- الجابري دعا إلى قطيعة جزئية مع التراث، بخلاف طه الذي دعا إلى التكاملية والتداولية
- المشهد الفلسفي العربي في مستوى التحديات، وعلى وعي بما يقع في العالم اليوم
- ناديت بتدريس الفلسفة لطلاب الشريعة، حتى لا يقع الشرخ بين الحكمة والشريعة
- التفسير الفلسفي للقرآن الكريم.. لماذا غاب عن تراثنا؟
- وباء “كورونا” سيجعل العالم يعيد مفاهيمه الفلسفية عن الوجود والإنسان
تشهد الساحة العربية والإسلامية عددًا من المشاريع الفكرية والفلسفية التي تحاول النهوض بالواقع، وحل إشكالاته، ومواجهة الأسئلة المطروحة عليه.. ومن هذه المشاريع ما أنجزه محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن.
حول المشهد الفلسفي العربي، ومشروعي طه والجابري، وأهم القضايا المطروحة على الفكر الإسلامي المعاصر، جاء هذا الحوار مع الأكاديمي المغربي د. حمزة النهيري؛ وهو أستاذ باحث بمختبر العقائد والأديان بكلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق جامعة الحسن الثاني.. حصل على الدكتوراه والماجستير تخصص العقائد والأديان، وعلى الإجازة في حقل الدراسات الإسلامية تخصص أصول الفقه، وله مجموعة من الدراسات أهمها: (سؤال الدين والأخلاق في الغرب الإسلامي بين مشروعي طه عبد الرحمن ومحمد عابد الجابري)، (العقائدية في الحوار الاسلامي العلماني وأثرها في الفكر المغربي المعاصر من خلال أعمال طه عبد الرحمن وعبد الله العروي)، (المنهج الأصولي للإمام أبي بكر الباقلاني من خلال التقريب والإرشاد الصغير)، (تحقيق رسالة الاحتمالات العشر المخلة بالفهم للقرافي)، (حركة التصحيح الديني عند باروخ سيينوزا من خلال كتابه اللاهوت والسياسة).. فإلى الحوار:
لكم اهتمام بدراسة مشروعَيْ طه عبد الرحمن ومحمد عابد الجابري، من زاوية الدين والأخلاق.. كيف نشأ هذا الاهتمام لديكم، ولماذا هذه الزاوية؟
يعود اهتمامي بفكر الفيلسوفين طه عبد الرحمن ومحمد عابد الجابري إلى سنة 2004؛ فبعد حصولي على الإجازة في الدراسات الإسلامية، حيث كان بحث تخرجي عن منهج الباقلاني الأصولي من خلال كتابه (التقريب والإرشاد)، لقيني صديق حميم فسألني: هل تعرف الدكتور طه عبد الرحمن؟ فقلت له: سمعت به، لكنني لم أطلع على شيء من كتبه. وما هي إلا لحظات حتى رأيت صديقي يأتيني بمجموعة كتب كلها للدكتور طه عبد الرحمن وانصرف، ومن تلك اللحظة بدأت أقرأ لهذا الفيلسوف المغربي الفذ وتوطدت علاقتي به. وللإشارة، فقد عرفت الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله، قبل أن أعرف طه عبد الرحمن.
ومن الأمور التي تكوّن شخصيتي أنني لا أحب أن أركن إلى مجال معرفي واحد في حقل الدراسات الإسلامية؛ ولذلك كنت حريصًا على أن أنهل من سائر العلوم الملية، التي تنقسم إلى قسمين اثنين: علوم وسائطية وعلوم غائية.. رغم أنني ولعت بعلم أصول الفقه؛ فهو العلم الذي يجعل المتفقه يدرس كل العلوم الشرعية ولا يقتصر على فن دون آخر.
