الأرواح جنود مجندة تتعارف وتتناكر وتتآلف وتتباغض ؛ أحيانا بسبب الطبائع النفسية وأحيانا بسبب اختلاف وجهات النظر أو المصالح، ومن الأمور التي تتسبب في التباغض بين الناس ثقل النفس ؛ فقد يكون الإنسان ثقيلا لا يطاق ويدخل إلى مجلس فيفسد روح المرح وينشر الكآبة بعدم مراعاته للآداب ، وحينها يتمنى الجميع أن ينفض المجلس أو ينصرف هذا الثقيل إلى غير رجعة وإنما تطيب المجالس بخفة الجلساء.
ولأن ثقل النفس مرض خطير يؤذي صاحبه عندما يشعر أنه منبوذ من مجتمعه ويؤذي المجتمع عندما يفسد عليهم الثقيل مجالسهم التي أقيمت لإدخال السرور على النفوس وإزالة ما بها من كدر وهم وغم ، كانت المؤلفات التي اعتنت بالحديث عن الثقلاء سواء كانت مفردة أو ضمن بعض الكتب ؛ ساق مؤلفوها الروايات التي تبين قبح الثقيل ، وذكروا بعض الطرق في التعامل معه ، واجتهدوا في تفسير ثقل النفس ، فطرحوا هذا السؤال :كيف صار الثقيل أثقل من الحمل الثقيل؟.وكانت الإجابة: لأن الحمل الثقيل يشارك الجسد والروح في حمله، والرجل الثقيل ينفرد الروح بثقله .
ماهو ثقل النفس ؟ من هو الثقيل ومن هو المستثقل؟
الثقيل: هو من يكون ثقيلا على القلوب من حيث طبعه أو كلامه أو عمله أو منظره. والمستثقل هو الذي يكون ثقيلا عند بعض الناس دون آخرين ؛ لحسد أو مزاحمة في صنعة ونحوها. وقد يكون الرجل مستثقلا في بعض الأحوال وإن كان غير ثقيل في الواقع.
ما منشأ الثقالة؟
منشؤها الغباوة؛ فالثقيل غبي غباوته تمنعه من التفطن لما يتأذى منه الآخرون ،لذلك تجده يفعل ما يفزع منه العقلاء أو يتسبب فيه وهو مطمئن مرتاح البال ، فلولا الغباوة التي طمست عقله وطمت على شعوره وإحساسه لما رضي لنفسه بالاتصاف في حال من الأحوال بالثقالة.
وربما نشأ ثقل النفس من الآلام نفسية عميقة وتجارب مؤذية لا يستطيع صاحبها أن يتخلص من آثارها ، بل تقوقع داخلها لا يريد أن يخرج ولا يريد لغيره أن يُخرجه، هذه الآلام تمثل أثقالا يحملها على كاهله وفي ذكرياته ، تطل باستمرار أمام عينيه تحرمه من الأنس بالناس ومن تحقيق الأنس لهم.
ومن التصرفات التي تؤدي إلى الشعور بثقل الإنسان:
- الفضول الذي يدفعه إلى التدخل في خصوصيات غيره بالسؤال عن أحوالهم التي لا يحبون أن يطلع عليها أحد؛ كالممتلكات والدخل والإنفاق والخلافات الزوجية.
- قلة الحياء التي تحمله على النظر إلى ما يحب الناس ستره في بيوتهم وأحوالهم.
- عدم مراعاته لأحوال الخلق ؛ فعند زيارة مريض مثلا لا يُقدّر أن للزيارة مدة بعدها يتأذى المريض بمن يزوره لأنه يحب أن يرتاح أو يحتاج لقضاء حاجته أو تغيير ملابسه أو غير ذلك من أحوال المريض التي رفع الله تعالى عنه الحرج فيها.
- عدم مراعاته لأحوال الناس عند زيارة الأصدقاء والأقارب أو غيرهم حتى يشعروا بالضيق والملل، بسبب الدخول عليهم دون سابق موعد أو اتصال بمدة تكفي لكي يتأهبوا لاستقباله وتكرار الزيارة في أوقات متقاربة و طول المدة التي يجلسها عندهم أو كونها في أوقات لا تناسبهم.
- انتهاك خصوصيات الآخرين عند زيارته كما يقول الشاعر:
كأنه في الدار رب الدار
أثبت في الدار من الجدار
- الحديث المكرر المعاد الذي سيق عشرات المرات ، وهو حديث خال من الفائدة والمتعة بل فيه ما ينغص على المستمعين ويسد أمامهم طرق الرجاء في الله تعالى.
- لا يترك مجالا لغيره لكي يشارك برأي أو يعرض وجه نظره، يقاطع الجميع ويعترض على كلام الجميع ويسابق الجميع في الكلام ومحاولة الظهور بمظهر العالمين ببواطن الأمور ، دائما ما يتحدث عن نفسه.
- الأسئلة التي يطرحها الثقيل ظنا منه أنه خفيف الروح لكنها تؤذي المسؤول وتشير إلى أحد العلل التي يعاني منها وليس لها إجابة.
