اهتم القرآن الكريم بتأسيس “الفكر السنني”، أي القائم على السُّنن الإلهية استمدادًا منها ورعايةً لها، وذلك من خلال أمرين أساسين؛ هما الأمر بالسير في الأرض للتعرف على الكون ومعاينة أحوال السابقين، إضافة إلى ما نصَّ عليه القرآن صراحة من بعض السنن الإلهية، مثل سُنَّتَيْ التَّدافُع والمُدَاوَلة.
و”الفكر السُّنني” هو ذلك الفكر الذي يدرك أن الكون، بِأَنْفُسِه وآفاقِهِ، ينتظم وفق قانون، ولا يسير خبط عشواء أو ارتجالاً أو مصادفة؛ فكل شيء خلقه الله تعالى بِقَدَر، وكل أمر واقعٌ تحت مشيئته سبحانه، خاضعٌ لحكمته جلّ شأنه؛ كما أن عِبَر التاريخ تتكرر، وتجارب الإنسان فردًا أو مجموعًا تتشابه.
قال تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (القمر: 49)، وقال أيضًا: { لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } (يس: 40). وقال سبحانه: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ } (ص: 27).
وقد أسَّس القرآن الكريم للفكر السُّنني، من خلال أمرين أساسين:
أولا : الأمر بالسير في الأرض للتعرف على الكون ومعاينة أحوال السابقين
ورد في القرآن الكريم الأمر بالسير في الأرض في عدة مواضع، مقرونًا ذلك ببيان الغاية من هذا السير؛ وهي النظر في الكون ومشاهدة دلالته على الخالق سبحانه، بما فيه من إبداع وانتظام يقومان على السنن. ومن ذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت: 19، 20)
كما ورد الأمر بالسير في الأرض، بهدف التعرف على أحوال من سبق، والاعتبار بمصيرهم؛ لأن السنن ثابتة، والنتائج تتكرر متى تشابهت المقدمات؛ سواء في الصلاح والنجاة، أو الطلاح والخسران.
يوضح الدكتور عبد الكريم زيدان أن سنّة الله بيّنتها آيات كثيرة في القرآن الكريم؛ فنحن نجدها في آيات قصص القرآن وسيرة الأنبياء، وما جرى لهم مع أقوامهم، وفي أخبار الأمم السابقة وفي صراع أهل الحق مع أهل الباطل. ولو ذهبنا نعدّ هذه الآيات لألفيناها أكثر من آيات الأحكام؛ فعلى ماذا يدل هذا؟ نعتقد أن هذه الكثرة من آيات القرآن التي جاء فيها ذكر (سنة الله) ومعناها وتطبيقها، تدل دلالة قاطعة على أهمية المعرفة بسنّة الله في الكون ووجوب فهمها من قبل المسلمين، كما يجب عليهم فهم أمور العبادات التي تخصهم؛ لأن الله عزّ وجلّ لا يخص بالذكر في القرآن الكريم إلا ما يلزم ذكره ويحتاج الناس إلى معرفته. فإذا تكرر ذكر شيء دلّ ذلك على أهميته. ولهذا، جاء في هذه الآيات التي أشرنا إليها ما يدعو إلى التأمل والاتعاظ والافتكار في سنن الله، كما جاء فيها دعوة صريحة إلى وجوب فهم سنن الله في الاجتماع البشري. فمن النوع الأول قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} (يوسف: 111). ومن النوع الثاني قوله تعالى: { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} (آل عمران: 137) ([1]).
فهذا الأمر بالسير في الأرض يؤسس للفكر السُّنَني، ويمده بالبراهين والدلائل التي تجعله راسخًا في عقل الإنسان وتفكيره وسلوكه؛ بحيث لا ينفك عن تدبر هذه السنن، والانطلاق منها، والاحتكام إليها.
ثانيًا: النصُّ صراحة على بعض السنن الإلهية
لم يتركنا القرآن الكريم لمطلق الأمر بتدبر السنن المبثوثة في الكون وفي أخبار مَن سبق، وإنما أعاننا على ذلك ببيان بعض السنن نصًّا، وبالإشارة إلى بعضها الآخر تقريرًا ومضمونًا وتلميحًا.
يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة: “الدعوة للسير في الأرض، التي حث عليها القرآن، إنما هـي في الحقيقة للاستدلال والتأكد من فاعلية السنن، التي قررها القرآن، وعدم تخلفها، من جانب؛ والامتداد والاكتشاف لسنن أخرى بالاستقراء والملاحظة، وديمومة النظر العقلي، من جانب آخر. وإلا فما قيمة القصص القرآني الخالد، إذا لم يشكل عقلاً مدركًا للقوانين والسنن، التي تحكم التجمع الإنساني، وتتحكم بقيام وسقوط الحضارات، هل هـي حكايات لتزجية الوقت أسقطها الزمن وطواها التاريخ؟!”([2]).
ومن السنن الإلهية التي نص عليها القرآن الكريم صراحة:
– سنة التداول:
أي أن أحوال الأمم لا تدوم على حال، وإنما تكون الغلبة سجالاً ولمن يستوفي شروط النصر والقوة. وذلك في قوله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران: 140).
– سنة المدافعة أو التدافع:
أَيْ: لَوْلَا أَنَّه سبحانه يَدْفَعُ عَنْ قَوْمٍ بِقَوْمٍ، ويكشفُ شَرّ أُنَاسٍ عَنْ غَيْرِهِمْ، بِمَا يَخْلُقُهُ وَيُقَدِّرُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ؛ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَأَهْلَكَ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ([3]). وذلك في قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40).
– سنة الإمهال للظالمين:
أي عدم التعجل في إهلاكهم، وإنما يمد الله لهم ويمهلهم لأجل معلوم عنده سبحانه: {أَلَمۡ تَرَ أَنَّاۤ أَرۡسَلۡنَا ٱلشَّیَـٰطِینَ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ تَؤُزُّهُمۡ أَزࣰّا فَلَا تَعۡجَلۡ عَلَیۡهِمۡۖ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمۡ عَدࣰّا} (مريم: 83، 84).
ومن هذه السنن أيضًا، على وجه الإجمال:
قانون السببية– سنّة الله في الأسباب والمسببات.. قانون الهدى والضلال- سنّة الله في اتباع هداه والإعراض عنه.. قانون الابتلاء- سنّة الله في الفتنة والابتلاء.. قانون الاختلاف- سنّة الله في الاختلاف والمختلفين.. قانون الترف– سنّة الله في الترف والمترفين.. قانون بطر النعم وتغيرها- سنّة الله في بطر النعمة وتغيرها.. قانون الاستدراج- سنّة الله في الاستدراج([4]).
وهكذا، نرى القرآن الكريم يؤسس للفكر السُّنني، ويريد من المسلم أن يَمْضِي في الحياة على هُدى وبصيرة؛ سواء من “المنهج” الذي أُنزل إليه، أو من “التاريخ الإنساني”.. حتى لا يتخبط في الظلام، أو يكرر أخطاء الآخرين.
([1]) السنن الإلهية، د. عبد الكريم زيدان، ص: 25.
([2]) عمر عبيد حسنة، تقديمه لكتاب: أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، ص: 13.
([3]) تفسير ابن كثير، 5/ 435.
([4]) السنن الإلهية، د. عبد الكريم زيدان، ص: 18، 19.