فإذا ما اعتبرنا شرط الباقلاني في ضرورة إتقان علم الكلام شرطًا للاجتهاد، أو علم المنطق بالنسبة للغزالي شرطًا في المعرفة كلها، أو علم الحديث بالنسبة للمحدثين؛ فقد كان لابد لي معرفيًّا أن أتعرف على هذه العلوم ولو بشيء تقريبي يقترب قليلاً من الكمال، فإن من المقرر في نظرية المعرفة الإسلامية أن علمًا واحدًا من العلوم الشريعة مما تفنى الأعمار دون تحصيله، لذلك كان علماؤنا ينصحون من كانت له همة عالية أن يسعى لتحصيل العلوم كلها، فالعلم ممدوح مطلقًا كما يقول الإمام الرازي، ولا يزهد في أحد منها ولو تم التشويش عليها، أقصد بذلك الفلسفة والمنطق.
وقد مكنني التفرغ الذي أكرمني به والدي حفظه الله من أن أسلك هذا المسلك، من غير أن يكون لي هدف إحراز الشواهد العلمية؛ فقد كان هاجس نيل الشواهد الأكاديمية لا يخطر على بالي إطلاقًا، وحده هو هاجس إحراز العلوم والظفر بشرف الانتساب إلى العلم وأهله.. وبعد أن أمضيت سنوات ليست بالقليلة في طلب العلوم الشرعية تنبهت إلى أنه ينبغي توظيف المعارف المكتسبة في تقويم الأفكار الجديدة والأطروحات التجديدية التي نادى بها مفكرون وفلاسفة معاصرون، خصوصًا مع تزايد الدعوات إلى تجديد التراث و تجديد الخطاب الديني ونقده.
وإيمانًا مني بأن علوم الشريعة تكسب الباحث قدرة على خوض مختلف دروب العلم والمعرفة، كما نصّ على ذلك الفيلسوف أبو الحسن العامري في كتابه الفذ (الإعلام بمناقب الإسلام)، وبعد التحاقي بماستر علم العقائد والأديان؛ تنبهت إلى ضرورة توظيف المعارف المكتسبة في العلوم الشرعية من خلال دراسة المشاريع الفكرية والفلسفية المعاصرة، وعدم الانجرار نحو تحقيق التراث الإسلامي في الدراسات الأكاديمية مع أهميته البالغة؛ فأنا أعتقد أن تحقيق التراث ينبغي أن يكون بعد مرحلتي الماجستير والدكتوراه.. وللأسف فقد شهدنا أطاريح حقق فيها باحثون تراثًا معادًا ومكررًا ليس فيه إضافة، وهو بطبيعة الحال رأي قد يخالفني فيه عدد من الباحثين الشرعيين، الذين يعتنون بإخراج التراث المناصرين لمقولة “ماترك الأول للآخر شيئًا”.. وهذا موضوع آخر يمكن تخصيصه بالحديث في مناسبة أخرى بحول الله تعالى.
ولأنني قرأت كتب طه عبد الرحمن والجابري، فقد كان اختياري لبحث (مفهوم الدين والأخلاق في فكر الفيلسوفين المغربيين)، وهي رسالتي التي تقدمت بها لنيل شهادة الماجستير في تخصص علم العقائد ومقارنة الأديان.. وكنت منطلقًا في ذلك الاختيار من عدة اعتبارات نذكر منها:
–محاولة التعرف الموضوعي على الفكر المغربي، والفلسفة المعاصرة المغربية على وجه الخصوص من خلال أعمال طه عبد الرحمن ومحمد عابد الجابري.
–الانطلاق من طرح سؤال الدين والأخلاق في فكرهما خاصة، وفي مفهوم علم العقائد وتاريخ الأديان عامة؛ على اعتبار أن عبد الرحمن طه (يحب عبد الرحمن طه أن يذكر اسمه عبد الرحمن أولاً خلافًا للاسم المتداول عنه) يعتبر فيلسوف الفصيل الإسلامي في المغرب ومحمد عابد الجابري يمثل فيلسوف الفصيل العلماني، وإن كان رحمه الله من الرافضين لمصطلح “العلمانية” وما يحمله من تحريفات لمفهومها كما كان يرى ويعتقد… ولأن الأسئلة تبقى والإجابات تفنى، فقد كان سؤال الدين والأخلاق في فكرهما مشروعًا للبحث والدراسة. وقد صدرت مؤخرًا دراسة للمفكر وائل حلاق تتناول فلسفة طه عبد الرحمن الأخلاقية، أبدى فيها مقارنات مع فلسفة الجابري.
