يجد المتتبع والغيور على دينه أنه وجهت أسئلة بطرق مختلفة إلى كبار مشايخ العصر عن حوار الأديان.. مفاد هذه الأسئلة هو ما حكم حوار الأديان، أو ما حكم المشاركة في المؤتمرات التي تعقد في الآونة الأخيرة باسم الحوار بين الأديان علما أنه يحضرها ويشارك فيها طائفة من علماء الأمة الموثوق بهم؟
فكان جواب كل مِن هؤلاء العلماء الآتية أسماؤهم الحرمة على أقل تقدير:
سئل الشيخ الددو عن حوار الأديان، فكان موقفه منه سلبًا ونفيًا واستنكارًا، وأجاب الشيخ ابن باز جواب تنديدٍ في سؤال وُجّه له عن حوار الأديان عقب حديثه عن وحدة الأديان والكفر والإيمان، ومثل ذلك صحيح عن الخولي في لقائه المشهور على قناة الجزيرة عن حوار الأديان، وتكرّر نفسُ موقفِ الرفضِ والتحريم والإنكار من الشيخ صالح الفوزان، والشيخ اللحيدان. والشيخ مقبل الوادعي، والشيخ هادي المدخلي، والشيخ عبيد الجابري، والشيخ عبد الله البخاري، وغيرهم.
هل عامة المسلمين خالفوا فتاوى العلماء؟
لا أستبق الأحداث وأقول لك بأن حوار الأديان ليس بحرام، ولا بمستهجن بتاتا، ناهيك أن أقول لك بأنه قد يكون في بعض الوقت مطلوبا وفرض كفاية شرعًا. لأن القارئ سيدرك ذلك بعد قراءته لمفهوم حوار الأديان في نهاية هذا المقال كمصطلح دون خلط بينه وبين أي مصطلح آخر، لأن معرفة ذلك ليس من ” الألفبائيات” التي يعرفها المتخصص في الشريعة فحسب، بل يفترض لكل مسلم ومثقف معرفته. لكن ما الذي جعل هؤلاء المشايخ الكبار لا يترددون في إطلاق الحرمة؟
الجواب باختصار كما أحسب هو تهويل غامض، أو عدم وضوح مفهوم حوار الأديان كمصطلح في الأسئلة المقدمة ولا في إجابات المشايخ وردّهم على هذه الأسئلة. وتفصيله كالآتي:
- يجد المتتبع أن هذه الفتاوى لم تعرِّف مصطلح حوار الأديان قبل إصدار الفتوى، ولم تعتمد على تعريفٍ واضح له قبل إصدار الحكم، بل بالاستماع وقراءة هذه الفتاوى يتضح عدم وضوح مفهوم حوار الأديان عند أغلب من أصدر حكما شرعيا في المسألة.. وهذا كلام كبير، لكنه فعلا هو كذلك على ما يبدو، ولعل الدليل والواقع والشرع يفصِل هنا.
- الخلط بين مفهوم حوار الأديان وبين غيره: عمدة الفتوى في هذه الفتاوى ترجع في تنزيل العلماء مسائل أخرى منزلة حوار الأديان، علما أن المدقق وكل من يعرف مفهوم حوار الأديان يدرك الفرق الكبير والبون الشاسع بين هذه الأمور. سُئلوا عن حوار الأديان فأجابوا عن “وحدة الأديان” “التقارب بين الأديان” “الخلط بين الأديان” و”التنصير” “وعن مسائل متعلقة بإنكار العقيدة الإسلامية. وفي الحقيقة إن حوار الأديان ليس أيّا من ذلك.
- يضاف إلى هذا أن ما يدل على خفاء المفهوم في هذه الفتاوى المنشورة على المواقع والمسجلة والمنتشرة والموجودة في متناول كل من أراد؛ هو إطلاقُ هذه الفتاوى عبارات عامة وواسعة، وليست دقيقة من حيث دلالة المصطلح على المفهوموإن أتت هذه العبارات في معرض تفصيل هؤلاء العلماء، وسعيهم لتحرّي الدقة في الحكم. وتفصيله:
- كان البعض يجيب بمثل قوله: “إن كان قصدهم من حوار الأديان كذا.. أو كان قصدهم كذا، وإن أرادوا به كذا..”
- وبعضهم يحكم عليه بعد بيانه الكفر والإيمان وأن من لم يكفر الكافر فهو كافر.
- والبعض يجيب على سؤال حورا الأديان بتعريف كلمة الدين، وأنه لا يطلق مصطلح الدين أساسا إلا على الإسلام.
- والبعض يتحدث عنه بالمجادلة أو المناقشة والمناظرة ووجوب الدعوة.
وليت شعري! يُخرجنا من كل هذه الاحتمالات المرسلة بكل بساطة معرفةُ التعريف الصحيح. فما مفهوم حوار الأديان، يا ترى؟
مفهوم حوار الأديان
يُنظر إلى البرلمان العالمي للأديان عام 1893 في شيكاغو على أنه ميلاد التفاعل بين الأديان وبداية حوار الأديان في العصر الراهن. وفي القرن الميلادي العشرين نشط الحوار بين الأديان، ودعي المتحـاورون إلى عـدد مـن المؤتمرات، منها مؤتمر تاريخ الأديان الدولي في بروكسل في عام ١٩٣٥م، والمؤتمر العـالمي للأديـان المنعقد في لندن عام ١٩٣٦م، ثم في جامعة السوربون عام ١٩٣٧م كما يعبّر الدكتور منقذ بن محمود السقار الباحث في رابطة العالم الإسلامي. ومفهوم حوار الأديان هو:
- تفعيل المبادئ الأخلاقية في الأديان لتعزيز السلم والتعايش والعيشة الكريمة، ونبذ العنف والإرهاب، والسعي لتكريس حياة كريمة بمكافحة الأزمات الإنسانية التي لا ترتضيها الفطرة ناهيك عن تعاليم الدين، مثل الاضطهاد والظلم والتمييز العنصري وغيرها. وكأني بحلف الفضول.
