تصنف اللغة العربية ضمن أصعب اللغات عند كثير ممن يتعلمونها لغة ثانية، لكنها أيضا صعبة في مناهج التدريس والتعليم في البلاد العربية ذاتها!! فقواعد النحو والصرف من أصعب المواد الدراسية، وليس أدل على ذلك أن ندرة ممن تخرجوا من الكليات الشرعية أو الكليات العربية يجيد الحديث باللغة العربية الفصحى، بل وندر من لا يخطئ بها عند الكتابة، حتى الأساتذة والدكاترة والمتخصصون في تدريس اللغة العربية ذاتها.
وإن شئت دليلا على ذلك، فاسأل جارك، أو زميلك في العمل أو الدراسة، واسأله عن تجربته مع اللغة العربية خاصة أيام طلب العلم في المدارس والجامعات.
إن ثمة خللا كبيرا في منهجية تعليم اللغة العربية، وخللا في المحتوى التعليمي، وخللا في طريقة التدريس..
ومن عجيب المفارقات التي عشتها مع اللغة العربية، أن الله تعالى رزقنا أستاذا متقنا لصنعته في تدريس اللغة العربية في المرحلة المتوسطة، لم يكن يجعلنا لنذاكر اللغة العربية مطلقا، فنحن لسنا بحاجة إلى مذاكرتها بعد عودتنا من المدارس في بيوتنا، لأنه كان يكفينا منها ما نحتاج إليه دون النظر إلى الكتب الدراسية؛ فقد كان يجعلنا نعيش اللغة واقعا وممارسة، فلم يكن يفصل بين حصة القواعد وحصة الشعر وحصة الأدب وحصة البلاغة، فهو يجعل اللغة مزيجا يشرح فيها كل شيء منطلقا من خصوصية الحصة الدراسية، ولقد بلغ بنا ونحن في المرحلة المتوسطة أننا كنا نقدر على استخراج أي صورة بلاغية من أي نص مهما كان، وبعضنا لم يبلغ الحلم، ولما دخلنا كلية دار العلوم – مع عراقتها في تدريس اللغة العربية عن نظيراتها- لم نكن نستطيع الإجابة عن أي سؤال خارج المقرر الدراسي، ونحن على وشك التخرج من المرحلة الجامعية، وعملنا في التدريس كما هو الغالب!! فكنت أتعجب كيف لي وأنا في المرحلة المتوسطة أستطيع استخراج أي صورة بلاغية، وإعراب أي كلمة في أي جملة، وقد تغير حالنا في المرحلة الجامعية، ونحن في كلية تخرج معلمي اللغة العربية، والكل يشهد لها بالكفاءة.
لقد جعلنا أستاذنا ( مبروك هاشم الجمال) – رحمه الله- نعيش اللغة واقعا بدافع الحب، وأن نمارس مهارات اللغة، إذ كان حريصا أن يجعلنا نتكلم اللغة العربية الفصحى ونحن في سن صغيرة، نتبادل الحديث فيما بيننا وقت الدرس وخارج الفصل، نتكلم بها في الإذاعة المدرسية ، فقد كان يشجعنا على أن نحيا اللغة العربية وأن تحيا فينا.
كان الأستاذ – رحمه الله- يستعمل معنا أسلوب الثواب والعقاب، فكل من يخطئ في إعراب كلمة يدفع مبلغا زهيدا، وكل من يجيب سؤالا صعبا يأخذ ضعف ما يدفعه المخطئ، وكان يجعل في كل فصل من يحصل المبالغ من الطلاب المخطئين، ويدفعها للمتميزين..
ولو وصلت معايشتنا للغة العربية إلى أن نفكر بها في كل شيء، حتى قلنا يوما لأستاذنا، يا أستاذنا: اسمك فيه كثير من المشتقات، فمبروك اسم مفعول، وهاشم اسم فاعل، والجمَّال، صيغة مبالغة.
