تتسابق قنوات التلفزة في جذب جماهيرها عبر طرح برامج وأفلام تجذبهم وتجعلهم حبيسي الجلوس أمام الأرائك وأعينهم تلتقط ما تبثه تلك القنوات من دون وعي بمدى الساعات التي يقضوونها وهم على حالهم هذه بحجة الترفيه عن النفس أو التلهية عنها.

وهذه القنوات تتفنن في صناعة أداوت الجذب.. فمن مسابقات غنائية إلى آخر الأفلام ومسابقات الجمال والعروض المسرحية وبرامج صناعة النجوم واختيارهم إلى برامج الواقع إلى..، وهم في هذه الصناعة يحجزون قدم السبق في إنتاج ما نستطيع تسميته بـ”ثقافة الملهاة”.

الملهاة اسم مأخوذ من ثقافة اليونانين الذين أوجدوا هذا الفن، وفن الملهاة يعرف ويحدد بضده المعروف بالمأساة، وإذا أردنا التبسيط أكثر فيمكن القول بأن الملهاة هي فن يهدف إلى الترفيه عن الجماهير ومحاولة تخفيف وطأة الحياة عنهم، وتأتي المأساة لتصور للناس الجانب الآخر من الحياة المتمثل في التحديات والصعوبات التي واجهوها أو التي من المحتمل أن يواجهوها.

ربما تكون الملهاة مقبولة في حال كونها لا تمثل الكل من المنتج الدرامي بأنواعه المرئي والمسموع، لكن الحال المثير للاستغراب هو في حال تحول الملهاة إلى صناعة وتجارة لتتحول في النهاية إلى ثقافة سلوكية ومعرفية جدلية يدخل في تركيبها الجمهور والممولون وشركات التسويق والممثلون و..و.. لتخرج من الطرف الآخر في شكل جدلية تحركها حالة تشبه الإدمان على الملهاة ونسيان المأساة المتمثلة في الواقع الذي تواجهه والفقر المعرفي الذي تفرزه تلك المجتمعات.

مدخلات عملية الملهاة تتنوع كما تتنوع مخرجاتها، وبقدر تعاظم المدخلات والمخرجات تتعاقد عمليات التفاعل، وتكون عملية الإنتاج فيها عملية ديالكتيكية؛ ذلك أن المخرجات فيها تعود في عملية أخرى لتمثل المدخلات، وهكذا، يتعقد تركيب العملية في المجتمع، ومع تعاظم عمليات الإنتاج وتعقد المركبات تكون مخلفات تلك العلمية شديدة التعقيد وعصية على التفكيك.

ومن مفرزات الملهاة – ومتطلباتها في شكل لاحق – عدة منتجات تُسَوّق أثناء مشاهدة الملهاة مما يحوّل الملهاة إلى سوق تجاري تدر الأرباح على الشركات الراعية والمنتجة لها، وفي نفس الوقت تكون هذه النماذج المسوقة ضمن الملهاة نماذح مستهدفة من قبل الجمهور المشاهد، ويسعى لتمثلها سواء معرفيا أو سلوكيا، ويغدو المجتمع نسخة معاشة من الملهاة التي كانت في وقت من الأوقات عارضا لا جوهرا، وتأتي صناعة الأجساد والنجوم في قمة مفرزات ثقافة الملهاة حيث تركز هذه الصناعة على إشباع حاجة ثقافة الملهاة والممارسين لها من النجوم الذين يشترط فيهم شروطا قبل أن يحوزوا رضا شركات التلهية، وبحوزتهم على رضا الشركات يصبحون نجوما تسلط عليهم الأضواء، وتتسابق أداوت الإعلام على تسويقهم كنماذج شبه مثالية المظهر والشكل، ويحوم المجتمع المهتم بهم حولهم ويتابع آخر أخبارهم، بحيث يغدو هؤلاء مصدرا فاعلا للملهاة بعدما كانوا منتجا من منتجاتها!

الملهاة عنصر في إقصاء الجمهور عن مأساته، وهي في فعلها تشبه الحبوب المسكنة التي لا تقوم بأكثر من تخدير الجملة العصبية ليستيقظ الإنسان يوما ما ليرى نفسه وقد غزت الجراثيم الجسم..