كثيرا ما نسمع في أجهزة الإعلام والصحف الكلام عن حقوق الإنسان ، والدفاع عنها ، وربما يخلط في ذلك الحق ، الكثير من الباطل والمنكر والزور ، وإظهار الباطل في صورة الحق والعكس .
وللشريعة الإسلامية الغراء فضل السبق على كافة المواثيق والإعلانات والاتفاقيات الدولية في تناولها لحقوق الإنسان ، وتأصيلها لتلك الحقوق منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان ، وما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، والاتفاقيات الدولية اللاحقة ، ومن قبلها ميثاق الأمم المتحدة ، ما هو إلا ترديد لبعض ما تضمنه الشريعة الإسلامية الغراء !
فقد قال الله تعالى في كتابه { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } (سورة الإسراء : 70 ).
وحقوق الإنسان كما جاء بها الإسلام في كتاب الله تعالى ، وسنة نبيه ﷺ المطهرة ، حقوق أصلية ثابتة ، لا تقبل حذفاً ولا تعديلاً ، ولا نسخاً ولا تعطيلاً، بل إنها حقوق ملزمة للجميع ، شرعها الخالق سبحانه وتعالى ، فليس من حق أي بشر كائناً من كان ، أن يعطلها ، أو أن يتعدى عليها ، ولا تسقط بإرادة الأفراد بالتنازل عنها، ولا بإرادة المجتمعات ، ولا بأمر السلطات التي تحكمه .
أما فيما يتعلق بالقيمة القانونية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، فهو ليس إلا مجرد تصريح صادر عن الأمم المتحدة غير ملزم للدول أو الحكومات !!
فحقوق الإنسان في المواثيق والأعراف الدولية ، عبارة عن توصيات أو أحكام أدبية ، أما في الإسلام فحقوق الإنسان عبارة عن فرائض وواجبات ، تحميها عقوبات جزائية ، فللسلطة العامة في الإسلام حق الإجبار على تنفيذ هذه الفرائض ، خلافاً لمفهوم هذه الحقوق في المواثيق الدولية ، والتي تعتبرها حقاً شخصياً مما لا يمكن الإجبار عليه إذا تنازل عنه صاحبه.
إن كرامة الإنسان حق من حقوقه التي كفلها الإسلام للإنسانية عامة، وواجب من الواجبات الشرعية الملزمة ، والتي يسأل عنها الحاكم والمحكوم ، لا تخضع لاجتهادات الجماعة فتختلف من زمان إلى زمان ، أو من مكان إلى مكان ، بل هي حقوق ثابتة، وليس فضلا يمنحه المجتمع للإنسان.
بل الفرد نفسه ملزم بتحقيق هذه الحقوق التي تحقق له الكرامة الذاتية ، فأمره الله سبحانه بالابتعاد عما يمتهنها بذل وخضوع ، وعبودية لغير الله تعالى ، وهو الشرك بالله بأحد الأنداد أو الأصنام ، وكذا فليس له أن يقتل نفسه بالانتحار ، ولا أن يتعاطى المخدرات ، والمسكرات القاتلة والمهلكة للصحة ، والمذهبة للعقل الذي هو ميزة الإنسان عن الحيوان .
وهذا بيان مختصر لمضمون حقوق الإنسان في الإسلام ، وأحكام الإسلام فيها ، ومنها: حق الحياة ، وسلامة البدن ، والعقل ، والعرض والمال ، والأهل ، والحرية ، والمساواة ، والتكافل.
حق الحياة والسلامة في البدن والعقل والعرض والنسل والمال
إنّ مما يدل على كرامة الإنسان في الإسلام ، هو تسخير الكون برمته للإنسان ، قال تعالى { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } ( سورة البقرة : 29 ). وقال تعالى { ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات والأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنه } ( سورة لقمان : 20).
وأن الاعتداء على الإنسان الواحد ، يساوي الاعتداء على البشرية قاطبة ، كما قال تعالى : { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } ( سورة المائدة : 32). وعدم التهور في إلقاء النفس بالتهلكة ، فقال تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } ( سورة البقرة : 195).
فجاءت الشريعة الاسلامية بكل ما فيه حماية للإنسان وحفظ نفسه ، فالإنسان محترم في حياته وبعد مماته ، فلا يجوز التمثيل بجثته ولو في الحرب ، حتى القتال لم يشرع إلاّ من أجل إحقاق الحق ، والدفاع عنه ، ورد الباطل والفساد ودرء شره عن الناس ، وذلك بعد الإنذار والإعلان ، مع وجود القيود الصارمة على العمليات الحربية ، فالإسلام حرم قتل غير المحاربين من النساء ، والأطفال ، وكبار السن والرهبان .وما القصاص إلاّ دفاعٌ عن الإنسان وحياته ، فبالقصاص تحيا النفوس ، كما قال الله تعالى: { ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب } ( سورة البقرة : 179) . كما أوجب لحمايتها تناول ما يقيمها ، من ضروري الطعام والشراب واللباس والسكن .
