سعى الإسلام في كل تشريعاته الحكيمة إلى ترسيخ مفاهيم تعظيم الحرمات في الجسم التشريعي والأخلاقي الذي مُلئت به النصوص المحكمة في القرآن والسنة، وفي الوارد من التطبيقات الرشيدة للأسوة المقتدى عليه أفضل السلام في كل مراحل سيرته الظافرة.

إن مقصد تعظيم الحرمات مكين في الشرع وفي العقل والاجتماع البشري، لأن الجميع يركب سفينة واحدة هي سفينة الوطن المشترك الذي يستظل الكل بسمائه، ويأكل من خيراته، ويرتفق منافعه، فكل خرق فيها بأي دعوى ستُغرق الجميع، ولات حين مناص.

وقد نعى القرآن الكريم على بني إسرائيل استسهالهم كسر حرماتهم واعتداءهم على بعضهم في صراعات وعداوات أكلتهم وجعلتهم أذلّة أمام الآخرين، فنقرأ قوله تعالى: { وإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } (البقرة،84-85 )

ومن أجل هذا النكير السالف على بني إسرائيل كانت التحذيرات تترى من المصطفى عليه الصلاة والسلام لأمته من العودة إلى الاحتراب الجاهلي أو تمزيق الجسم الإسلامي بدعاوى الجاهلية، والعصبية، والعرقية، أو غيرها، ففي خطبة الوداع كانت الوصية المدوّية:” لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض”(مسلم، 65).

وفي التخويف من الاقتتال الداخلي والاحتراب الدامي الذي يأتي على الجميع نقرأ هذا التخوّف من المصطفى  :” لَمَّا نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: {قُلْ هو القَادِرُ علَى أنْ يَبْعَثَ علَيْكُم عَذَابًا مِن فَوْقِكُمْ}، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أعُوذُ بوَجْهِكَ، قالَ: {أَوْ مِن تَحْتِ أرْجُلِكُمْ}، قالَ: أعُوذُ بوَجْهِكَ {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ويُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هذا أهْوَنُ – أوْ هذا أيْسَرُ”( البخاري، 4628)، وأهوينتها لا تعني استسهالها ولا استصغار عواقبها، وإنما مقارنتها بما سبق من عذاب الاستئصال الذي جرى على المكذبين السابقين الذين صاروا مثلات.

ولأجل ذلك كانت سيرته عليه السلام في مكة غاية الحكمة في تعظيم حرمة المجاورين من رحمه وبني عمومته، وذلك عندما أمر الصحابة بالكفّ والصبر على الأذى، وعدم ردّ السيئة بمثلها خوفا من مذبحة داخلية تأتي عليهم، أو من  نشوب حرب أهلية قبلية تجنّبها النبي  تعظيما للأرحام، وحفظا للدعوة من أن ينالها تشهير قريش، حيث لم ينفع رميها له بالسحر والجنون، مما يجعل البعض مرتابا أو مترددا في دعاويها، أما  حجة القتل الدامية الظاهرة قد تصدّ المقبلين على الدعوة، وذلك لما عُرف عن العرب من الإعلاء  لشأن الأرحام وذوي القربى وأبناء الأم الواحدة.

وأيضا فإن التوازن القبلي في مكة لم يكن يسمح بهذا، وكم دافع كفار قريش عن بعض العُصبة المؤمنة لهذا السبب كما هو الأمر في إنهاء المقاطعة، أو في جوار المطعم بن عدي للمصطفى عقب عودته من الطائف.

ولذلك تكررت أخبار الأنبياء المهتدين في القرآن المكي، وجاء الأمر بالصبر، والتولي، والكفّ، والإعراض، والدفع بالحسنى، والهجر، وعدم البخع والأسى، وانتظار الفتح والفرج والنصر في عديد المواضع. كما في قوله تعالى: { ولَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ ولَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ } (الأنعام، 24).

استمرت السيرة الحميدة للمصطفى بعد هجرته سوية في تعظيم الحرمات والحفاظ على السلم المدني، ودرأ شرور الاقتتال الداخلي المدمر للنسيج الاجتماعي، حتى وهو يتبوأ صدارة الدولة، ويمسك بمقاليد الحكم، وبيده تلابيب القضاء، لأنه كان مدركا بأن المدينة ليست على قلب رجل واحد في الوفاء بعهد الدعوة ولوازم الإيمان، فقد كان فيها مشركون ويهود ومنافقون، وحولها أعراب متربصون.

