تعد ظاهرة الاختيار من أهم الظواهر في تاريخ الدراسات القرآنية، حيث يعود لها الفضل في ضبط القراءات القرآنية، وقد اعتنى علماؤها الأجلاء بهذه الظاهرة بشكل لافت منذ القرون الأولى فصنفوا المصنفات وقعَّدوا القواعد ووضعوا الضوابط من أجل حماية علم القراءات من مخاطر الخلاف والفوضى في الاختيار وتشعُّب الطرق، ويمكن القول إن كتاب “تاريخ ضبط القراءات القرآنية” للكاتب محمد بن جاسم الجاسم من آخر الكتب التي ألفت في هذا المجال (1).
وقد سلط المؤلف محمد بن جاسم الجاسم في كتابه هذا الضوء على تاريخ ضبط القراءات القرآنية من خلال التركيز على ظاهرة الاختيار التي كانت لها كلمة الفصل في هذا الشأن، حيث قدم لنا عرضاً واضحاً لمسيرة ضبط القراءات القرآنية منذ البداية حتى الصورة التي استقرت عليها كما نراها اليوم، وذلك من خلال ثلاثة فصول تتناول مفهوم الاختيار وحكمه ونشأته ومراحله وأئمته ومناهجه، كما تعرّج على القراءات الشاذة وأحكامها وأقسامها.
مفهوم الاختيار
الاختيار في اللغة الاصطفاء والانتقاء، وفي اصطلاح الأقدمين لا يخرج عن هذا المعنى اللغوي، يقول الإمام ابن الجزري (ت: 833 هـ) في كتابه “النشر في القراءات العشر“: “القارئ اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة حسبما قرأ به، فآثره على غيره وداوم عليه ولزمه حتى اشتهر وعُرف به، فلذلك أضيف إليه دون غيره من القراء، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد.
أما الشيخ طاهر الجزائري (ت: 1920م)، فقد عرف الاختيار عند القراء بقوله: “الاختيار عند القوم أن يعمد من كان أهلاً له إلى القراءات المروية، فيختار ما هو الراجح عنده، ويجرد من ذلك طريقاً في القراءة على حدة”، في حين عرفه الدكتور عبد الهادي الفضلي بأنه “الحرف الذي يختاره القارئ من بين مروياته مجتهداً في اختياره”، وعلى هذا المنوال سار أغلب العلماء الذين عرفوا الاختيار عند القراء.
وفي سياق الحديث عن تاريخ ضبط القراءات القرآنية من خلال ظاهرة الاختيار، وعن مفهوم الاختيار، قد يقفز إلى ذهن القارئ سؤال مشروع يقول نصه: ما حكم الاختيار؟ وإجابة على هذا السؤال المتوقع نقول إن كتب الحديث تسعفنا بجملة من الأحاديث النبوية التي يمكن أن يستدل من خلالها على حكمه، ومنها حديث: عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله ﷺ أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه، فجئت به رسول الله ﷺ، فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال رسول الله ﷺ: أرسله، اقرأ، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله ﷺ: هكذا أنزلت، ثم قال لي: اقرأ، فقرأت، فقال: هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه.
ولكن هذا لا يعني أن باب الاختيار يبقى مفتوحاً على مصراعيه، بل هناك ضوابط ومعايير لقبول الاختيارات، وقد ورد في كثير من التصانيف أن هناك ثلاثة أركان هي: موافقة الرسم العثماني، وموافقة اللغة العربية، وتواتر السند أو صحته، وقد عبر عن هذه الأركان الثلاثة أكثر من عالم، يقول مكي (ت: 120 هــ): “وإنما الأصل الذي يعتمد عليه في هذا: أن ما صح سنده، واستقام وجهه في العربية، ووافق لفظه خط المصحف، فهو من السبعة المنصوص عليها ولو رواه سبعون ألفاً متفرقين أو مجتمعين”، ويقول ابن الجزري (ت: 833 هـ): “كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً، وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن.. إلخ”.