–وجود صراع فكري فلسفي عميق في الجامعة المغربية بين طه عبد الرحمن ومحمد عابد الجابري، جعل الساحة الجامعية تغلي بأسئلة التراث والتجديد والحداثة والفكر الديني وغير ذلك..
كل هذا وغيره كان باعثًا لي أن أكتب مقاربة عن مفهومي الدين والأخلاق في مشاريعهما، لأنني لم أجد دراسة تتاولت موضوع فلسفة الدين والأخلاق في فكرهما.. وهو ما أسفر عنه بحث التخرج من ماستر علم العقائد والأديان كما سبقت الإشارة.
ثمة دراسات أكاديمية أخرى تناولت المقارنة بين مشروعي عبد الرحمن والجابري.. ألهذا الحد المشروعان متقابلان؟
بلا شك، فمشاريع الرجلين الفكرية متقابلة، فالجابري ناقد العقل العربي المتيم بابن رشد مبشر بالرشدية واستمرايتها.. وطه عبد الرحمن مسفِّه لفلسفة بن رشد وناقد لها، وصل به الأمر إلى أن يقرر في بعض كتبه بأن ابن رشد إنما هو مقلد لأرسطو وشارح لمقولاته، لا فيلسوفًا بالفعل والقوة منشئًا للفلسفة كما تقتضيه طبيعة الفلسفة ولغتها؛ وهو ما أشار إليه في كتبه، مثل (حوارات المستقبل)، و(الحق العربي في الاختلاف الفلسفي).. وفي سياق آخر نجد طه عبد الرحمن يبشّر بالفلسفة الإسلامية وضرورة القطيعة مع الفلسفة الرشدية، وهو الأمر المعرفي الذي لا يرتضيه زميله الجابري؛ فقد كان هذا الأخير يعتبر طه غزاليًّا معاصرًا جمع بين التصوف والفلسفة.. رغم موقف الغزالي المعروف من الفلسفة والفلاسفة في آخر حياته، التي أسفرت عن كتابيه (تهافت الفلاسفة) و(المنقذ من الضلال).. حيث اعتبر الغزاليُّ الكشفَ الصوفي طريقًا أصليًّا للمعرفة.
لقد كانت مشاريع الرجلين متقابلة متصارعة على جبهات معرفية متعددة، ولكنها كانت تدور في رحاب الجامعة والسجال المعرفي الفكري البناء الذي يعطي للمعرفة روحًا جمالية وذوقًا خاصًّا.. فالحوارات بينهما والردود كانت عن طريق الكتابة والتأليف.. وللذكر، فإن كتاب (تجديد المنهج في تقويم التراث) كان ردًّا صريحا على مشروع الجابري الفكري في نقد التراث الذي خصص له الجابري حيزًا من كتاباته (نحن والتراث-نقد العقل العربي)، ولا يذكر لهما مواجهة فكرية ميدانية، إلا مواجهة واحدة كانت ضمن أعمال ندوة ابن رشد؛ التي نظمتها جامعة محمد الخامس بالرباط، التي كانا يدرسان فيها معًا وهي منشورة ضمن إصدارات جامعة محمد الخامس.
ومن نافلة القول أن نقول إن الجابري كان يحاول أن يتجاهل ناقديه، وهو ما صنعه مع المفكر جورج طربيشي وطه عبد الرحمن.