- لمصطلح حوار الأديان مرادفات كثيرة بالإنجليزية، لكن اشتهر منها في العربية مصطلح واحد فحسب، وفق علمي. أَسرد لك طرفا من هذه المصطلحات مُتبِعًا ذلك بالمعاني التقريبية لها بالعربية لا كمصطلحات. Interfaith Dialogue ولعله يترجم إلى حوار العقائد، ويقصد بها الأديان من باب إطلاق أهم جزء على الكل، و Interreligious Dialogue ومعناه حوار الأديان، و Interfaith Interaction بمعنى التفاعل بين الأديان، Interreligious Relations ومعناه العلاقة بين الأديان، Interfaith Movement بمعنى النشاط بين الأديان – حركة الأديان، Interreligious Understanding التفاهم بين الأديان، Interreligious Engagement المشاركة بين الأديان، Multi-Religious Engagement، المشاركة بين الأديان المتعددة.
- وجدير بالذكر بهذا أن حوار الأديان لا ينحصر في المخاطبة والكلام، وإن استخدم لفظ حوار الدال على المخاطبة والتخاطب، وإنما يتعدّى ذلك ليشتمل الحوار أيضا من حيث المفهوم على الجانب العملي الإيجابي وجانب السلوك المشاهد “التفاعل الإيجابي”.
- وهو التعامل بين طرفين أو أكثر من أتباع الأديان المختلفة لتحقيق المقاصد المشتركة بينهم في جلب النفع أو درء الضر مع احتفاظ كل بدينه.
- إظهار الجوانب الأخلاقية في الأديان المعِينة على جلب مصلحة ودرء مفسدة. للكشف عن أوجه التعاون الممكنة بين الأديان.
- إبراز دور الأديان في الحياة المدنية المعاصرة وتحقيق الأمن والسلم والاستقرار والحضارة والرفاهية.
- فالحوار بين الأديان لا يعني وحـدة الأديان والتلفيق بينها وصهرها في دين عالمي جديد قائم على الجمع بين المتناقضات، الكفر والإيمان، التوحيد والوثنية.
بعد توضح المفهوم لعلك تتساءل عن موقف العلماء في هذه الفتاوى أعلاه، ولو أعيد توجيه السؤال إليهم بهذا فماذا يا ترى سيكون الحكم والإجابة؟! لعل مقالا سيخصص ببيان موقف هؤلاء العلماء من التعامل مع غير المسلم. لأن فيه إيجابية وتفصيل بخلاف موقفهم من المصطلح.
أخيرا، من الأهمية بمكان استحضار أن مبادرات “حوار الأديان” بدأت من الأبحاث العلمية الأكاديمية المتخصصة تماما كما هو شأن علم “مقارنة الأديان”، ولم تنشأ من بنات أفكار مؤسسة دينية، تماما مثل حلف الفضول. ولعله بحكم العصر الذي نعيشه وفلسفة الحضارة العالمية المعاصرة وُجدت مؤسسات مدنية تُعنى بمسمى الحقوق والرفاهية والإنسانية ضالتها في الأديان، فتمسكت بها محاوِلةً التعاون معها للوصول إلى مآربها الإنسانية بحسب رؤيتها. وهذه المؤسسات المدنية لا زالت تنشط وتسعى لمحاربة العنصرية والاضطهاد وتحقيق السلم والحرية والعدالة والمساواة والتعايش وقبول التعددية وفق قولها، علما أنها ليست متخصصة في الدين، وتكتفي بالفطرة والمنطلق الإنساني.
لا يخرج المسلم المنصف من هذا المقال بضرورة تصحيح فهمه عن هذا المصطلح، ولا بأهمية إعادة النظر في هذه الفتاوى عن حوار الأديان فحسب، بل بضرورة الاهتمام بالدراسات الجادة والمتخصصة في المجال. ولعله لا ينبغي بهذا الكلام فتح باب التفكير في أهمية انفتاح المؤسسات الدينية على المؤسسات المدنية والانخراط فيها عالميا فحسب -كفرض كفاية؛ لبيان الموقف الديني على الأقل، والتعاون معها، والتنبيه على ما قد يطرأ من مبادرة قد تكون إثما وعدوانا جهلاً منها-، بل بضرورة التفكير في إيجاد مشروعات دينية –مماثلة من حيث الاهتمام والعالمية والجدة والتأثير والضجة والحراك- وملموسة الأثر والوقع على الحياة بدلا من خلق الأعذار. فما الذي يمنع مثلا المؤسسات الدينية العريقة في العالم العربي من التعاون الجاد مع دول الأقليات المسلمة والدول ذات الأغلبية المسلمة المغلوب على أمرها؛ سعيا للنهوض بها دينيا وإنسانيا وتحقيقا لمسمى الأخوة الدينية؟!