 ولأجل ذلك كانت تعليماته وإشاراته وأحكامه تنطق وتومئ بضرورة تحصيل السلم الاجتماعي بين الساكنة، وترسيخ مفهوم تعظيم حرمة الدين والنفس والمال والدولة، بشواهد كثيرة يمكن أن نوجزها في جملة مواقف تشريعية وسياسية وقضائية وإرشادية ديانية، فمن ذلك:

  1. صحيفة المدينة: وهي عقد بين المتساكنين من سكانها بمختلف قبائلهم وأديانهم، وقد شدّدت على السلم والائتلاف، ونبذ الاختلاف، ووحدة المرجعية السياسية،ونقرأ:” وإن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثما أو عدوانا أو فسادا بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم”.
  2. تأمين المدينة وتعظيم حرمتها كمكة، والتشديد على الإخلال بواجب التسالم فيها، ففي الحديث:” ‌المدينة ‌حرم ‌ما ‌بين ‌عير ‌إلى ‌ثور، فمن أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل ” (البخاري، 6755).
  3. الإغضاء عن بعض خطايا أهل الكتاب المحتملة من باب الاستيعاب للمجموع المختلف، فكم صبر المصطفى على آذاهم، وكم تحمل جرائرهم امتثالا لقوله تعالى: ﴿  وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ ( البقرة، 109)، ولكن هذا الصبر استحال سياسة حازمة حينما هددت هذه الجماعات كيان الدولة فكان الرد عليهم متنوعا بين الإخراج والقتال كما هو المعروف من وقائع بني قينقاع والنضير وقريظة.
  4. التعامل الحكيم مع المنافقين: وهم مجموعة ليسوا من القلةّ بمكان، فقد كانوا كتلة حرجة في مجتمع المدينة، واستمر وجودهم المقلق منغصا لحياة الجماعة،  إلا  أن النبي  كان كثير التجاوز، لأن ورائهم قبائل وعصب تغضب لهم، وربما أدى الإيقاع بهم إلى نشوب اقتتال داخلي يعود على تماسك الجماعة بالسلب، فكانت مقولة النبي   دوما هي” لا يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه”، ومن المقطوع به أنهم لم يكونا صحابة حقا، ولكن مصلحة هيبة الدولة وسلامة الجماعة وتماسكها مقدمة على بعض الاعتبارات، خاصة وأن المسلمين كانوا يحيون في بحر من القبائل المعادية لهم، فلم يكن من الحكمة هزّ تلك الصورة المهيبة لجماعة واحدة بتصرفات ذوت مع الزمن. 
  5. الصبر على المسلمين الجدد: وهم عديد الأفراد الذين لم يستقر الإيمان في قلوبهم، ولم يتهذبوا بقيم الإسلام نتيجة عدم مجاورتهم أو هجرتهم للمدينة، وخاصة في السنوات الأخيرة من الدعوة، حيث زاد الوافدون والداخلون في دين الله أفواجا، فكان المصطفى يحتمل هناتهم حفظا للسلم العام في مجتمعات تعظّم القبيلة وتثأر لابن العم ولو كان مجرما، ففي قصة تقسيم غنائم حنين كان ما كان من ذي الخويصرة، وسمع النبي مقالته، فقال معقبا:” رحم الله موسى فقد أودي بأكثر من هذا فصبر”(البخاري، 3150).
  6. تشريع الإجراءات الوقائية من الاقتتال الداخلي والحروب الأهلية، وذلك في عديد الأحاديث الإرشادية كالمنع من حمل السلاح بين المسلمين، أو المرور به في مساجدهم وأسواقهم، ومنع الترويع ولو بنظرة أو شق كلمة.  ولذلك اتفق الفقهاء على حرمة بيع السلاح في حال الفتنة من أجل محاصرة آثارها المدمرة والتقليل من موبقاتها البينة.
