عندما يذهب شخص إلى الطبيب شاكيا من علةٍ ما فالمتوقع أن يستمع الطبيب إلى شكواه ثم يقوم بالكشف السريري عليه، ثم يكتب له الدواء الذي يراه مناسبًا لحالته.
ولن يفوت الطبيب تذكير مريضه بطريقة أخذ الدواء.. فهذا يؤخذ قبل الأكل، وهذا بعده، وذاك قبل النوم، ثم ينصحه بالانتظام في أخذه، وفي النهاية يطلب منه مراجعته بعد أيام.
ومما لا يختلف عليه اثنان أن أول سؤال سيسأله الطبيب لمريضه عند المقابلة الثانية سيكون استفسارًا عن مدى تحسن حالته الصحية.. ثم بعد ذلك سيبدأ في الاستفسار عن مدى انتظام مريضه في أخذ الدواء بالجرعات المتفق عليها.
بالتأكيد -كما تعلم أخي القارئ- أنه سيسأل أولا عن مدى تحسن حالته؛ لأن هذا هو الهدف الأساسي من مجيء المريض إليه، وما الدواء إلا وسيلة لتحقيق الهدف.
العجيب أن هذا الأمر البديهي الذي لا يختلف عليه اثنان، لا نجده يحظى بمثل هذا الاتفاق في أمر العبادات وأثرها في تحسين السلوك.
غاية الخلق
لقد خلقنا الله عز وجل وأسكننا الأرض لنقوم بمهمة عظيمة، ألا وهي ممارسة العبودية له سبحانه من استسلام تام له، وطاعة لأوامره، ودوام سؤاله والافتقار والتمسكن بين يديه، والتوكل عليه، والإخلاص له، مع حبه وإيثار محابه ومراضيه على كل شيء.
هذه الأمور تستلزم حياة القلب، وتخلصه من سيطرة الهوى وحب الدنيا.
ولقد أرشد الله عز وجل عباده إلى الوسائل التي تقوم بإحياء القلب، فالعبادات أدوية ناجعة تحقق للقلب عبوديته التامة لله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21].
فالصلاة (تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)
والصدقة تطهر القلب من حب الدنيا (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبة 103].
والذكر يزيد القلب طمأنينة وسكينة (أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]
والصيام يدفع في اتجاه تحقيق التقوى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].
ويمكننا أن نقول في إجمال: إن العبادات منظومة متكاملة لتحقيق الهدف العظيم من وجودنا على الأرض، ألا وهو تحقيق العبودية لله، والقرب الدائم منه (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق: 19].
فما من عبادة أرشدنا الله إليها إلا وتعد بمثابة وسيلة ومركبة تنقلنا إلى الأمام في اتجاه القرب من الله حتى نصل إلى الهدف العظيم في الدنيا “أن تعبد الله كأنك تراه”.
غياب الرؤية
وعندما تغيب هذه الرؤية ويصبح الهدف هو أداء العبادة بأي شكل كانت فإن ثمرة العبادة لا تكاد تظهر للوجود، ومن ثمَّ يظل العبد في مكانه لا يتقدّم في مضمار سباق السائرين إلى الله، ولا يجد حلاوة الإيمان ولا يشعر بتحسن ملحوظ في سلوكه، لتكون النتيجة أنك قد تجد أمامك إنسانا له شخصيتان متناقضتان، فقد تجده شخصا كثير الصلاة والصيام والحج والاعتمار، ومع ذلك تجده لا يؤدي الأمانة، ولا يتحرى الصدق، ويسيء معاملة الآخرين، ويحسدهم على كل خير يبلغهم.. يصاب بالهلع والفزع إذا ما تعرضت أمواله وممتلكاته أو دنياه لمكروه.
هذه المظاهر السلبية وغيرها تدل على أن صاحبها لم يستفد من عباداته، ولم يتحسن إيمانه بها، وبالتالي لم ينتج عنها الأثر الصحيح الذي من شأنه أن يحيي القلب ويوجه المشاعر نحو الله عز وجل، والسلوك نحو مراضيه.
وتأكيدا على هذا التشخيص لك أخي القارئ أن تتأمل قوله ﷺ: “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب.
فالمقصد من العبادة ليس أداءها من الناحية الشكلية فقط، بل الأهم والأهم هو أداؤها بطريقة تحقق هدفها، فإراقة دماء الهدي في الحج ليست مقصودة لذاتها، بل المقصود هو زيادة الإيمان والتقوى من خلال أداء هذه الشعيرة: (لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى) [الحج: 37].
وفي هذا المعنى يقول ابن عباس: (ركعتان مقتصدتان في تفكُّر خير من قيام ليلة بلا تفكر).
