يعتبر كتاب :(الحداثة السائلة) لمؤلفه: زيجمونت باومان، من أهم الكتب الحديثة التي تناولت تأثير على أحوال الناس، اليومية والحياتية، فالكتاب الذي بين أيدينا، يقع ضمن سلسلة الفقه الاستراتيجي، وقد حاول صاحبه تقديم صورة عن تجليات الحداثة في واقع المجتمعات . ولعل الطرح المستنير الذي اعتمده الكاتب في دراسته لهذه الظاهرة أعطى بعدا مهما لهذا الكتاب، فجاء بمثابة “نص شارح، يقوم بتنزيل الإطار الكلِّي للحداثة السائلة على ما نعيشه في زمن السيولة في دائرة اليومي والشخصي”.
قسم الكاتب كتابه: (الحداثة السائلة)، الذي صدرت طبعته الأولى عن الشبكة العربية للأبحاث ببيروت عام:2016، -والذي يقع في 207 صفحة- إلى سبعة فصول رئيسية، جاء الأول تحت عنوان: الفرد تحت الحصار. والثاني: من الشهداء إلى الأبطال، ومن الأبطال إلى المشاهير. والثالث: الثقافة خارج السيطرة والإدارة. والرابع: البحث عن مأوى. والخامس: المستهلكون في مجتمع حديث سائل. والسادس: تعلم السير على الرمال المتحركة. والسابع: التفكير في أزمة مظلمة.
يبدو واضحا من خلال الفصول والسطور، أن الكاتب يسعى إلى إعطاء نبذة عن تأثيرات ” السائلة” على الواقع المعيش، في زمن لا صوت يعلو فيه على صوت السيولة والاستهلاكية. كما أنه أيضا يحاول تقديم بعض الحلول لهذه الظاهرة، ولعل أبرزها: التماسك الاجتماعي، الذي يطلق من أرضية الوعي الاجتماعي الناضج، الواعي بتحديات عصر العولمة الجارف.
إعـلانُ نهاية المجتمع الفاضل
تحدث زيجمونت باومان في مقدمة كتابه عن مفهوم :(الحداثة السائلة)، وقال :”إن الحياة السائلة هي حياة استهلاكية، إنها تجعل من العالم بكل أحيائه وجماداته موضوعات للاستهلاك، تفقد نفعها عند استخدامها..إنها تشكل معايير تقييم أحياء هذا العالم وجماداته وفق نموذج من موضوعات الاستهلاك، وهذه الموضوعات لها عمر افتراضي قصير، وإذا انتهى فلا يصلح استهلاكها..”.{ص:30}.
يواصل الحديث عن السيولة فيشير إلى مركزيتها، وكونها تمثل جسرا بين الحياة والمجتمع فيقول بأن “سيولة الحياة تتغذى على سيولة المجتمع، وتستمد طاقتها منها، والعكس صحيح..”. ثم يتحدث عن تأثيرات السيولة على المجتمع، فيذكر أنه “ليس بوسع الإنجازات الفردية في المجتمع الحديث السائل أن تكتسب صلابة الأشياء الدائمة، ذلك لأن المزية تتحول في لمح البصر إلى عيب، والقدرة إلى عجز..”.{ص:21}.
يستمر الكاتب في الحديث عن تأثير السيولة على العلاقة بين المجتمعات، فيقول :”إن المجتمع السائل أعلن نهاية فكرة (المجتمع الفاضل)، فإذا كانت الحياة السائلة تُعزز الاهتمام بالإصلاح الاجتماعي، فهو يستهدف في الغالب الأعم دفع المجتمع إلى التخلي عن التدريجي عن كل قيمة خاصة عدا قيمة القوة البوليسية التي تحمي الأفراد العاكفين على إصلاح نفوسهم..”.{ص:33}.
النزعة الفردية وقيمُ الحياة
يتحدث الكاتب عن الحصار الذي يقع تحته الفرد في الحياة السائلة، فيقول بأن “أعضاء المجتمع الخاضع لسيرورة النزعة الفردية يواجه بعض العوائق في طريقه إلى الفردية بحكم الواقع..”. ثم ينتقل إلى الحديث عن قيمة الحرية والأمن في المجتمع، ودورهما في إسعاد المجتمعات، فيقول :”إن الحرية والأمن قيمتان يسعى المرء إليهما، ويحرص على نيلهما كل الحرص، فلا غنى عنهما لحياة كريمة وسعيدة، وهما خطان يلتقيان في خطاب الهوية السائد..وفقدان الأمن يجرد الأفراد الأحرار من الثقة، أما فقدان الحرية فيصور الأمن في صورة عبودية أو سجن..”. وفي إطار حديثه عن الحرية تحديدا أشار إلى نقطة قد تبدو مهمة للغاية، في بعض الأحيان، أو بعض المجتمعات، وهي أن “..الزيادة في الحرية ربما تترجم نفسها إلى نقصان في الأمن والعكس صحيح..”.{ص:63و64}.
مكانة الشهداء في المجتمع السائل
يعرف الكاتب الشهادة بأنها:”..تضامن مع جماعة صغيرة ضعيفة تعاني من ما تمارسه الأغلبية من تمييز وإذلال واضطهاد وسخرية وكراهية، لكنها في جوهرها تضحية فردية، حتى وإن كانت بدافع الولاء للقضية وللجماعة التي ترمز إليها..”. بعد هذا التعريف بدأ الكاتب في تحديد مكانة الشهيد والبطل في المجتمع السائل الاستهلاكي، فقال إنه “لا مكان للشهداء والأبطال في المجتمع الاستهلاكي الحديث السائل في الجزء الثري من الكرة الأرضية..”، والسبب في ذلك حسب المؤلف هو أن “المجتمع يحقِّرُ القيمَتَينْ اللتَيْن استدعتا وجود الشهداء والأبطال، ويدنيهما ويحاربهما، ويحط من قدر المثل التي تحتفي بالكلية والمدى البعيد، فلا تحظى تلك المثل بجاذبيتها المعهودة..”.{ص:74و75}.
