يلتقي أبناء آدم فيتفقون ويختلفون بسبب البيئة التي نشأوا فيها وطريقة تفكيرهم وقدرتهم على الإدراك وحصولهم على مقادير من تزكية الأنفس تؤهلهم للعيش الكريم؛ حيث يتفاهم البشر ويتمكنون من التعاون. لذا فلابد من التماس المعذرة وتقديم الاعتذار وقبوله من طرف من تم الخطأ في حقهم. وهذا الاعتذار ليس مجرد كلمات تخرج من الألسنة لتتلقاها الآذان والقلوب بالترحاب، بل هو أحد أسباب صيانة العلاقات وترميمها بين الأصدقاء والشركاء والأزواج وبين من نعرف ومن لا نعرف من البشر.

إياك وما يعتذر منه

إن إحساس الإنسان بالكرامة وعلو الشأن يمنعه من الوقوع في الخطأ، ومن ثم يضطر إلى تقديم الاعتذار. وفي التحذير من الوقوع في الخطأ كان قول النبي :

«إيَّاكَ وَكُلَّ أَمْرٍ يُعتَذَرُ مِنْه[1]»

سواء كان هذا الأمر كلمة نابية أو نظرة احتقار وتهكم أو تصرفًا مشينًا، فإن هذه الأخطاء تدفع المسلم صاحب الدين أن يقف موقف المعتذر، لإنه حريص على إصلاح أخطائه حتى لا يلاحقه أصحاب الحقوق في الدنيا والآخرة.

نماذج الاعتذار

قدم الأنبياء والصالحون الاعتذارات المناسبة وسجل القرآن الكريم وكتب السنة هذه الاعتذارات:

اعتذار موسى عليه السلام

ومن ذلك اعتذار موسى عليه السلام للعبد الصالح عندما أخذ عليه العهد: ﴿قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ [الكهف: 70]
وعندما تعجل موسى عليه السلام  وذكّره العبد بالوعد المقطوع قدم الاعتذار المناسب، وقال موسى عليه السلام ﴿لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾ [الكهف: 73].

اعتذار الصحابة

قدم الصحابة، رضي الله عليهم، نموذجًا للاعتذار العملي:

«عَنْ الْمَعْرُورِ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ [مكان]، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ : (يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ).»[2]

لم يكتفِ أبا ذَر رضي الله عنه بالاعتذار بالكلام، بل اختار أن يشارك خادمه الذي أخطأ في حقه فيلبسه من نفس نوع الملابس التي يرتديها، وهذا لم يكن مألوفًا.

ولأن الله تعالى كريمٌ وهو متفضل على عباده، قال النبي :

«لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرَ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ.»[3]

يحب سبحانه وتعالى العذر ويقبله ولذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل عليهم الكتب فيها تبيانا لكل شيء وتوضيحا لطريق السعادة وطرق الشقاء، قال الإمام ابن بطال عن الحديث السابق: «معناه ما ذكر في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) [الشورى: 25] ، فالعذر في هذا الحديث: التوبة والإنابة.»[4]

هل يأثم من لم يقدم الاعتذار؟

من أسوأ الأخلاق شرا الكبر، وهو قتّال لصاحبه. وعندما عرّفه النبي قال:

«بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ»[4]

وقال الشراح: «بَطَرُ الحقِّ: التكبر عن الإقرار به، والطغيان في دفعه.» وقال أبو عبيدة: «غَمْطُ الناس: الاحتقار لهم والإزراء بهم.»

الشخص الذي يتصف بالكبر يجتهد في عدم الإقرار بالحق والخطأ ويرى نفسه فوق الناس، مما يجعله غير مستعد للاعتذار وينفر منه الناس.

التبرير بديلًا عن الاعتذار

كم يدفعنا كبر النفس إلى الهلاك عندما نخطأ ونندفع في تبرير الخطأ بدلًا من الاعتراف به ومحاولة إصلاحه! كم نفقد من الأعوان عندما نصرّ على خطأنا، بينما هناك طريقة تجمع الناس من حولنا لتقديم المساعدة عن طيب خاطر. وكم نكسب من الذنوب عندما نجادل بالباطل ونهدر قوانا ونصوغ الكذب في محاولة للخروج من مآزق الخطأ بمزيد من الأخطاء.

إن الامتناع عن الاعتذار وتقديم المبررات يستمر مع البعض حتى لو وقف أمام الله تعالى:

﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [ص: 75-76]

امرأة تعلم الرجال

﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل: 44]

رأت ملكة سبأ الحق فاعتذرت عن ماضيها معلنةً خطأ ما كانت عليه، ومحاولةً لفتح صفحة جديدة لإصلاح جرائم الماضي. كم من الرجال لا يستطيع أن يقف هذا الموقف؟! بل كم من الرجال يبررون أخطاء لم يرتكبوها وقع فيها من يحبهم أو وقع فيها أسلافهم؟

كم من الرجال يتحمل مسؤولية كبيرة أو صغيرة ثم لا يجد من المروءة ما يدفعه لتحمل مسؤولية أخطائه المباشرة أو التي تسبب فيها؟ فيظل يبرر، ويبرر له من ينتفع بوجوده وبأخطائه.

الاعتذار لمن اختلفنا معهم ثم ظهر أن الحق معهم

الاعتذار عن مواقف أسأنا فيها إلى بعض من اختلفنا معهم في الرأي واتهمناهم بشتى التهم التي يعاقب عليها الشرع والقانون؛ استنادًا إلى اجتهاد فقهي أو فكري. ثم، لما أعدنا النظر واتسعت رؤانا وزاد علمنا تبين لنا أننا كنا على الخطأ وهم على الصواب، فمن الإنصاف والصدق مع الحق أن نعتذر لهم عن الأوصاف الشنيعة التي وصفناهم بها.