فالسير إلى الله والقرب منه إنما يكون بالقلوب.. مع العلم أن وسائل ذلك من عبادات مختلفة لا يمكن تجاوزها أو الاستهانة بها، ولكن في نفس الوقت لا ينبغي تحويلها من وسائل إلى غايات؛ وبالتالي أداؤها على أي نحو وبصورة شكلية.
اسأل واقعنا
ولعل الواقع الحالي للمسلمين خير دليل على أن هناك حلقة مفقودة بين العبادات وبين أثرها، فعلى الرغم من كثرة عدد المصلين في المساجد، وعلى الرغم من كثرة المتطوعين بالصيام والصدقات، والمتنفلين بالحج والعمرات، فإننا لا نرى الأثر المتوقع لهذه العبادات، فما أسهل أن تجد مصليا يكذب من أجل تحقيق مصلحة أو دفع مضرة.. وما أكثر أن تجد قارئا للقرآن متقنا لتلاوته يسيء معاملة أهله ويذيقهم الويلات تلو الويلات، وما أكثر وما أكثر.
وجود هذا الانفصال بين العبادات وأثرها مردُّه إلى تعامل غير صحيح مع العبادات يفرغها من مضمونها الحقيقي، ويقصرها فقط على الناحية الشكلية، ولعل من أسباب ذلك:
تسليط الضوء على أحاديث فضائل الأعمال واجتزاؤها من سياقها العام، وعدم النظر المتكامل لبقية الأمور التي من شأنها تحسين أداء تلك الأعمال.
كذلك سهولة القيام بالطاعات من الناحية الشكلية فقط، فالاجتهاد في تحقيق التجاوب القلبي مع البدني يحتاج إلى جهد لا يريد الكثيرون بذله؛ وبالتالي يستسهلون ذلك التعامل الخاطئ.
ومنها أيضا الشعور بالرضا عن النفس وتحقيق الذات بإنجاز (كَمّ) معتبر من العبادات، فكلما أنجز شيئا شعر بالرضا عن نفسه، وهذا الشعور يدفعه دفعا للاستمرار في هذا الطريق.
وغير ذلك من الأسباب التي أفرزت هذا الوضع الشاذ الذي نعيشه.
تحصيل الثواب والثمرة
ولئن كانت أسباب اهتمامنا بالقيام بظاهر العبادة دون جوهرها كثيرة متعددة فإن أهم تلك الأسباب هو الرغبة في تحصيل الثواب المترتب عليها، فعلى سبيل المثال قراءة القرآن، هذه العبادة العظيمة التي من شأنها أن تحيي القلب وتنيره وتشفيه من أسقامه، قد تحولت على ألسن الكثير من المسلمين إلى ألفاظ تُقرأ بلا فهم ولا تدبر ولا تأثر، بل أصبحت الغاية من التلاوة هي قطع المسافة بين فاتحته وخاتمته في أقل وقت ممكن أملا في تحصيل الثواب؛ وذلك عملا بقوله ﷺ:
“من قرأ حرفا من كتاب الله فله عشر حسنات، أما إني لا أقول (الم) ولكن (ا) حرف و(ل) حرف و(م) حرف”.
العجيب أن هناك العديد من الآيات والأحاديث التي تتحدث عن تدبر القرآن لتحصيل العلم والثواب والهداية والشفاء، وتذم من يقرؤه بلا فهم أو تدبر كقوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) [ص: 29 ].
وقوله: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد 24] وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) [الفرقان: 73].
وهذا عبد الله بن عمرو بن العاص يلح على الرسول ﷺ في أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاثة أيام فقال له: “لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاثة أيام”، السلسلة الصحيحة.
ورأى ﷺ يوما بعض الصحابة يقرءون القرآن فقال لهم: “الحمد لله كتاب الله واحد وفيكم الأخيار، وفيكم الأحمر والأسود، اقرءوا القرآن، اقرءوا قبل أن يأتي أقوام يقرءونه يقيمون حروفه كما يقام السهم لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه. [رواه ابن حبان].
ومن أقواله ﷺ: “إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فلينصرف، فليضطجع”، صحيح الجامع الصغير 717.
وعندما نزلت آيات سورة آل عمران: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ) قال ﷺ: “ويل لمن قرأ هذه الآيات ولم يتفكر بها”، رواه ابن حبان.
وتأمل معي قوله ﷺ: “ستكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القول ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم”، رواه الإمام أحمد.
وأقوال الصحابة في ضرورة تدبر القرآن كثيرة، منها قول عبد الله بن مسعود: لا تهُذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم من السورة آخرها.