يحكى أنه كان لبشار بن برد صديق يستثقل، اسمه هلال، فقال يوماً يمازحه: يا أبا معاذ، إن الله لم يذهب بصر أحد إلاّ عوضه منه شيئاً، فما عوضك؟ قال: الطويل العريض، قال: وما هو؟ قال: أن لا أراك ولا أرى أمثالك من الثقلاء.
المستثقلون
- بعض الناس ثقيل في كل أحيانه وعند كل الناس ، وبعضهم قد يستثقل أحيانا وأحيانا أخرى يكون خفيف الظل مرحا مقبولا ، وقد يشعر البعض بثقله دون الآخرين، ومن ذلك:
- الرجل الجاد عندما يجلس في وسط أناس يحبون الهزل ولا يطيقون الكلام الموزون ولا النقاشات العلمية.
- الذي يتكلم بالحق في وسط أناس غارقين في الباطل ترتبط مصالحهم بأهل الباطل.
- الذي يقدم النصيحة ، والنصح كما قيل: ثقيل فاستعيروا له خفة البيان، ولكن صاحبنا لا يستعير خفة البيان ولا أدب الحديث ، يكلم الناس من برج عاجي فيبغضونه ويعصون أمره عمدا ليغيظوه وربما آلموه بثقيل الكلام ، فيظن جهلا أنهم لا يحبون الناصحين ،لكنه هو الذي أخطأ الطريق وأساء إلى الحق.
- أم الزوج وأم الزوجة عند من لا يراعي مكارم الأخلاق وحسن العشرة ولا يريد أن يقوم بواجبه الشرعي والأخلاقي والاجتماعي، وأحيانا تؤكد كل منهما الصورة السلبية التي تكونت عبر الكثير من الأفلام والمسلسلات وتسهم كل منهما في تحريض الزوج او الزوجة على ما يؤدي إلى نفور الطرف الآخر.
التأثير السيء لمجالسة الثقلاء
قال زياد بن عبد الله: قيل للشافعي: هل يمرض الروح؟! قال: نعم، من ظل الثقلاء قال: فمررت به يوماً وهو بين ثقيلين، فقلت: كيف الروح؟ فقال في النزع.
بل تؤثر مجالسة الثقلاء على العقول أيضا ، فإذا ثقلت الروح ثقل البدن والعقل وغابت الفكرة أو ماتت ، بل ربما وجد في المجلس الذي يضم ناسا كثيرين وفيهم ثقيل واحد فيفسد بثقله حلاوة المجلس وما يكون بين أهله من مودة ولطف.
كيف نتعامل مع الثقلاء ؟
وجود الثقلاء في حياتنا مؤذ ولكننا مضطرون للتعامل معهم بحكم الصداقة أو القرابة أو لأنهم جزء من المجتمع ، وهذه مجموعة من الإجراءات التي يمكن أن تفيد في التعامل معهم:
- الثقلاء الذين تسببت الالآم النفسية في ثقلهم ، لا يصح أن نتركهم فريسة لهذه الالآم بل لابد أن نقدم لهم الدعم النفسي بما نستطيع ؛ بالاستماع لهم ومشاركتهم في تخفيف هذه الالآم وعلاج أسبابها ومحاولة إدماجهم في المجتمع ، وهذه الخطوات ينبغي أن تتشارك الأسرة والعائلة والمجتمع والمختصون وكل من يقدر على أن يقدم الدعم ، وكل جهد في إزالة هذه الآلام نوع من عبادة إحياء النفوس وهي عبادة جليلة لها عند الله تعالى أعظم الأجر.
- مع إدراكنا لما يسببه الإنسان الثقيل من إفساد لكل مجلس يحل فيه، إلا أن الأخلاق تفرض علينا أن نكون من المحسنين الذين يتلطفون في إبلاغ الحقائق المؤلمة وفي ذات الوقت يتخلصون من ثقل الآخرين قدر الإمكان بلا أذى ، (كان أبو هريرة إذا استثقل الرجل قال: اللهم اغفر لنا وله وأرحنا منه) دعاء جميل يرجو الخير للداعي وللمدعو ، وفي ذات الوقت دعاء بأن يريح الله من هذا الثقيل الذي يؤذي غيره وهو يشعر أو لا يشعر ، و في ذلك دفع بالتي هي أحسن ،(قال الشعراني: ومما منّ الله به عليّ ، صبري على مجالسة الثقلاء وكتمي عنهم أني أدركت ثقلهم وعدم غيبتهم إذا قاموا من مجلسي ، بل ربما أذكر بعض محاسنهم سترا لهم عند من شعر بثقالتهم من أهل المجلس)
- التلميح: يقول يزيد بن هارون للإنسان إذا استثقله: (اللهم لا تجعلنا ثقلاء)
- عدم إعطائه الفرصة ليزعجك: (كان أبو عمرو بن العلاء يجلس إليه رجلٌ يستثقله؛ فكان إذا طلع، دخل وتركه. قال: وكتب إليه [الثقيل] يستعطفه، قال: فكتب إليه أبو عمرو:
أنت يا صاحب الكتاب ثقيل
وقليلٌ من الثقيل كثيـــــــــــر
فإن لم تستطع أن تمنعه من اللقاء بك.
