرص الإنسان على اختيار موقع مميز يبني فيه بيتا، يضع له الأساس الذي يتحمل مرور الأيام والليالي، ويزينه بما يناسب ذوقه الشخصي أو الموضة الجارية. ولهذا البيت – ككل ما في الدنيا – عمر افتراضي بينما هناك بيت يبقى بعد أن يفنى الناس ذلكم هو “بيت الحمد”، وبيت الحمد بيت يبنيه أصحابه في الدنيا لكنهم يسكنونه في الجنة.
قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِذَا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بيت الحمد ” بيوت الجنة كثيرة وفيها من ألوان الزينة والمتاع ما يسر العقل والقلب، لكن لفضيلة الصبر على فقد الأولاد وحمد الله تعالى والاسترجاع أمر الله عز وجل ببناء بيت الحمد خاصا بمن صبر على فقد ولده وحمد ربه واسترجع؛ تكريما للصبر والحمد وللصابرين والحامدين، وكأن في بيت الحمد من ألوان النعيم ما ليس في غيره من بيوت الجنة.
إن بيت الحمد بناء عظيم وثمنه كبير؛ فوفاة الأولاد ذكورا وإناثا صغارا وكبارا مصيبة ثقيلة يهونها الله تعالى على من شاء من خلقه؛ فيلهمهم الصبر ويفهمهم حقيقة الأبوة وأنها ليست ملكية للأبناء، بل الملك كله لله بما فيه من والد وولد، عندما يستحضر المصاب بوفاة ولده هذا المعنى يخف وقع المصيبة على قلبه.
وقد كان هذا المعنى حاضر في ذهن أم سليم حين توفي طفلها الصغير وأرادات أن تنقل الخبر لزوجها فصاغت قصة مفادها: أن ناسا استعاروا شيئا ولما طلبه أصحابه رفض المستعيرون إرجاعه وجعلته حكما بين الفريقين،فقالت: أَلَمْ تَرَ إِلَى آلِ أَبِي فُلاَنٍ اسْتَعَارُوا عَارِيَّةً، فَمَنَعُوْهَا، وَطُلِبَتْ مِنْهُم، فَشَقَّ عَلَيْهِم؟
فَقَالَ: مَا أَنْصَفُوا.
قَالَتْ: فَإِنَّ ابْنَكَ كَانَ عَارِيَّةً مِنَ اللهِ، فَقَبَضَهُ.
فَاسْتَرْجَعَ، وَحَمِدَ اللهَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا رَآهُ، قَالَ: (بَارَكَ اللهُ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا) .فَحَمَلَتْ بِعَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي طَلْحَةَ … قَالَ عَبَايَةُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ لِذَلِكَ الغُلاَمِ سَبْعَ بَنِيْنَ، كُلُّهُمْ قَدْ خَتَمَ القُرْآنَ
كم في البلية من عطية
ونحب أن نؤكد أن الله عز وجل سمى الموت مصيبة وأن هذه المصيبة درجات ربما يكون من أعلاها وفاة الولد؛ فهو ثمرة الفؤاد الذي ينتظر بره وإحسانه ساعة الكبر، وينتظر أن يشاركه لحظات الفرح وساعات السعادة، يرسم له الوالد المستقبل ويتمنى الأمنيات الكثيرة، يأتي الموت لكي يحطم كل ذلك لكن الأب والأم يتماسكان أمام هذا الإعصار، ويحمدان الله ففي البلايا التي تنزل بالخلق منح عظيمة لمن ألهمهم الله الصبر، منها:
1- تكفير الخطايا ورفع الدرجات.
2-ترويض النفس على تحمل ألم الفقد وتجنيبها الجزع الذي يتلف النفس والعقل والبدن ويصيب صاحبه بأمراض عديدة. هذا الترويض للنفس هو جزء من عملية التزكية، وقد وعد الله أهل التزكية بالفلاح {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } [الشمس: 9]
3-تعليم النفس الأدب مع الله تعالى حين يسلب النعم، وهذا يحتاج إلى علم بالله تعالى وتأمل في مجريات أقداره سبحانه.
الفرار إلى الله
يحمد المصاب بفقد ولده ربه ويقول:إنا لله وإنا إليه راجعون وهنا نلحظ الفرار إلى العبودية من ضغط هذه المصيبة الكبيرة التي تذهب عقول البعض وتفسد عليهم حياتهم، هذا الفرار جعل المصاب يفهم أن جميع الخلق إلى الله تعالى راجعون الوالد والولد والأب والجد، لكن هناك من يرجع إلى الله أولا وهناك من يليه وهكذا حتى تقوم القيامة فلا يبقى إلا وجه ربك الكريم.
وفرار المصاب بفقد الولد إلى العبودية جعله يدرك ما عند الله من جزاء للصابرين المحتسبين، لذلك حمد الله على هذا الجزاء الذي لا عد له ولا حد {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وكذلك يصنع الإيمان بأهله يجعلهم يرون ما في الابتلاء من منح ربانية وعطايا إلهية، بينما قليل الإيمان ضعيف البصيرة لا يرى إلا الألم والفقد والحرمان.