وكان من وسائله – رحمه الله- أنه كان كثير الاختبارات، وأذكر أنني في أول اختبار عنده رسبت وكنت في المرتبة الثانية على طلاب فصلي ، إذ لم ينجح إلا أحد الزملاء، وكنت ممن يشارك مع الأستاذ ويجيب عن أسئلته أثناء الشرح، فانتهرني وقال لي: كيف ترسب؟ قلت: لا أعرف، لقد أجبت. قال: ألم تكن تلميذي في السنوات الماضية؟ قلت: لا. هذه أول مرة أدرس عندك. قال: لا تخف، ستنجح وتتفوق، المهم أنك عرفت الآن طريقة اختباري.
وبعد شهرين أجرى مسابقة على مستوى المدرسة كلها، وعقد امتحانا في اللغة العربية، كنت الثاني فيه على مستوى المدرسة بعد زميلي الذي كان دوما يسبقني.
وكان من آثار أستاذنا – رحمه الله- أنه جعلني أتحدث الفصحى وأنا مازلت صغير السن، فكنت أتحدث بها حين أشتري، وأتحدث بها مع بعض أهلي، وأتحدث بها مع بعض جيراني، حتى إن بعضهم حتى يضحك حين يراني صغيرا أتحدث اللغة الفصحى.
ولما انتقلنا إلى المرحلة الثانوية رزقنا أستاذا يجيد شرح اللغة العربية ولا يجيد الحديث بها، فكنا نقول فيما بيننا: لو ترك أحدنا يخرج ليشرح مكانه لكان أفضل! و كان إذا صعب علينا شيء كنا نرجع لأستاذنا في المرحلة المتوسطة نراجعه في إعراب جملة أو كلمة.
وقل مستواي في اللغة العربية في الثانوية العامة، فلم يأتنا أستاذ مثل أستاذنا (مبروك هاشم الجمال)، وتحولت اللغة العربية إلى مادة صعبة في دراستنا، وزاد ذلك بما أراه وأشاهده من حال مدرسي اللغة العربية في المدارس وفي الإعلام وفي الأفلام والمسلسلات التي تقلل من شأن مدرس اللغة العربية.
ورغم أني بعد الانتهاء من الثانوية العامة كنت من المرحلة الأولى، لكن شاء الله أن يساعدني في اختيار رغباتي في الالتحاق بالجامعة أحد أساتذتي وكان متخصصا في الرياضيات، وكنت أحب أن أدرس اللغة الإنجليزية، خاصة أنني كنت الأول فيها على مستوى المنطقة التعليمية، إلا أنه كان محبا لدار العلوم فقدمها على غيرها من الكليات واستحييت أن أخبره أني لا أحبها وآثرت السكوت حياء وخجلا، ولما ظهر التنسيق في ترشيحات الكليات قدر الله لي أن أكون من أبناء كلية دار العلوم، وهي كلية متخصصة في الدراسات العربية والإسلامية، وكان يوما حزينا بالنسبة لي، وكنت أقول في نفسي: أأكون مدرس لغة عربية؟؟ هل عملي سيكون محصورا في شرح دروس كتب وزارة التعليم، وتكون كل حياتي في التدريس والدروس الخصوصية!!
ولم يكن أمامي إلا عدة خيارات، منها أني أعيد دراسة الثانوية العامة، لأن التحويل من كلية دار العلوم إلى كلية أخرى بها اللغة الإنجليزية يتطلب مبلغا كبيرا من المال آنذاك لا يمكنني الحصول عليه، أو ألتحق بدار العلوم التي لم أكن أحبها آنذاك.
وقدر الله لي أن يقابلني أحد أساتذة اللغة العربية الذين تخرجوا في كلية دار العلوم، وسألني: بأي كلية التحقت؟ فقلت مغضبا: بدار العلوم. فقال: ومالي أراك مغضبا، أنت لها وهي لك. قلت له: ليست لي ولست لها ولا أحبها ولا تحبني.. فضحك وقال: لم؟ أنت متفوق في اللغة العربية منذ صغرك. فقلت له: يا أستاذ، نحن عرب ونتحدث اللغة العربية ما الجديد الذي سأتعلمه في الكلية؟ أنا كنت أرجو أن أدرس اللغة الإنجليزية. ولقد قررت أن أعيد دراسة الثانوية العامة.