يواصل الكاتب الحديث عن مكانة الشهداء فيقول إن “المجتمع الحديث السائل ينظر إلى أعمال الشهداء والأبطال ومن على شاكلتهم الهجينة، باعتبارهم أناسا غير عقلانيين يتعذر فهمهم، ومن ثم فهم يثيرون أشد الاستياء والنفور..”.{ص:76}. وفي هذا السياق يذهب الكاتب إلى زاوية أخرى ليُشير إلى مصدر التضحية، فيقول :”إن التضحية تعود إلى تراث الثأر القديم الذي سعت سعيا حثيثا إلى تجريمه والقضاء عليه، لكن يبدو أنه يخرج من الأزمنة الحديثة السائلة من قبره الضحل، ويتدرّعُ بجسد من جديد..”.{ص:77}.
الإبداع الثقافي والسُّوق الإستهلاكية
يتحدث الكاتب عن موضوع الثقافة والإبداع في العالم الحديث السائل، فيقرر في البداية من خلال العنوان أن “الثقافة خارج السيطرة والإدارة”، ثم يستعرض واقع صناع الثقافة والأدوار المنوطة بهم، والحالة التي ينبغي أن يكون عليها الإبداع الثقافي في المجتمع، فيقول: “إن إخضاع الإبداع الثقافي لمعايير السّوق الاستهلاكية يعني إرغامها على القبول بمتطلبات المنتجات الاستهلاكية الأصلية كافة غير مزيفة في سابق الزمان، فإما أن تكتسب شرعيتها من القيمة السوقية، وإما أن تفنى..”.{ص:89}.
المجتمع الاستهلاكي وإشباع الرغبات
هنا يشير الكاتب إلى الحالة الاستهلاكية التي تسيطر على المجتمعات، فيتحدث عن حال المستهلكين في المجتمع الحديث السائل، وعن إصرارهم على إشباع الرغبات البشرية، مهما كلف الثمن، فيقول :”إن المجتمع الاستهلاكي يقوم على وعد بإشباع الرغبات البشرية بما يفوق ما كان بإمكان المجتمعات الماضية كافة أن تشبعه أو تحلم بإشباعه..”. {ص:113}. وهذا الكلام يعكس جزء كبيرا من المستوى الذي وصلت إليه المجتمعات في عصرنا اليوم، الذي أصبح نظام السوق هو المسيطر عليه، ونكتشف ذلك من خلال :”مجتمعنا الذي تحكمه قواعد السُّوق، فلكل حاجة أو رغبة أو أمنية ثمنا معروفا، فلا يمكن امتلاك شيء إلا بشرائه..”.{ص:141}.
يستمر الكاتب في الحديث عن هذه الظاهرة، لينصح لنا بالاحتراس من الخسارة وعدم الرهان على حصان واحد في مجال الاستهلاك، لأن المتغيرات في الحياة هي التي تمثل النسبة الأعلى، بينما الثوابت دائما تكون نسبتها الأقل، فالعالم اليوم يتكون من “حياة استهلاكية، وجسد استهلاكي، وطفولة استهلاكية”، وهذا يؤكد انتشار الثقافة السوقية، فـ”السلع الاستهلاكية تتعهد اليوم بألا تصبح سلعا متطفلة أو ثقيلة على النفس..إنها تطمئننا بأنها تدين لنا بكل شيء، وأننا لا ندين لها بأي شيء..”.{ص:123}.
أهمية التعليم
لم يغفل الكاتب موضوع التعليم، بل تحدث عنه وعن أهميته عبر العصور، خصوصا في عصرنا اليوم، وقال :”إن فلاسفة التعليم في عصر الصلبة كانوا ينظرون إلى المعلمين باعتبارهم أجهزة إطلاق القذائف والصواريخ البالستية..”، والقذائف الذكية فيما بعد، ثم استطرد في الحديث حتى قال :”إن التعليم في العصر الحديث السائل، لا بد وأن يكون مستمرا ومدى الحياة، حتى يتحقق نفعه..”.{ص:159}.
اختتم حديثه عن التعليم وأهميته، بحقيقة كبرى وهي قوله :”إن الجهل يفضي إلى شلل الإرادة، فالمرء لا يعلم خفايا المستقبل، ولا يمكنه حساب المخاطر..”. كما أشار إلى أن “الجهل السياسي يولد نفسه بنفسه من دون تدخل قوة خارجية..”. {ص:170}. وهذه حقائق دقيقة يصعب نُكرانها، أو تَجاهلها، في أي زمن من الأزمان.
بقي أن أقول إن ظاهرة السُّوق أصبحت تهدد حياتنا، لأنها تؤثر في مواقفنا السياسية والثقافية والاجتماعية، فالقيم –للأسف- أصبحت تباعُ وتشرَى، كأي سلعة تجارية رخيصة، وهذا ما جعل المجتمعات تفتقد كثيرا من رمزيتها ومكانتها، فهل سننتصر يوما من الأيام على هذه الظاهرة، ونعود إلى قيمنا الإنسانية الحضارية الأصيلة، أم أن الهزيمة ستظل تلاحقنا على المستوى التاريخي والجغرافي، إلى ما لا نهاية؟!.