وجاءت الشريعة بالحفاظ على النسل والأنساب ، فمن ذلك الحث على إيجاد النفوس وبقاء النوع على الوجه الأكمل ، وذلك بالزواج والتناسل .
وأوجبت ” حفظ العرض ” بوسائل كثيرة ، منها : غض البصر ، وحفظ الفرج ، وتحريم الزنا والوسائل الموصلة إليه، والمعاقبة عليه أشد العقوبات ، وفرض حد القذف .
وكذا ” حفظ الأموال ” فمن الضروريات التي لا تستقيم حياة الناس إلا به المال ، فهو عصب الحياة . ولذا أوجبت للحفاظ على المال : السعي في طلب الرزق ، وأباحت المعاملات والمبادلات والتجارات .. وللحفاظ على المال حرمت الشريعة السرقة والغش والخيانة ، والربا بكل صوره ، وأكل أموال الناس بالباطل وعاقبت على ذلك .
وكذا الحفاظ على ” العقل ” بتحريم الخمر والمخدرات ، وما يذهب العقل ، حرصاً على سلامة بدنه ، وعقله ، وعدم السخرية منه ، أو شتمه ، أو مناداته بلقب لا يحبه .
حق الحرية للإنسان
فقد خلق الله تعالى الناس إحرارا ، إلا من العبودية له سبحانه وتعالى ، فمن استعبد الناس وأذلهم ، فقد عارض الله عزوجل في حكمه ، وقد وصف اللـه سبحانه وتعالى الإنسان بأنه الخليفة في الأرض ، قال تعالى: { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } (سورة البقرة : 30) . وهذا الوصف له مدلولاته من حيث ما ذكر من الكرامة والاحترام ، والتميّز في هذا المخلوق ، الذي فُضل على غيره من المخلوقات . ولقد عانت الإنسانية من العبودية لغير الله عز وجل ، والاستذلال للمخلوقين أزمنة طويلة ، وما زالت تعاني إلى الوقت الحاضر ، بسبب الدول الاستعمارية الكبرى ، وإن تغيرت مسميات هذه العبودية !!
وعند بزوغ فجر الإسلام ، جاءت تعاليمه صريحة في القضاء على العبودية والرق ، وتحرير الناس منه ، حيث ضيقت مداخله ، ووسعت طرق إلغائه والتخليص منه ، بالكفارات المتنوعة ، ثم بالترغيب بالعتق ، فلم يبق من مداخله إلاّ الحرب التي تقوم بين المسلمين والكفار ، وأمّا طرق إلغائه فكثيرة جداً قد بيّنت في أبواب الرقّ في الفقه الإسلامي .
ولا يتنافى واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الحرية الفردية ، لأن قيام أفراد من المجتمع بذلك ، فيه الحرص على حماية الآخرين مما يضرهم ، ويضر أديانهم ونفوسهم وعقولهم وأعراضهم ، وتنبيههم للأخطار المادية والنفسية .
العدل والمساواة
ومن الحقوق التي كفلتها شريعة الإسلام للناس : مبدأ المساواة بينهم ، فتعد المساواة بين الناس على اختلاف الأجناس والألوان واللغات ، مبدأً أصيلاً في الشرع الإسلامي ، وهذا بخلاف الحال في الحضـارات السابقة للإسلام ، فقد كانت النظرة للإنسان حسب جنسه أو لونه ، أوغناه أو فقره ، أو قوته أو ضعفه ، أو حريته أو عبوديته ، وكانت طبقة الحكام ورجال الدين ، من الطبقات المميزة ، بل إنّ بعض المجتمعات غير المسلمة عنده طائفة المنبوذين ، الذين يحرم عليهم ، أن ينتقلوا إلى طبقة أعلى ، حتى ولو كانت مَلَكاتهم وقدراتهم تتيح ذلك .
فالإسلام جعل المعيار الوحيد للتفاضل ، والذي يتساوى أمامه الخلق جميعاً ، على اختلاف الأجناس والألوان واللغات ، والحرية والعبودية ، معيار التقوى ، قال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللـه أتقاكم } ( سورة الحجرات : 13) .كما يتساوى الناس جميعا في الثواب عند الله والعقاب ، في الدنيا والآخرة ، قال تعالى { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } ( سورة النحل : 97)، وقال تعالى: { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما } (طه : 111) أي : لا يخاف أحد أن يزاد في سيئاته ، ولا يهضم شيء من حسناته ، وذلك لكل البشر دون تمييز لأحد على أحد ، كما قال سبحانه { ولا تزر وازرة وزر أخرى } (سورة فاطر: 18) .
