من الملاحظ أنه منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى وقتنا الراهن والمسلمون أسرى لثنائيات مفرقة صراعية لا تزال محلا للسجال، أسهمت بقوة في القضاء على ثورات الوعي التي قام بها المجددون، فضلا عن ثورات الشعوب لنيل حريتها واستقلالها وتحقيق آمالها في العيش الكريم، وآخرها ما سميت بـ “ثورات الربيع العربي” التي انطلقت في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين؛ إذ سرعان ما نشبت صراعات كبيرة حول ثنائية “الدولة الدينية” و”الدولة المدنية”! مما أحدث استقطابًا حادًا أسهم بقوة في تفريق الثوار وفض جمعهم ومكن منهم من يقفون حائطًا صلدًا يحول بينهم وبين تحقيق أحلامهم النبيلة، فإذا بهم يعودون أشد ضراوة واستخفافًا بالشعوب وأكثر تبعية للقوى الاستعمارية الكبرى التي يبدو أنها شرعت في العودة من جديد للاحتلال العسكري المباشر لدول العالم الإسلامي بعد أن اكتفت منذ منتصف القرن العشرين بالاحتلال غير المباشر للعقل والإرادة.
كيف وقعنا في فخ ثنائيات التيه؟
الواقع أن التتبع التاريخي لحال الفكر الإسلامي يدلنا على أن جدلية الثنائيات قد ظهرت من قديم، وكان من أبرزها ثنائية العقل والنقل، أو الرأي والحديث، غير أن هذه الثنائيات قد تميزت بأنها كانت مجرد تعبير عن اتجاهات فكرية وفقهية متكاملة وغير صراعية في غالبها، ولم تكن مصدرًا مفضيًا إلى التيه، بل نبعًا للثراء والتلاقح الفكري، لاسيما وقد كان ظهورها مصاحبًا لريادة نهضوية شاملة للحضارة الإسلامية.
أما في العصر الحديث فالمتأمل في حال العالم الإسلام –بعمق وإنصاف- سيكتشف ظهور ثنائيات ذات طبيعة مختلفة تمامًا، يصح وصفها بأنها كانت عبارة عن استجابة غير سوية لصدمة الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، والتي كشفت عن هزيمة حضارية كبرى أمام الأوروبيين، فإذا بقادة الفكر والثقافة والسياسة ينقسمون وتنشب بينهم صراعات -تزيد الضباب ضبابًا والتيه تيها- حول ثنائيات -نظرية بحتة غالبًا- تدور معظمها حول دور الدين والموروث الثقافي في عملية النهوض المنشود، وذلك تحت عناوين مفرقة كثيرة تطرح معظمها أسئلة خارج مقرر النهوض، وتقيم صراعًا مفتعلا بين أسئلة النهضة والهوية والعمل والأخلاق، بدلا من أن يتركز النقاش حول كيفية الالتفاف حول سبيل واحد يرتكز على قيم موحدة (بفتح الحاء وبكسرها) مثل الاستقلال الحضاري، والحرية، والعدل، والعمران، والمساواة، والشورى.
هناك نماذج وافرة لثنائيات التيه التي أحاطت بعملية الإصلاح الحضاري وأطاحت به، ومنها -على سبيل المثال لا الحصر-: القديم والحديث، الأصالة والمعاصرة، العقل والنقل، الدين والعلم، الإسلام والعلمانية، الديني والسياسي، الخصوصية والعالمية، الشريعة والقانون، الديمقراطية والشورى، الإسلام والحكم، الإسلام والقومية العربية، الدولة الدينية [الإسلامية] والدولة المدنية… إلخ.
ولعل ثنائية الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي –كنموذج- كانت من أبرز الثنائيات الصراعية التي ثارت حولها نزاعات مفتعلة، وكانت محلا للمزايدة فيما بين الحركات السياسية الساعية إلى السلطة، والتي استغلتها كثير من الأنظمة العربية الحاكمة في الإلهاء عن استبدادها وتغولها وتبعيتها المشينة للقوى الاستعمارية الكبرى.
والمدهش أن الفروق بين الشريعة الإسلامية والقانون ليست بالضخامة التي كان يصورها المتصارعون أو يتصورونها، وأحكامهما الفرعية لا تتناقض تناقضًا صريحًا إلا في مسائل محدودة (رغم أهميتها بالطبع)، ولذلك حين جلس الشرعيون والقانونيون (ومن ضمنهم مسيحيون!) لسن قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية -أو على الأقل غير مناقضة لها- في لجان شكلها البرلمان المصري لهذا الغرض في الفترة من 1978-1982م، لم يوجد أثر يذكر في الواقع العملي لهذا الصراع المفترض بين الشريعة والقانون، ولم يثر خلاف واحد (معلن على الأقل) بين المجتمعين استنادًا للهوية الدينية أو الثقافية بل وانتهت اللجان من عملها كاملا دون ضوضاء أو ضجيج!