وقول علي بن أبي طالب: لا خير في قراءة ليس فيها تدبر.
وقول الحسن بن علي: اقرأ القرآن ما نهاك فإذا لم ينهك فلست تقرؤه.
وقال رجل لابن عباس: إني سريع القراءة، وإني أقرأ القرآن في ثلاث، فقال: “لأن أقرأ البقرة في ليلة فأتدبرها وأرتلها، أحب إلى من أن أقرأ كما تقول”.
إذن فالنصوص التي تؤكد ضرورة تدبر القرآن وتفهمه وترتيله كثيرة، فلماذا لا يتم التركيز إلا على الأحاديث التي تسرد الثواب المترتب على القراءة فقط دون غيرها؟!
لا شك أن من أهداف تلاوة القرآن تحصيل الأجر، ولكن من خلال القراءة المتدبرة التي تزيد الإيمان وتُذكِّر القارئ بما ينبغي عليه فعله أو تركه فيصير القرآن حجة له لا عليه.
يقول ابن القيم: لو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فقراءة آية بتفكر خير من ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان وتذوق حلاوة القرآن.
لقد جربنا القراءة السريعة، وكان هَمُّ الواحد منا الانتهاء من ختم القرآن، بل كان بعضنا يتنافس في عدد مرات الختم، خاصة في رمضان، فأي استفادة حقيقية استفدناها من ذلك؟! ماذا غيَّر فينا القرآن؟! أيُّ تحسُّن حدث في أخلاقنا ومعاملاتنا نتيجة لكثرة القراءة باللسان والحناجر فقط؟!
إحسان ثم إكثار
ليس معنى هذا الكلام الزهد في الأجر والثواب المترتب على أداء العبادات، بل المقصد هو إحسان العبادة أولا والاجتهاد في حضور العقل وتفاعل القلب معها، ثم لنكثر منها بعد ذلك ما شئنا، فنجمع بين الأمرين، وننال الخيرين.
بل إن الثواب المترتب على الأعمال يرتبط ارتباطا وثيقا بحضور القلب أثناء القيام بها.. يقول ابن القيم:
وكل قول رتَّب الشارع ما رتَّب عليه من الثواب إنما هو القول التام كقول الرسول ﷺ: “من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة حُطت عنه خطاياه، أو غُفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر”، وليس هذا مترتبا على قول اللسان فقط.. نعم من قالها بلسانه غافلا عن معناها معرضا عن تدبرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها، راجيا مع ذلك ثوابها، حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب فتكون صورة العملين واحدة وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتهما ما بين السماء والأرض.
الفهم الصحيح أولا
إن الفهم الصحيح لمقاصد العبادات، وأنها وسائل توقيفية لإحياء القلب بالإيمان، هو الخطوة الأولى على طريق الاستفادة الحقيقية من تلك العبادات.. وسيكون من نتاج ذلك الفهم البحث عن كيفية إحسان العبادة.
ففي الصلاة سيكون الهمُّ هو حضور القلب فيها، وهذا يستدعي التبكير إلى المسجد، والتفكر في الآيات المقروءة، والاطمئنان في الركوع والسجود، وكثرة المناجاة والدعاء والتبتل.
وفي الذكر سُيقرنه الذاكر بالتفكر فيه، فيستغفر مستحضرا ذنوبه وتقصيره في جنب الله، نادما على ما أسلف، مستحضرا عظمة مَن عصاه، وسيقرن التسبيح متفكرًا في مظاهر عظمة الله وقدرته وإبداعه، كما يقول الحسن البصري: “إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا القلوب فنطقت بالحكمة”.
حتى لا يضيع علينا رمضان
إذا أسقطنا هذا المفهوم على رمضان فإن تعاملنا معه سيختلف عن ذي قبل، ولأن هذا الشهر يمثل فرصة ذهبية لإحياء القلب وعمارته بالإيمان وانطلاقه في رحلة السير إلى الله لما اجتمع فيه من وسائل لذلك، مثل الصيام والصلاة والقيام وتلاوة القرآن والصدقة والاعتكاف والذكر والاعتمار.
هذه الوسائل إذا ما أُحسِن التعامل معها فإن أثرها سيكون عظيما في إحياء القلب وتنويره وتأهيله للانطلاق في أعظم رحلة.. “رحلة السير إلى الله”.
أما إن تم التعامل معها بصورة شكلية محضة فسيبقى الحال على ما هو عليه؛ ستبقى الأخلاق هي الأخلاق، والنفوس هي النفوس، والاهتمامات هي الاهتمامات والواقع هو الواقع.
الدكتور مجدي الهلالي5>