نشأة الاختيار
لا جدال في أن ظاهرة الاختيار قديمة وليست جديدة في حقل الدراسات القرآنية، وليس من المجازفة القول إن بذورها الأولى تعود إلى القرون الأولى، فبعد تنزّل الرحمة على نبي الهدى وتقاطر وفود العرب لتشهد بأن الله بعث محمداً بالحق بدا جلياً أن هناك قبائل مختلفة يعسر عليها تغيير ألسنتها، فسأل رسولنا ﷺ ربه جل جلاله التخفيف عن أمته، فاستجاب الله لنبيه وأمره بقراءة القرآن على سبعة أحرف، فكان تعليم النبي ﷺ القرآن للقبائل على ما يوافق لهجاتهم أولى مراحل ظاهرة الاختيار في القراءات.
ويمكن القول إن هذا ليس السبب الوحيد لنشأة ظاهرة الاختيار، بل هناك جملة أخرى من الأسباب التي دعت الأئمة إلى الاختيار في القراءات، منها: ثبوت أحاديث التخيير في قراءة القرآن بأي حرف من الأحرف السبعة وعمل الصحابة رضي الله عنه بها، وكثرة القراء من الصحابة وانتشارهم في الآفاق، هذا بالإضافة إلى جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه وإرسال المصاحف إلى الأمصار، ثم التسهيل على آخذي القرآن وعلى العامة، وتبحُّر بعض القراء في اللغة والنحو حتى صاروا أئمة في هذا المجال.
وما دمنا قلنا إن ظاهرة الاختيار ظهرت بشكل مبكر، فيمكننا أن نضيف هنا أن هذه الظاهرة مرت بمراحل عديدة أجملها الدكتور أمين بن إدريس فلَّاته في ثماني مراحل: الأولى مرحلة ورود التخيير في قراءة القرآن بالأحرف السبعة، والثانية مرحلة اشتهار اختيارات وقراءات بعض بعض الصحابة، والثالثة رحلة الإجماع على اختيار ما وافق المصاحف العثمانية، والرابعة مرحلة التخصص للإقراء والتزام اختيار معين أو قراءة معينة.
أما المرحلة الرابعة، فهي مرحلة الاقتصار على اختيارات قراء معينين من أصحاب القرن الذهبي للاختيار وتبدأ بتسبيع ابن مجاهد، تليها مرحلة تمحيص وتحقيق اختيارات القراء السبعة، ثم مرحلة حصر القراءات والاختيارات المشهورة الصحيحة المسندة التي بدأت في القرن التاسع الهجري مع ابن الجزري.
وفي المرتبة الثامنة تأتي مرحلة التحريرات للأوجه التي بدأت حوالي عام 1000 هـ بعد الركود الذي أصاب علم القراءات بعد جهود ابن الجزري، ويعتبر الشيخ عبد الرزاق بن علي بن إبراهيم بن موسى -صاحب كتاب “تأملات حول تحريرات العلماء للقراءات المتواترة”- من أبرز رواد هذه المرحلة المهمة في تاريخ القراءات القرآنية (2). ويمكن أن نكتشف أكثر طبيعة المراحل التاريخية التي مرت بها ظاهرة الاختيار في القراءات القرآنية عندما نتحدث عن أئمة الاختيار الأجلاء ومصنفاتهم المختلفة التي ألفوا في مناحٍ شتى من هذا الفن العظيم الذي يأخذ مكانته وشرفه من انتمائه للقرآن الكريم، الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أئمة الاختيار
لقد أدى اهتمام علمائنا الأجلاء بظاهرة الاختيار إلى ظهور عدد كبير من المصنفات في مجالات الاختيار والقراءات المختلفة، ولعل من أوائل من صنف في الحروف والاختيار: هارون بن موسى العتكي الأعور (توفي قبل 200 هـ)، والإمام علي بن حمزة الكسائي (ت: 189 هـ) صاحب “كتاب القراءات”، ويعقوب بن إسحاق الحضري (ت: 205 هـ) صاحب “الجامع في اختلاف وجوه القرآن”، وخلف بن هشام البزار (ت: 229 هـ) صاحب “الاختيار في القراءات”.