ولا تتنافى المساواة كما ذكرنا ، مع الاختلاف بين غير المتماثلين في الحقوق الفرعية ، والواجبات الشرعية ، كما هو الحال بين الرجل والمرأة ، فللرجل حقوق وعليه واجبات تناسبه ، وللمرأة حقوق وعليها واجبات تناسبها . وكذا الاختلاف بين الكبير والصغير ، والقادر والعاجز ، والصحيح والمريض، والمقيم والمسافر ، والعالم والجاهل ، والحاكم والمحكوم ، لاختلاف هؤلاء الناس في العلم والقوة والحال ، والقدرات والمسئوليات ، وفي ذلك تحقيق لمصالح لا تخفى ، وبناءً عليها يختلف الناس اختلاف حساب ومسئولية ، وليس اختلاف كرامة ، كما قال سبحانه { لا تكلف نفس إلا وسعا } ( سورة البقرة : 233 ). وقال تعالى: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } ( سورة البقرة : 286 ). وقال تعالى: { ما جعل عليكم في الدين من حرج } ( سورة الحج : 78 ) . فالناس سواسية أمام الله تعالى ، مع اختلافهم في الفروع .
التكافل الاجتماعي
لم تعرف البشرية نظاماً متكاملاً في التكافل الاجتماعي ، مثل ما عرفته في ظل دين الإسلام ، فهو قاعدة أصيلة في بناء الإسلام وأركانه لمن يلاحظ ذلك ، وليس وليد الظروف والتطورات الاجتماعية .
وقد تعددت في الإسلام أبواب التكافل الاجتماعي ، وتراوحت بين الإلزام والاختيار ، ومن ذلك ما يلي :
- أداء فريضة الزكاة ، وهي أحد أركان الإسلام الخمسة ، وحق واجب في المال إذا بلغ مقداراً معلوماً ، في وقت معلوم ، بنسبة معلومة ، في كل أنواع المال ، من : الذهب والفضة ، وما يقوم مقامها من النقود ، والحبوب والثمار ، والأنعام ، وعروض التجارة .
- الصدقات بكل صورها وأنواعها ، وهي عطاء اختياري من الأغنياء للفقراء ، لا منة فيها ولا أذى ، بل رغبة في الأجر والثواب من الله تعالى .وصورها كثيرة : كالنفقة على الأرملة ، والمسكين ، واليتيم ، ومساعدة المحتاج ، والعاجز عن الكسب ، وإكرام الضيف ، وإعانة ابن السبيل ، والإحسان للجار ، وغيرها .
- النفقة على الأقارب ، فالنفقة واجبة على الإنسان لأسرته بحسب قدرته ، من زوجة ، وأبناء وبنات ، وآباء وأمهات ، وإخوة وأخوات ، وبقية الأرحام ، المحتاج منهم للنفقة ، ينفق عليه حسب الوسع والطاقة ، كما في قوله تعالى { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } ( الطلاق : 7 ).
- أحكام الديّات ، حيث يتشارك أقرب العصبة إلى القاتل قتل خطأً ، في دفع الدية إلى ورثة المقتول .والدية هنا ، ضمان من المجتمع لورثة المقتول ، فلا يضيع دم إنسان هدراً في مجتمع مسلم أبدا .
- والتكافل الاجتماعي في الإسلام لم يقتصر على الجوانب المادية فحسب ، بل يمتد إلى ما التواصل المعنوي والروحي وكل ما فيه منفعة للبشر ، كصلة الأرحام بالزيارات ، وإفشاء السلام بين الناس ورده ، وتشميت العاطس ، وعيادة المريض ، واتباع الجنائز ، والتعزية للمصاب ، وإجابة الدعوة إلى الولائم والأفراح .
ومن التوجيهات الإسلامية الرفيعة ، والتي يتميز بها هذا الدين العظيم : ألاَّ يكتم الإنسان العلم النافـع عمّن يحتاج إلى التعليم ، ولا يبخل الإنسان بنصحه على من يحتاج إلى النصح والإرشاد ، من القريب والبعيد ، فالدين النصيحة ، كما ورد في الحديث .
ومن ذلك أيضاً : والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ونصرة المظلوم ، ومنع الظالم من التمادي بظلمه. وهذا كله من الدعم المعنوي ، الذي يساعد على بناء المجتمع وقوته ، وتحقيق حقوق الإنسان فيه .
هذه بعض الكلمات التي جمعناها في هذا الموضوع المهم ، والتي ترد على من حاول الطعن في الشريعة الإسلامية ، والتشكيك بتشريعاتها المباركة العظيمة ، والتي شملت جميع نواحي حياة الناس في الدنيا والآخرة ، واتهامها بالتقصير في حقوق الإنسان أو الاعتداء عليه ، ومحاولة فرض النظم الجاهلية على أهله ، والأفكار الفاسدة ، مما وضعه المفسدون في الأرض ، بل والمنحرفون عن الفطرة الإنسانية ، والجبلة البشرية ، والتي هي في حقيقتها اعتداء على الانسان وحقوقه ، أو تضييع لواجباته الملقاة على كاهله .
ولا يمكن للمسلم أن يعرف حقوق الانسان في الاسلام ، إلا بالعلم والتعلم ، والنظر والتدبر في الكتاب الكريم والسنة المطهرة ، وما دونه علماء الإسلام في هذا المضمار.