ومن كان من أهل الحمد على جزاء الصبر على فقد الولد استحق أن يحمد الله تعالى صبره، وأن يجازيه على صبره وحمده بأن يسكنه بيتا يسمى بيت الحمد.
( موت الأولاد فلذ الأكباد ومصابهم من أعظم مصاب وفراقهم يقرع القلوب والأوصال والأعصاب يا له من صدع لا يشعب يوهي القوي ويقوي الوهي ويوهن العظم ويعظم الوهن مر المذاق صعب لا يطاق يضيق عنه النطاق شديد على الإطلاق لاجرم أن الله تعالى حث فيه على الصبر الجميل ووعد عليه بالأجر الجزيل وبنى له في الجنة ذاك البناء الجليل) وهو بيت الحمد.
وإذا كان قضاء الله تعالى نافذ سواء رضي العبد أو كره، فعلى المسلم أن يسأل الله تعالى أن لايحمله ما لا طاقه له به وأن يلهمه الصبر عند المصيبة حتى لا يحرم مما يحب من نعم الدنيا ويحرم مما أعده الله تعالى للصابرين.
لبنات بيت الحمد
ككل البيوت تقام على أساس وتحتاج إلى أعمدة ولبنات وقد اخترت من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه ﷺ ومن كلام أهل الحكمة ما يقيم دعائم هذا البيت ويخفف المصاب ويبعث على الحمد والاسترجاع:
1-التسليم بقضاء الله تعالى، قال ﷺ: عَجِبْتُ لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ شَيْئًا إِلا كَانَ خَيْرًا لَهُ4 الإيمان هو الذي يجعل المسلم يعلم أن الخير في قضاء الله تعالى سواء أدرك هذا الخير بهداية الله تعالى له أو لم يدركه {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]،ومما يعين على ذلك أن نستحضر قوله تعالى:{وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا } [الكهف: 80، 81] فتدبير الله تعالى للعبد خير من تدبير العبد لنفسه.
2- {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة: 155 – 157]
3- عَنْ أَبِي حَسَّانَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ قَدْ مَاتَ لِيَ ابْنَانِ، فَمَا أَنْتَ مُحَدِّثِي عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثٍ تُطَيِّبُ بِهِ أَنْفُسَنَا عَنْ مَوْتَانَا؟ قَالَ: قَالَ: نَعَمْ، «صِغَارُهُمْ دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ[ أصل الدعموص دويبة تكون في الماء لا تفارقه أي أن هذا الصغير في الجنة لا يفارقها] يَتَلَقَّى أَحَدُهُمْ أَبَاهُ – أَوْ قَالَ أَبَوَيْهِ -، فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ – أَوْ قَالَ بِيَدِهِ -، كَمَا آخُذُ أَنَا بِصَنِفَةِ ثَوْبِكَ هَذَا[طرفه]، فَلَا يَتَنَاهَى – أَوْ قَالَ فَلَا يَنْتَهِي – [لا يتركه] حَتَّى يُدْخِلَهُ اللهُ وَأَبَاهُ الْجَنَّةَ”.
4-أصيب عروة بن الزبير بقطع رجله ووفاة ولده، فقال:اللَّهُمَّ كَانَ لِي بَنُوْنَ سَبْعَةٌ، فَأَخَذْتَ وَاحِداً وأَبْقَيْتَ لِي سِتَّةً، وَكَانَ لِي أَطْرَافٌ أَرْبَعَةٌ، فَأَخَذْتَ طَرَفاً وَأَبْقَيْتَ ثَلاَثَةً، وَلَئِنْ ابْتَلَيْتَ لَقَدْ عَافَيْتَ، وَلَئِنْ أَخَذْتَ لَقَدْ أَبْقَيْتَ.
5-قال أبو الحسن التهامي في رثاء ابنه الصغير:
حُكْمُ الَمنِيَّةِ فِي البَريَّةَ جارِ … مَا هَذهِ الدُّنْيَا بدَار قَرَارِ
بَيْنَا يُرَى الإِنْسَانُ فِيهَا مُخْبِراً … حَتَّى يُرَى خَبَراً مِنَ الأَخْبَارِ
وَالنَّفْسُ إنْ رَضِيَتْ بذَلكَ أَوْ أبَتْ … مُنْقَادَةٌ بِأَزمَّةِ الأَقْدارِ
يَا كَوْكَباً مَا كَانَ أَقْصَرَ عُمْرهِ … وَكَذَاكَ عُمُرُ كَوَاكِبِ الأَسْحَارِ
وَهِلاَلَ أَيَّامِ مَضَى لَمْ يَسْتَدِرْ … بَدْرا ولَمْ يُمْهَلْ لِوَقْتِ سَرَارِ
أَبْكِيهِ ثُمَّ أَقُولُ مُعْتَذِراً لَهُ … وُفِّقْتَ حِينَ تَرَكْتَ أَلأمَ دَارِ
جَاوَرْتُ أَعْدَائِي وَجَاوَرَ رَبَّهُ … شَتَّانَ بَيْنَ جِوَارهِ وَجوَاري