هذه الحالة النموذجية تبين إلى أي مدى يمكن أن تؤسس الثنائية المفرقة على معطيات غير واقعية، وأنها من الممكن أن تكون محلا للنقاش لا للسجال المنبني على وضع كل منها في مقابل الأخرى غفلة عن إمكانية الجمع بينهما، وهو أمر يرجع في ظني إلى تسييس النقاش حول قضايا ثقافية بطبيعتها، كان الأجدر أن يتولاها المتخصصون لا الإعلاميون والسياسيون.
الهجر هو الحل
نعم، الحل هو الهجر والإعراض؛ أي تجاوز هذه الثنائيات إلى غير رجعة وتجاهلها، والتركيز -بدلا من الوقوع في فخاخها- على المشكلة الأساسية التي يعاني منها العرب والمسلمون منذ قرون، وهي تقهقرهم إلى ذيل الأمم حتى أوشكوا على الخروج من التاريخ، بل ومن الجغرافيا كذلك!
وهذا الحل نادى به ضمنيًا من قبل، المفكر الجزائري “مالك بن نبي” الذي ركز على المشكلات الكبرى التي يتعين على المسلمون أن ينتبهوا إليها، ولا يلههم عنها أحد، وجمعها كلها تحت عنوان واحد، وهو “مشكلات الحضارة”، وهو العنوان الذي ألف تحته كل كتبه القيمة، التي سبرت أغوار التخلف في العالم الإسلامي وكشفت كيف يستغله الآخرون للهيمنة عليه، أو بمعنى آخر، وعلى حد تعبيره: “القابلية للاستعمار والاستعمار” (انظر على سبيل المثال كتبه: “شروط النهضة”، و”وجهة العالم الإسلامي”، و”مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” وغيرها).
وعلى الرغم من أن “المنظور الحضاري” لمشكلات العرب والمسلمين لم يقتصر على مالك بن نبي وحده، بل هناك آخرون نبهوا إليها، مثل: على عزت بيجوفيتش، وعلي شريعتي، ومحمد الغزالي، وعبد الوهاب المسيري ومنى أبو الفضل، إلا أننا نلحظ أن هذا الفكر العميق الشامل لم تكن له الريادة ولم يُلتفت إليه إلا قليلا، حتى أننا نستطيع أن نطلق عليه مسمى “الفكر المهجور”، وعلى المنادين به “المفكرين المنبوذين” الذين نبذهم التخلف ومن يرسخونه معًا عن وعي وقصد أو بدونهما، بل وحورب معظمهم من المعرقلين للفكر الحضاري في الداخل والخارج، وانظر إلى ما رواه كل من مالك بن نبي وعلي شريعتي عما تعرضوا له من إهمال وتضييق ومكر سيئ في كثير من كتاباتهم للتحقق من ذلك!
على أية حال فإن هجر ثنائيات التيه سيحدث تلقائيًا عند تحديد قيمنا وأهدافنا الكبرى والتوحد خلفها، مما سيدفعنا إلى التركيز على تحقيقها عوضًا عن الالتفات إلى تلك الثنائيات؛ فمثلا: حين يثير أحد ثنائية الشريعة والقانون علينا أن نتحدث بدلا من ذلك عن سيادة القانون (سواء كان مستمدًا من الشريعة الإسلامية من عدمه، فالتفكير في هذا الأمر مرحل إلى حين استعادة الأمة لسيادتها)، وإذا أثار البعض ثنائية الدولة الدينية والدولة المدنية فعلينا أن نقول بل “الدولة العادلة” التي لا تظلم أحدًا، مسلما كان أو غير مسلم، وإذا حدثنا أحدهم عن القديم والحديث، سنرد بأن ما يحقق نهضتنا سنأخذ به قديمًا كان أو حديثًا أو خليطًا بينهما!
وعلى المنوال المتقدم سوف نتخلص تدريجيًا من سجالية تلك الثنائيات لمصلحة أهدافنا الحضارية الكبرى، وهي أهداف لا يختلف عليها إثنان بشرط رشدهما وفقههما للأولويات الحضارية وترتيبها.