- فاصبر حتى يفارق المجلس أو تتركه له: (قال ابن شهاب: إذا ثقل عليك الجليس فاصبر فإنها ربطة في سبيل الله، فإذا أبرمك ومَلّك بحديثه فجاهد بقيامه عنك أو قيامك عنه)
- فإن لم تستطع أن تفارق المجلس الذي يضم الثقيل فاصنع كما قال « سهل بن هارون: من ثقل عليك بنفسه، وأغم عليك بحديثه، فأعره عيناً عمياء، وأذناً صماء»
- إقراضه دينا يسيرا حتى يهرب منك ولا يود رؤيتك كي لا تطالبه بالسداد :
قال الشاعر :
إذا استثقلت أو أبغضت شخصا وسرك بُعده حتى التنادي فشرده بقرض دريهمات فإن القرض مقراض الوداد
وربما كان أحدهم ثقيلا بليدا تشير إليه بالكلمة ويبدوا على وجهك وفي كلامك الضيق فلا يفهم أو لا يريد أن يفهم فلا تملك حينها إلا التصريح بعد التلميح، عن حماد بن أبي حنيفة قال: كنا عند رقبة بن مسقلة فأتاه رجل كان يستثقله ، فقال: يا هذا إن ناحيتكم بعيدة والسماء متغيمة فقم .
- عدم الإذن له بالحضور: الاستئذان حق لصاحب المجلس والبيت يسمح لمن يناسب المجلس ويزيده من علمه وخلقه ودينه ويمنع من يتضرر به هو أو جلساؤه ،استأذن بعض الثقلاء على ابن المبارك فلم يأذن له، فكتب إليه ذلك الثقيل:
هل لذي حاجة إليك سبيل؟
لا طويل قعوده بل قليل
فأجابه ابن المبارك:
أنت يا صاحب الكتاب ثقيل
وقليل من الثقيل طويل
وقد تأتي هذه المصارحة بعد أن يأخذ الإنسان الخطوات السابقة فلا تجدي نفعا ، بل إن بعض الثقلاء بعد أن يُصارح بعيبه تراه لا يشعر بالخزي ولا يتألم، قال عبد الله بن عمر لأبي أسامة: أنت والله ثقيلٌ يا أبا أسامة! قال: زد فيها يا بني ووخم” .
خطوات للتخلص من ثقل النفس
- إن الشعور بكراهية الآخرين لنا واشمئزازهم منا شعور قتّال جالب للعزلة ومفقد لمعنى الإنسانية التي تعني الأنس بالناس ومحاولة إيناسهم ، لذلك على كل ثقيل حتى لا يكون عبئا على غيره أن يجتهد في التخلص من هذه الخصلة الذميمة من خلال ما يلي:
- الإيمان: جدير بأن يكون صاحبه فطنا لأن الإيمان يعقل [يمنع]صاحبه عن كل مذموم والثقالة من المذموم الذي لا يدركه إلا من كان فطنا بيّن الفطنة ، فينبغي للمؤمن أن يذكي شعوره وينمي إحساسه حتى يصير كيسا فطنا يعرب [يكشف] له اللحظ[النظرة] عن اللفظ وتغنيه الكناية عن الإيضاح ، وبذلك يصير إنسانا بكل ما في الكلمة من مدلول ومعنى .
- قدرة الإنسان على اكتساب الأخلاق والعادات الحسنة والسيئة وقدرته على التخلص من العادات والسلوكيات والأفكار ، هذه المنحة الإلهية لا تدع عذرا لمعتذر بالوراثة أو البيئة لكي لا يتخلص من هذا الخلق الذميم الذي يجلب التعاسة له ولمن يتعامل معهم، فيمكن أن يعمل الثقيل على تطوير نفسه إذا كان يرغب في مشاركة الآخرين أحاديثهم ومجالسهم.
- رعاية حرمات المسلمين والتدقيق فيما يؤذيهم عبادة من أجل العبادات.
- انتباه الإنسان إلى محدودية قدرة الآخرين على سماع قصصه وأحكامه على الناس والأحداث ، ومحاولته فرض رأيه بالإلحاح أو بالاحترام بسبب السن أو المقام الذي يفقده مع تكرار المواقف التي يبغضها الجلساء ، قال حماد بن أبي سليمان: (من خاف أن يكون ثقيلاً فهو خفيفٌ) و(من أمن أن يثقل، ثقل) .
- محاولة التقاط الأخلاق الحسنة بالمعاشرة الجميلة والانتباه لمكامن الجمال ، وتربية أبنائنا على الصلاح الذي يشمل تحقيق قوله ﷺ: «الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ» .وذلك بإصلاح هذا الخلل منذ الصغر عندما يتعلمون متى يتكلمون ومتى يسكتون ومتى يسألون ومتى يرون شيئا ويغضون أبصارهم وعقولهم عن تتبع عورات الناس.
- تعلم حسن التخلص عندما يشعر الشخص باستثقال الآخرين له.