وفي سياق الحديث عن أئمة الاختيار لا يمكن بحال من الأحوال أن ننسى الإمام الهمام ابن مجاهد أحمد بن موسى (ت: 324 هـ) الذي كفانا مؤونة اختيار جديد عندما قام باختيار سبعة من أشهر قراء الأمصار، ولما سئل عن ذلك قال: “نحن إلى حفظ ما مضى عليه أئمتنا أحوج إلينا من اختيار حرف يقرأ به من بعدنا”، والسبعة هم: نافع المدني (ت: 169 هــ)، وابن كثير المكي (ت: 120 هــ)، وعاصم بن أبي النجود (ت: 129 هــ)، وحمزة الزيات (ت: 156 هــ)، وعلي الكسائي (ت: 189 هــ)، وأبو عمرو البصري (ت: 154 هــ)، وابن عامر الشامي (ت: 118 هــ).
ورغم أن أثر ابن مجاهد على علم القراءات كان بالغاً وواضحاً واختياراته كانت موفقة بلا شك، إلا أنه حصل اعتراض على تسبيع ابن مجاهد من طرف بعض العلماء، مثل أبي العباس المهدوي (ت: 430 هـ) صاحب “الهداية في القراءات السبع” و”بيان السبب الموجب لاختلاف القراءات وكثرة الطرق والروايات“، ومما جاء في اعتراضاته: وقد فعل مسبع هؤلاء السبعة ما لم يكن ينبغي أن يفعله، وأشكل على العامة حتى جهلوا ما لم يسعهم جهله، وذلك أنه قد اشتهر عند الكافة قول النبي ﷺ: “أنزل القرآن على سبعة أحرف.
ويبدو أن الاعتراضات التي حصلت على اختيارات ابن مجاهد بسبب تشعب طرق الرواة هي التي دفعت إمام الأئمة في زمانه عثمان بن سعيد أبو عمرو الداني (ت: 444 هـ) إلى اختيار أشهر الرواة عن القراء السبعة الكرام وذكر لكل قارئ روايتين، وقد صرح الداني بهذا الأمر في مقدمة “التيسير في القراءات السبع” فقال: “ويتضمن {الكتاب} من الروايات والطرق ما اشتهر وانتشر عند التالين، وصحَّ وثبت عند المتصدرين من الأئمة المتقدمين، وذكرت عن كل واحد من القراء روايتين”، وهي الروايات المشهورة عندنا اليوم.
ولكن أمر اختيار القراءات لم يتوقف عند هذا الحد، فقد تأثر الإمام الشاطبي (ت: 590 هـ) بالإمام الداني (ت: 444 هـ)، فألف نظمه المشهور بـ “الشاطبية” المتخصص في نظم اختيارات القراء السبعة الذين اختارهم ابن مجاهد عن طريق الرواة الأربعة عشر الذين اختارهم الإمام الداني، وفي وقت لاحق استشعر الإمام ابن الجزري (ت: 833 هـ) أن هذا الفن يواجه خطراً حيث أصبح الناس لا يكادون يثبتون قرآناً إلا من خلال “الشاطبية” و”التيسير”، فقام بتأليف كتابه “النشر في القراءات العشر“، فكان ابن الجزري بذلك خاتمة المحققين في هذا الفن العظيم.
مناهج الاختيار
ولأن ظاهرة الاختيار مرت بمراحل وتطورات متعددة، فقد يكون من الطبيعي أن يتساءل القارئ عن المناهج التي يعتمد عليها أهل الاختيار في اختياراتهم، وللإجابة على هذا السؤال يمكن القول إن هناك أربعة مناهج اعتمدها أئمة الاختيار في اختياراتهم، وهي: المنهج الروائي، والمنهج اللغوي، والمنهج التفسيري، والمنهج الرسمي.
وإذا بحثنا عن تعريفات لهذه المناهج، فسنجد أن أهل هذا الفن يقصدون بالمنهج الروائي أو الأثري المنهج الذي يعتمد صاحبه على ما صحَّ عنده من الروايات والآثار والأخبار لاختيار قراءة دون أخرى، يقول ابن مجاهد: “وكان الإمام الذي قام بالقراءة بعد التابعين بمدينة رسول الله ﷺ نافع، قال: وكان عالماً بوجوه القراءات، متبعاً لآثار الأئمة الماضين ببلدهم”، وقال الإمام نافع: “والله ما قرأت حرفاً إلا بأثر”.