“التراث” يبدو همًّا مشتركًا بين المشروعين.. ما أوجه الاختلاف بينهما فيما يتصل بالموقف من التراث؟
يمكن القول باختصار شديد إن طه يتفق مع الجابري في ضرورة الانطلاق من التراث، وأن دعوى القطيعة التامة مع التراث التي نادى بها بعض المفكرين كالدكتور عبد الله العروي (وهو أيضًا كان زميلاً لهما ويخوض سجالات معرفية معهما)، دعوى عارية عن الصحة تبطلها شواهد التاريخ والفلسفة وغير ذلك.. فقد اشتهر الجابري بمقولة التراث نملكه ولا يملكنا.
لقد سلط الجابري سهام نقده للتراث في كتابه (نحن والتراث)، وفي مشروعه (نقد العقل العربي) بأجزائه الأربعة، فانتقده طه عبد الرحمن بكتابه (تجديد المنهج في تقويم التراث)، وهو البحث الذي حصل به على جائزة المغرب للكتاب.. ويمكن القول إن الجابري دعا إلى قطيعة جزئية مع التراث، بخلاف طه الذي دعا إلى التكاملية والتداولية في التعامل مع التراث الإسلامي بحيث لا يمكن أن نجدد علوم عصرنا دون معرفته والإحاطة به.
لماذا تبدو لغة طه عبد الرحمن صعبة لكثيرين؟ ألا يضع ذلك حاجزًا بينه وبين عموم القراء، خاصة غير المتخصصين؟
كثيرًا ما يسأل الناس هذا السؤال خصوصًا طلاب الدراسات الإسلامية، والحقيقة أن هذا الأمر يصدق فيه حديث رسول الله ﷺ: “إنما العلم بالتعلّم، وإنما الصبر بالتصبّر”؛ فالعلم ليس بالأمر السهل، فهو يحتاج إلى مكابدة وصبر خصوصًا في العلوم العقلية والجدلية، وقد تميزت كتابات طه عبد الرحمن بأسلوب قوي ومغلق إلى حد ما، يحتاج إلى مراس وصبر.. لأنه كان معنيًّا بنحت المصطلحات وتوليدها، لأن شرط الفيلسوف عنده أن يولِّد المصطلحات الجديدة، لا أن يعيش على المصطلحات القديمة في ظل عصر يعج بالفلسفات والأيديولوجيات والأحداث المتسارعة.
ولأن كثيرًا من ممارسي الفلسفة العلمانيين في العالم العربي كانوا ولا زالوا يروّجون مقالات مفادها خلو كتابات طه عن روح الفلسفة، بل إنهم يزعمون أن ما يمارسه من فعل التفلسف لايعدو أن يكون علم كلام جديد أو فلسفة دين ليس غير.. وهو مانفاه طه مرارًا وتكرارًا في كتبه، من خلال بيان طبيعة لغته الفلسفية المتجددة وغير ذلك من الردود والنقود التي ضمنها كتبه.
ويمكن القول إن من يريد الاطلاع على فلسفة هذا الرجل عليه أن يتدرج في القراءة، وأن يطلع على كتبه التي تعتبر المدخل إلى تراثه، فهي التي تفتح له الباب على مصراعيه لقراءة فلسفته وأفكاره.. نذكر في هذا السياق، كتابه (حوارات من أجل المستقبل)، وكتابه (في أصول الحوار وتجديد علم الكلام)؛ كما نذكر بعض الكتب التي عرَّفت به ككتاب زميله الدكتور عباس أرحيلة (فيلسوف في المواجهة).
وتجدر بنا الإشارة إلى أن بعض كتب عبد الرحمن طه تميزت ببعض المزايا المهمة.. فكتاب (روح الدين) تميز بوضع المؤلف خلاصات مباحث الكتاب، وضعها خصيصًا لمن لم تكن له القدرة أو الحاجة إلى قراءة المباحث الموسعة كلها.. فقد كان يستشعر جيدًا طبيعة اللغة الفلسفية التي لم تخل من تعقيد قديمًا وحديثًا.