  7. الإجراءات التعاقدية: التي سنّها النبي  لجماعة المسلمين بالاجتماع والائتلاف والاعتصام بحبل الله، وترك دعوى الجاهلية ظهريا، ففي الحديث:” من خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وفارَقَ الجَماعَةَ فَماتَ، ماتَ مِيتَةً جاهِلِيَّةً، ومَن قاتَلَ تَحْتَ رايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أوْ يَدْعُو إلى عَصَبَةٍ، أوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فقِتْلَةٌ جاهِلِيَّةٌ، ومَن خَرَجَ علَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّها وفاجِرَها، ولا يَتَحاشَى مِن مُؤْمِنِها، ولا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فليسَ مِنِّي ولَسْتُ منه. ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل أو قتل تحت راية عمية”(مسلم، 1848)، بل إن الأحاديث ذهبت مذهبا واسعا في الترويع من انتهاك الحرمات حتى أنها جعلت الإعانة اللفظية أو الدعائية على القتل شركا في إثمه وموبقته عياذا بالله..
  8. الإجراءات الإعلامية: بمنع شعر العصبيات والقبليات وما يُذكر بالحروب الماضية كحرب بعاث وغيرها، والأمر بالتبيّن في النقل، والكفّ عن النميمة، وعدم نشر الإشاعات كحال المعوقين في المدينة، والمثبطين في النفير العام،وغاية ما كان يفعله المصطفى في التنبيه على الأخطاء قولته :” ما بال أقوام”.
  9. الاعتزال: وهو ما أشارت إليه أحاديث كثيرة من اختيار هذا المسلك عند ادلاهام الفتن، وعدم تمايز المحق من المبطل، فيكون خير مال المسلم غنم يتتبع بها شعف الجبال يفر بدينه من الفتن”، وكانت الوصية بأن يكون عبد الله المقتول وليس القاتل، ومما يدل على هذا الاختيار ما ورد من حديث أبي ذر قلت:” لبَّيكَ يا رسولَ اللَّهِ وسعديكَ فذَكَرَ الحديثَ، قالَ فيهِ كيفَ أنتَ إذا أصابَ النَّاسَ موتٌ يَكونُ البيتُ فيهِ بالوصيفِ قلتُ اللَّهُ ورسولُهُ أعلمُ  …… قالَ تلزَمُ بيتَكَ. قلتُ: فإن دخلَ على بَيتي. قالَ: فإن خشيتَ أن يبهَرَكَ شعاعُ السَّيفِ فألقِ ثوبَكَ على وجهِكَ يبوءُ بإثمِكَ وإثمِهِ”(أبو داود، 2161)، ولا يلزم من هذا الرضا بالظلم، كيف لا وقد جاء في الحديث:” من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد”(أبو داود، 1356)، ولكن الحديث يشير إلى الظلم والاعتداء الفردي الواقع على الفرد بذاته، وليس انخراطا في حرب جماعية مهلكة يضرب فيها الجميع الجميع انتقاما وانتصارا وعبادة للذات والعصبية والجهة والطائفة.
  10. الإصلاح والإقساط: وهو مسلك يلزم الصالحين من أمة محمد بالسعي والمثابرة في استنزال الأخصام على خطة الصلح، وكفّ الدماء، وتحمل المغارم والديات، بل والعفو العام كما هو الوارد من سورة الوصايا الأخيرة سورة الحجرات التي تكرر فيه الأمر بالصلح والقسط بين الفئات النازعة للقتال: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [ الحجرات، 9]
  11. الانخراط مع الشرعية: وكفّ الصائل والباغي ومن يرد انفراط عقد الجماعة، وهذا ليس سائغا إلا في حالات وضوح الحق، وتمايز الأدلة والقرائن كما فعل جمهور الصحابة الذين كانوا في صفّ علي بن أبي طالب، وقد تركت لنا سيرته بابا هائلا في الفقه والأحكام والسياسة الشرعيةّ وهو باب قتال أهل البغي.

 وختاما فإن السلم الاجتماعي قائم على إحياء فقه تعظيم حرمات المسلمين كلها، وخاصة الدماء التي استرخصها البعض في زماننا، فلزوال الدنيا أهون عند الله من قتل أمرئ مسلم واحد بغير حق، وإن المثلاث القريبة من استسهال الدماء وإغراق الكل في الحروب العدمية الداخلية التي أغرقتهم في لجج الدماء وبحار الكراهية، فولجوا سعير التقاطع والتدابر، ومن تم التخلّف ورهن المقدرات والإرادات  للعدو المتربص.

ولذلك يتوجب على العلماء والدعاة والخيرين من السياسيين والإعلاميين الصدح الدائم ورفع العقيرة بفقه تعظيم الحرمات وعدم التهوين من شأنها، والضرب على وتر التسالم، والعضّ بالنواجذ على السفينة الواحدة التي تحمل الجميع إما إلى خيرهم، وإما إلى شقائهم وهلاكهم. ولا عاصم من هذا كله إلا تقوى الله الدائمة.