أما المنهج اللغوي فهو المنهج الذي يعتمد على اللغة وفصاحتها في الاختيار فيختار القارئ الوجه لما يراه فيه من قوة وموافقة للقياس والنحو، يقول النحاس: “قال لي أبو يعقوب الأزرق: إن ورشاً لما تعمق في النحو وأحكمه اتخذ لنفسه مقرأً يسمى (مقرأ ورش)”، في حين يعرف المنهج التفسيري أو المعنوي بأنه المنهج الذي يعتمد القارئ فيه على دلالة القراءة في سياق الآية فيختار الأوضح والأشمل، قال الإمام الهذلي عن الحسن البصري: “واختار اختياراً يوافق التفسير، اقتدى به أبو عمرو الذي هو رئيس العصر، سيد الوقت، وعاصم الجحدري صاحب عدد أهل البصرة”.
ويعرف المنهج الرسمي بأنه المنهج الذي يعتمد فيه القارئ على ما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم في رسمهم في المصحف العثماني، ومن أشهر من عرف بهذا المنهج الإمام مكي الذي اختار قراءة الصاد في (الصراط) دون القراءة بالسين أو الإشمام بالزاي، وقد برر اختياره بقوله: فإن قيل: فما اختيارك في ذلك؟ فالجواب أن الاختيار القراءة بالصاد اتباعاً لخط المصحف، ولإجماع القراء عليه، ولما ذكرنا من مشابهة الصاد بالطاء في الإطباق، وبعد السين من الطاء في الهمس والتسفل اللذين فيها.
القراءات الشاذة
إن الحديث عن الاختيار والقراءات المقبولة لا ينبغي أن يختتم دون التطرّق للقراءات الشاذة التي خالفت الشروط التي وضعها المحققون لقبول القراءة القرآنية، والحديث عن القراءات الشاذة يقتضي تسليط الضوء على مكانتها وأقسامها وأحكامها، وهذا ما سنقوم به في السطور التالية بشكل موجز.
لقد تحدث العلماء حول مكانة وحكم القراءات الشاذة، ورغم أن البعض ذهب إلى أن القراءات الشاذة لها مكانة خاصة تتمثل في إعمالها في ميادين اللغة باعتبارها من الفصاحة، إلا أن العلماء أجمعوا على أن القراءات الشاذة لا تسمى قرآناً ولا يقرأ بها في المحراب، قال ابن عبد البر: “وأجمع العلماء أن ما في مصحف عثمان بن عفان -وهو الذي بأيدي المسلمين اليوم في أقطار الأرض حيث كانوا- هو القرآن المحفوظ الذي لا يجوز لأحد أن يتجاوزه، ولا تحل الصلاة لمسلم إلا بما فيه”.
ويبدو أن هناك من حاول تقسيم القراءات الشاذة إلى عدة أقسام، ومن هؤلاء سامي عبد الشكور -صاحب كتاب “القراءات الشاذة”- الذي قام بتقسيمها إلى ثلاثة أقسام: الشاذ والمدرج والموضوع، ويعني بالشاذ ما صح سنده ولم يبلغ حد التواتر وخالف الرسم العثماني المجتمع عليه، في حين يقصد بالمدرج ما كتب في القرآن تفسيراً ثم اختلط به، أما الموضوع فيعني به ما لم يكن له أصل البتة أي المكذوب على رسول الله ﷺ.
ويمكن أن نختتم هذا العرض بالإشارة إلى الآثار المتعددة لظاهرة الاختيار، فقد ذهبالدكتور أمين فلَّاته في كتابه “الاختيار عند القراء” إلى أن قضية الاختيار تركت آثاراً واضحة وبصمات جليلة على القراءات القرآنية، حيث إن من الآثار الإيجابية لقضية الاختيار: إثراء علم القراءات، وإثراء علم الاحتجاج للقراءات، وتمييز الضوابط الصحيحة، أما الآثار السلبية فمنها: الجسارة على رد القراءات أو الطعن فيها، وإيهام المفاضلة بين القراءات المتواترة والقراءات الصحيحة، بالإضافة إلى تسور من ليس أهلاً للاختيار للدخول فيه.
(1)- صدر كتاب “تاريخ ضبط القراءات القرآنية” عام 2020 عن دار عالم الأدب للترجمة والنشر.
(2)- أمين بن إدريس فلَّاته، الاختيار عند القراء: مفهومه ومراحله وأثره في القراءات، 114.