الاعتذار بين الدوائر القريبة منا

قد يرى البعض أن الاعتذار الواجب هو ما يكون بين شخصين ليس بينهما من قوة العلاقة ما يحملهما على التجاوز عن الزلة دون تقديم اعتذار مناسب. والحق أن العلاقات القوية تزداد قوة وصفاء كلما التمست الأعذار من جانب وقدمت من جانب آخر؛ وهذه الحقيقة نجدها في الأخطاء التي تكون بين الزوجين والأخوة والأبناء وأمهاتهم وآبائهم والرئيس والمرؤوس والكبير والصغير والمعلم والتلاميذ والشيخ وطلابه.

الاعتذار مقدّمًا عن الخطأ

من إدراك العلماء والأدباء أن الحق أكبر من أي شخص، وأن الخطأ طبيعة إنسانية، قال ياقوت في معجم الأدباء:

وأنا قد أعترف بقصوري فيما اعتمدت عن الغاية وتقصيري عن الانتهاء إلى نهاية ، فاسأل الناظر فيه ألا يعتمد العنت ولا يقصد قصد من إذا رأى حسنا ستره وعيبا أظهره ، وليتأمله بعين الانصاف  لا الانحراف ؛ فمن طلب عيبا وجده ومن افتقد زلل أخيه بعين الرضا فقدْ فقد، فرحم الله أمرأ قهر هواه وأطاع الإنصاف ونواه ، وعذرنا في خطأ إن كان منا وزلل إن صدر عنا ؛ فالكمال محال لغير ذي الجلال ، فالمرء غير معصوم والنسيان في الإنسان غير معدوم.

وإن عجز عن الاعتذار عنا والتصويب ، فقد علم أن كل مجتهد مصيب ؛ فإنا وإن أخطأنا في مواضع يسيرة فقد أصبنا في مواطن كثيرة ، فما علمنا فيمن تقدم وأمّنا من الأئمة القدماء أحد إلا وقد نظم في سلك أهل الزلل وأخذ عليه شيء من الخطل وهم هم ، فكيف بنا مع قصورنا واقتصارنا  وصرف جل زماننا في نهمة الدنيا وطلب المعاش وتنميق الرياش الذي مرادنا منه صيانة العرض وبقاء ماء الوجه لدى العرض”.

عواقب ترك الاعتذار وقبوله

  • انتشار الكبر بين الناس: يؤدي ذلك إلى التملص من الإقرار بالخطأ، مما يسهم في انتشار الكبر والبغي وضياع الحقوق.
  • فساد القلب: من لم يعتذر عن خطأه يحمل في قلبه أثارًا سلبية تزيد من نوايا الشر لدى الآخرين.
  • القطيعة بين المسلمين: يؤدي ترك الاعتذار إلى قطع العلاقات بين المسلمين، مما يفرح الشيطان ويستدعي غضب الله تعالى.

بم يكون الاعتذار؟

«الاعتذار: تحري الإنسان ما يمحو به أثر ذنبه، وذلك ثلاثة:
1. أن يقول: لم أفعل.
2. أو: فعلت لأجل كذا فيذكر ما يُخْرِجُه عن كونه ذنبًا.
3. أو: فعلت ولا أعود، والنوع الثالث هو التوبة؛ فكل توبة عذر ولا عكس.»[5]

خطوات لكي يبلغ الاعتذار قصده

  • الاعتذار طاعة لله تعالى قبل أن يكون استدامة للود.
  • قبول أعذار الناس سبب لقبول الله تعالى لأعذارنا.
  • قبول المعذرة بنية شكر الله تعالى على عدم الوقوع في الخطأ.
  • الصدق في طلب العذر لأن حبل الكذب قصير.
  • الاعتذار المباشر دون واسطة.
  • المبادرة؛ لأن الوقت ليس في صالح المخطئ، فقد تُفسر التصرفات تفسيرًا خاطئًا ويتدخل أبناء الشيطان لزيادة اشتعال النار.
  • اختيار الوقت المناسب بعيدًا عن الانفعالات والضغوط.
  • التركيز على الموقف الذي حدث فيه الخطأ أو سوء الفهم[6].
  • نشر ثقافة الاعتذار جنبًا إلى جنب مع ثقافة العفو لمنع قطع الطريق على من يفكر في إصلاح أخطائه بالاعتذار.
  • تقدير الظروف التي تحيط بمرتكب الخطأ (مرض، نشأة غير سوية، أو ظروف نفسية واجتماعية ضاغطة)؛ كما قال أبو قلابة: «إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه، فالتِمْ له عذرًا، فإن لم تجد له عذرًا فقل: لعل له عذرًا لا تعلمه.»[7]
  • التحذير من سوء الظن والوقوف موقفَ التهم.
  • إدراك أن كل بني آدم خطاء، وأن المعصوم من عصمه الله يساعد في قبول العذر.
  • تقدير شجاعة الاعتراف بالخطأ.
  • الوضوح في العلاقات لتجنب إساءة فهم الأطراف.
  • تقديم الترضية المناسبة حتى يتم الاعتذار.
  • إن إرضاء الخصوم بتقديم الاعتذار المناسب فرض لازم وفرصة لإسقاط الديون في الدنيا قبل أن يأتي يوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود جاز عن والده شيئًا.

خاتمة

اعتذر رجل إلى الحسن بن سهل من ذنب كان له، فقال له الحسن: «تقدَّمتُ لكَ طاعةً، وحدثتُ لكَ توبةً، وكانت بينكما منك هفوة، ولن تغلب سيئةٌ حسنتين.»[8]