دراستكم التي أشرنا لها، تأتي في سياق “الغرب الإسلامي”، كما في عنوانها.. هذا يأخذنا إلى رؤيتكم للشرق الإسلامي، ماذا تقولون عنها، لاسيما من زاوية الفلسفة؟
هذا سؤال مهم، فقد كان الفيلسوفان طه والجابري معنيين بإبراز الفلسفة المغربية على حساب الفلسفة المشرقية؛ فقد كان الجابري يعتقد بأن الغزالي قام بعمل قطيعة معرفية مع الفلسفة السينوية بتكفيره للفلاسفة ونقده اللاذع لها.. حتى جاء ابن رشد القرطبي المغربي ليعيد للفلسفة حياتها ومجراها الطبيعي.. صحيح أن من المعارك التي دارت بين طه والجابري كان بعض رحاها على أرض الحكمة الرشدية، لكنهما كانا معًا مهمومين بالفلسفة المغربية، وضرورة إعطائها المكانة اللائقة بها في ظل تسيّد الفلسفة المشرقية إن صح هذا الإطلاق.. وإلا فإن الفلسفة في نظري لا تقبل قسمة الشرق والغرب بقدر ما هي تقبل قسمة الإسلام وغير الإسلام.. وهذه القسمة الأخيرة هي نفسها محل نظر عند العرب اليوم المشتغلين بالفلسفة (خصوصًا العلمانيين العرب)؛ إذ يعتقد الكثيرون منهم بالاتجاه القائل بأن الفلسفة يجب أن تكون منفصلة عن الدين والمعتقد، وهو ما يأباه طه عبد الرحمن بشدة.. وهذا له تفصيلات أخرى أشرت إليها في كتابي (سؤال الدين والأخلاق في الغرب الاسلامي بين مشروعي طه عبد الرحمن ومحمد عابد الجابري).. وقد اطلع عليه الدكتور طه عبد الرحمن، وأبدى لي رضاه عما كتبت رغم انتقادي له في بعض الأمور.
بل يمكن القول أيضًا في هذا السياق، إن تقريرات طه عبد الرحمن في التصوف كانت ذات نزعة مغربية في مقابل التصوف المشرقي.
ما أبرز المشروعات المشرقية التي تودون دراستها، أو ترون أنها بحاجة للمقارنة وتسليط الضوء؟
من أبرز المشروعات المشرقية التي تستحق الدراسة مشروع المفكر جورج طرابيشي؛ الذي بنى مشروعه الفكري على نقد مشروع الجابري، وهو مشروع يستحق الدراسة.. ومثله مشروع الدكتور حسن حنفي؛ الذي نادى بما يسمى (اليسار الإسلامي)؛ وقد قمت بكتابة دراسة عن هذا المشروع، وهو في طور النشر بإذن الله تعالى.
كيف ترون المشهد الفلسفي العربي عامة؟ وهل هو على مستوى التحديات؟
يمكن القول بأن المغاربة أبانوا عن قدرة هائلة في الفكر الفلسفي المعاصر؛ فإذا ما أخذنا هذه الأسماء المغاربية (طه عبد الرحمن، محمد عابد الجابري، العروي، مالك بن نبي، محمد أركون، أبو يعرب المرزوقي، هشام جعيط، فتحي المسكيني)، فيمكن القول إن لهم قصب السبق في الفكر العربي الفلسفي المعاصر، دون أن نغفل جهود المشارقة كالبروفيسور حسن حنفي، وجورج الطرابيشي، والطيب التيزيني، ومحمد ناصيف، وعبد الجبار الرفاعي، وآخرين..
وهذا المشهد الفلسفي هو بلا شك في مستوى التحديات، وعلى مواكبة ووعي تام بما يقع في العالم اليوم؛ ويكفي أن نعلم بأن طه عبد الرحمن هو عضو الجمعية الفلسفية في ألمانيا (لأن الفلسفة الألمانية هي مهد الفلسفة المعاصرة).