فقال لي: أقترح عليك أن تذهب إلى كلية دار العلوم، وأن تمكث في دراستها أسبوعا أو أسبوعين، فإن أعجبتك الدراسة بها، فأكمل، وإلا فمازال هناك وقت لدراستك الثانوية مرة أخرى.
وكان كلام رجل عاقل، فذهبت إلى كلية دار العلوم وأنا كاره لها لأنها كلية تعنى باللغة العربية، ولكني لما بدأت أحضر دروس العلم بها أخذت بلبي وعقلي، وبدأت أشعر بالسكينة فيها، وكان أول ما لفت انتباهي أن زملائي الذين تخرجوا من الثانوية معي انقسموا في رأيهم في كليتهم بين قادح ومادح فيها شعرا، فتعجبت كيف نجحت الكلية في أولى أيامها أن تجعل محبيها وكارهيها ينسجون شعرا، لقد نجحت الكلية في رسالتها منذ الأيام الأولى، ثم أعجبني فيها الفصل بين البنين والبنات، وشمولية الدراسة فيها، فنحن ندرس العلوم اللغوية مثل: النحو والصرف والعروض والأدب والشعر والنقد والبلاغة وعلم اللغة، كما ندرس العلوم الإسلامية مثل الشريعة والعقيدة والفلسفة والتاريخ الإسلامي بجوار اللغة الإنجليزية مع اختيار إحدى اللغتين: العبرية والفارسية، ورأيت عبق كلية دار العلوم وعرفت تاريخها المجيد، ولم يمر أسبوع علي حتى أحببت الكلية ولم أرض بغيرها بدلا، حتى أنني تمنيت يوما أن أدفن فيها كي أستمع إلى العلم بها وأنا ميت كما استمعت إلى العلم بها وأنا حي.
وأضحى حب اللغة العربية ساريا في جسدي وروحي، متمثلا بكلية دار العلوم التي كنا نقول في حبها دوما:
أنا درعمي ما حييت وإن أمت… فوصيتي للناس أن يتدرعموا..
ولقد كنت حريصا أن أطلب من أساتذتي أن يكون هناك تدريب عملي على ما ندرسه، وإن لم يكن مقررا علينا، لأنه يغلب على الدراسة الجانب النظري وليس فيها تطبيق عملي، فكنت أتدرب على التصحيح اللغوي، وكتابة البحوث، بالإضافة إلى النشاط الذي يعين على ذلك، حيث ترأست جماعة الخطابة بالكلية، وكنت أحاول أن أتعلم جودة التراكيب والأساليب اللغوية من خلال القراءة في كتب المنفلوطي والزيات والعقاد وسيد قطب وغيرهم، وكنت أحاكي بعض تراكيبهم الأسلوبية في كتابتي.
ثم كانت الدراسات العليا في قسم الشريعة؛ حيث ترسخ عندنا أن الباحث في علوم الشريعة لا غنى له عن اللغة العربية التي نزل بها القرآن، وجاءت بها السنة، فهي بوابة فهم الشريعة.
لقد تحدث الكثير عن علاج الخلل في تعليم اللغة العربية، وهو أمر يطول شرحه، ولكن من أهم وسائل العلاج أن نرصد التجارب الناجحة في تعلم اللغة العربية ولو كانت تجارب صغيرة، فتلك التجارب تقودنا إلى تصحيح الخطأ، وإن من المستحسن أن يكتب الباحثون والدكاترة ممن لهم تجارب مع اللغة العربية تجاربهم حتى توضع في مصنف جامع لتلك التجارب؛ فيكون زادا لمن أراد أن يغير وجهة نظره عن اللغة العربية، وأن يحسن مستواه فيها، فهي لغة قرآننا وسنتنا، كما أنها لغة علومنا ومجتمعاتنا، ويكفي اللغة العربية فخرا أنها لغة القرآن.