سبق أن أشرتم إلى غياب المزج بين دراسة الشريعة والفلسفة.. وأن دارسي الفلسفة قد يذهب معظهم للتغريب أو الإلحاد.. ما السبيل لتلافي ذلك، وتحقيق ما دعوتم إليه؟
لقد تنبّه لهذا الأمر فلاسفة كبار، كالفيلسوف أبو الحسن العامري في كتابه العظيم (الإعلام بمناقب الإسلام)، والفيلسوف الفقيه ابن رشد الحفيد، فكتب هو الآخر كتابه العظيم (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)، فقد بيَّن فيلسوف الفقهاء وفقيه الفلاسفة أن دراسة الفلسفة والحكمة المتعالية لا تتعارض مع دراسة الشريعة.. بل الفلسفة وسيلة من الوسائل المعرفية للتعرف على خالق الوجود وباعث الرسل ومدبر الكون، وهي السبيل الأنجع لبث لروح الإنسانية في الإنسان من خلال طرح سؤال الوجود وما بعد الوجود ومحاولة الإجابة عنهما.. وهذا ما أراد ابن رشد تقريره بإسهاب في هذا الكتاب، وقد صدر كتابه بنشرتين مهمتين، النشرة الأولى بتحقيق المرحوم محمد عابد الجابري، والنشرة الثانية بعناية الدكتور محمد عمارة رائد الفكر الإسلامي المعاصر رحمه الله.. والملاحظ على التحقيقين أن تحقيق الجابري يبطن الدعوة إلى العلمانية، من خلال الترويج لهذا الكتاب باعتباره في نظره أول كتاب تراثي دعا فيه صاحبه إلى العلمانية أو العقلانية، وأن الفلسفة الرشدية طريق إلى الحداثة والعقلانية والديموقراطية في الوطن العربي الإسلامي (وهي دعوى عاطفية من الجابري، عارية عن الصحة).. وكأنه يقول خطاب فقهاء الإسلام خالٍ من العقلانية؛ وهذا ما رددته في كتابي (سؤال الدين والأخلاق)، وهو الطرح الذي قرر خلافه المرحوم محمد عمارة في تحقيقه لكتاب (فصل المقال).
وأعتقد أن الترويج للقطيعة بين دراسة الفلسفة والشريعة، أنتج لنا صنفين من الناس في دنيا المعرفة الدينية، على الأقل في عالمنا العربي الإسلامي:
الصنف الأول: ماقت للفلسفة، مكفِّر لأصحابها، ناهٍ عن الاشتغال بها والاحتفال برموزها القدامى والمعاصرين.. وهذا الصنف يمثله الفكر السلفي المعاصر في جل مدارسه، وإن كان شيخ الإسلام بن تيمية (الذي يعتبر مرجعًا فكريًّا مهمًّا لها) من العلماء الكبار الذين استأنفوا القول الفلسفي، من خلال التجديد في المنطق ونقده الكبير والموسع لهذا العلم، الذي يعتبر مدخلاً للفلسفة، وكذلك من خلال خوضه في دقيق علم الكلام والفلسفة كما هو في كتبه المطولة.. وقد صدرت دراسات فلسفية مهمة تبرز الجانب المعرفي الفلسفي عند ابن تيمية؛ يمكن الإشارة في هذا السياق إلى دراسة بعنوان (مناحي نقد ابن تيمية لابن رشد)، ودراسة بعنوان (ابن تيمية واستئناف القول الفلسفي في الإسلام)، وغيرهما من الدراسات.
الصنف الثاني: يتعلق بصنف المعظمين للفلسفة، المزدرين بالفكر الديني مطلقًا، المبشرين بالإلحاد في العالم العربي والاحتكام إلى الدين الطبيعي والقوانين الأخلاقية الأممية.
ولذلك ناديت مرارًا إلى ضرورة تدريس العلوم الفلسفية لطلاب الشريعة، حتى لا يقع هذا الشرخ بين الحكمة والشريعة.. فالشريعة الإسلامية دعت إلى المعرفة وعظّمت من شأنها، ما لم تفعله سائر الديانات.. وهذا وحده كافٍ لرأب الصدع الواقع في هذه المسألة، أو التخفيف من حدته.
ما أهم القضايا المطروحة على الفكر الإسلامي المعاصر؟
هناك قضايا كثيرة مطروحة على الفكر الإسلامي المعاصر أوليتها اهتمامًا في رسالتي للدكتوراه التي كانت بعنوان (العقائدية في الحوار الاسلامي العلماني وأثرها على الفكر المغربي المعاصر من خلال أعمال طه عبد الرحمن وعبد الله العروي)، فقد أشرت في كتابي هذا إلى أن الفكر الإسلامي مدعو بقوة إلى النقاش والحوار مع العلمانية في مسائل عديدة، كالحرية والحداثة والفكر الديني.. وتجاوز الطرح الكلاسيكي الإسلامي لها، من خلال استشعار وجود علمانيات جديدة وأن الحوار هو السبيل الأوحد لحل الإشكالات الفكرية بين الفصيلين.. تلك الإشكالات المعيقة للنهضة في العالم العربي الإسلامي، مصداقًا لقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.
كذلك أشرت إلى ضرورة التأسيس لعلم كلام جديد؛ يقوم بالرد على أسئلة الإلحاد المعاصرة والتأسيس لعلم عقائد مستوعب للقديم والجديد.. وأشرت كذلك إلى ضرورة جعل علم مقارنة الأديان ضمن فروع علم الكلام الجديد.
كما ألمعت إلى أنه يجب طرح مفهوم الحرية والديمقراطية والهوية وغيرها من المفاهيم الفكرية المعاصرة في مباحث علم الكلام الجديد، من خلال المنظور الإسلامي الخاص للعقائد.
ما رأيكم بقضية التفسير الفلسفي للقرآن الكريم؟
هذا الموضوع شغل بالي كثيرًا، وكنت أرجو أن يتفرغ لهذه المهمة الدكتور طه عبد الرحمن، وللأسف نسيت أن أذكر له هذا الأمر حين التقيت به.. ويمكن أن نذكر في هذا الصدد دراسة تعد من الدرر التي جادت بها قريحة علماء مصر العظام، وهي بعنوان (الفلسفة والقرآن)؛ حيث تعتبر هذه الدراسة من أقدم الدراسات وأجودها في طرق موضوع الفلسفة والقرآن، ويمكن عدها مدخلاً لهذا الفن من التفسير، وصاحب هذه الدراسة هو الشيخ العلامة محمد يوسف موسى رحمه الله، من علماء الأزهر الكبار الذين جمعوا بين الثقافتين الشرعية والفلسفي.. قدم للكتاب الدكتور محمد حلمي عبد الوهاب بدراسة متينة، بيَّن فيها مؤلفاته رحمه الله المتنوعة في الفقه والعقيدة والأخلاق والفلسفة.
وهذا العالم كان من رواد الاصلاح في الأزهر الشريف، وله مواقف وجهود يمكن الرجوع إليها في ترجمته. وقد أثنى عليه العلامة الكبير مصطفى عبد الرازق (صاحب كتاب “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية”)، وجعله ضمن العلماء الشباب المجددين.
في هذا الكتاب الذي ألفه سنة 1958م، وهو جزء من رسالته للدكتوراه التي أشرف عليه فيها العلامة المستشرق ماسينيون، يناقش مسألة إغفال كثير من الباحثين الإسلاميين لقضية التفسير الفلسفي في القرآن.. فإذا كانت الفلسفة وُجدت لإجابة الإنسان عن مشكلاته الوجودية، فإن القرآن الكريم عالج المشكلات الفلسفية بأحسن العبارات وأقومها، فلماذا لم يتناوله مفسرو الإسلام، وقد كانت لهم مكنة معرفية متينة واقتدار فلسفي لا ينازعون فيها؛ كالجويني وابن رشد والرازي وابن تيمية والعامري والطوفي؟!
وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة أيضًا إلى جهود الدكتور التونسي أبي يعرب المرزوقي، وقد قرأت مقالاته عن التفسير الفلسفي في القرآن، التي أسفرت عن كتاب له في الموضوع- ولم يتسن لي بعد الاطلاع عليه- وهي جهود تبقى يتيمة بالنظر إلى ما ينبغي أن يكون عليه الموضوع في حقل الدراسات القرآنية.. وقد اقترحت هذا الموضوع على بعض الدكاترة في جامعتنا، أي تفسير فلسفي للقرآن الكريم.. ونرجو أن يسفر عن عمل علمي مشترك، لعله يسدّ في الثقافة الاسلامية ثغرًا مهمًّا في حقلها المعرفي.
لو تناولنا أزمة “كورونا” فلسفيًّا، ماذا تقولون عنها؟ وماذا تثير من إشكالات، عالميًّا وعربيًّا؟
أنا أعتقد أن أزمة وباء كورونا التي اجتاحت العالم اليوم، ستجعل العالم يعيد مفاهيمه الفلسفية عن الوجود والإنسان وحقيقة الحياة الدنيا، وهل يستطيع الإنسان أن يعيش بلا دين وأخلاق.. كما سيعيد حدث الوباء حوار الشرق والغرب، خصوصًا في فلسفة الأخلاق الغربية التي أفلست.. وسيعيد النظر في الحضارة الغربية المعاصرة، التي قامت مناهضة الدين.
وقد أظهرت هذه الأزمة أنه مهما بلغ الإنسان من علم، فهو يبقى عاجزًا لا حول له ولا قوة أمام قوانين الكون؛ فهو عاجز أمام مخلوق صغير من مخلوقات الخالق العظيم، التي لا تُرى بالعين المجردة، هدد البشرية بالمحو والإبادة بشكل لم تفعله الدول الكبرى بجيوشها وسلاحها، وهو ما جعل العالم كله يتجند لمحاربته (بعيدًا عن كل مقولات المؤامرة الواردة في هذا السياق، والمضمنة صراعًا حول من يمتلك قيادة العالم بين الدول الكبرى المتمثلة في أمريكا والصين، وأن الصراع الحضاري قائم على قدم وساق من خلال حرب بيولوجية قد تعصف بالبشرية وتنهي وجود الإنسان).
فمقولة العودة إلى الإله القادر، وعدم الركون إلى العلم العاج مهما بلغ تفوق الإنسان فيه.. هي المقولة السائدة اليوم.. ولعل هذا المعنى هو ما جعل الرئيس الأمريكي ترامب يدعو للصلاة من أجل مواجهة كورونا؛ فقد كتب على (تويتر): “إنه لشرف عظيم لي أن أعلن يوم الأحد 15 مارس يومًا وطنيًّا للصلاة. نحن بلد، طوال تاريخنا، نتطلع إلى الرب للحماية والقوة في مثل هذه الأوقات”.
وأعتقد أن نظرية (موت الإله) التي نادى بها الفيلسوف الألماني نيتشه، والداعية إلى جعل الإنسان مركز الوجود؛ قد تهاوت وتلاشت مع هذه الأزمة الوبائية التي خلَّفها وباء كورونا.. ونحن جميعًا في هذا العصر شهود على أزمة أدت إلى تعطل عجلة العالم اقتصاديًّا وسياسيًّا وبثت الرعب والخوف في الناس.
فنسأل الله تعالى أن يمنّ على البشرية برجعة إلى الله تعالى، كي تخرج من مستنقع التردي الأخلاقي البشع والمتوحش، الذي تعاني منه اليوم؛ كما نسأل الله تعالى أن يعود المسلمون إلى دورهم في استئناف الشهود الحضاري القائم على البعد الأخلاقي الذي لاينفصل عن الدين، وأن يدركوا ضرورة استثمار هذا الحدث في نشر رسالة الإسلام السمحة.