لقد مر المجتمع بموجة صحوة دينية ركزت في أغلبها على الوعظ وإلهاب العاطفة، ولست ممن يقلل من هذا بل أراه مما لا غنى عنه للتأثير في الوعي الاجتماعي والثقافي – كما بينت ذلك دراسات مهمة كدراسة هيزل ماركوس وزملائها وذكرت في كتابي “آفاق علمية” أهمية العاطفة كركن للثقافة – بل هي (العاطفة) وقود العمل ودعامة أساسية من دعامات التقوى.
وكان الخطاب الشرعي الفكري النقدي آنذاك قليلاً، وكان ينظر إليه أحياناً في ذلك الجو نظرة ريبة، ومن ركز عليه كان ينظر إليه كخطر محتمل على الجو الاعتيادي للصحوة لا سيما إذا تناول هذا الخطاب الفكري النقدي قضايا العصر الملحة سياسياً واجتماعياً.
اليوم نشهد ما يشبه ردة الفعل القاسية تجاه ذلك المنحى في الصحوة، وفي كثير من جوانب ردة الفعل هذه شواهد على انخراط جمع غفير من الدعاة الجدد في الفكر النقدي مع (إهمال انتقامي) – إن جاز التعبير – لدور الخطاب الوعظي العاطفي الإيماني في حياة المجتمع عامة والناشئة خاصة. ولا أدل على هذا من كثرة سؤال الجيل الدعوي الجديد عن أهم قائمة كتب فكرية وفلسفية وثقافية لدرجة الهوس أحياناً حتى يلحق بركب دعوات الأساتذة الجدد إلى الاهتمام بالفكر وصناعة الفكر والمفكر والتفكير والأفكار حتى باتت الموعظة الحسنة شريدة طريدة على أطراف المدينة المعرفية الجديدة.
ورغم الأهمية البالغة للفكر والتفكير النقديين، لابد من الانتباه مبكراً لتطورات هذا المسار كي لا يتفاقم مع مرور الوقت فنخرّج جيلاً بارعاً في الخطاب الفكري فقيراً في العاطفة الإيمانية وأعمال القلوب والتربية الوجدانية للوحيين، إن الفكر في الإسلام وسيلة لغاية هي الشعور .. الشعور بوجود الله والشعور باستحقاقه للعبادة والشعور بالافتقار إليه والشعور بقصر الدنيا وحقيقتها والشعور بانعدام الحول والقوة إلا بالله .. إذ الشعور ثمرة التفكر المنتظرة .. أما قصد الفكر للفكر بالفكر مهما كان باسم الإصلاح الديني فآفة لا تقل ضرراً عن ضرر الاقتصار على تجييش عواطف الناس بلا نظر وتبصر وتفكر .. لا أنكر أن لآحاد وأفراد الوقائع حكمها .. ولكن حديثي عن التوجه العام .. الموازنة ضرورية الآن قبل أن يأتي جيل لاحق من الدعاة فيملأ الفراغ الوعظي ويقيم الهشاشة القيمية الإيمانية بردة فعل انتقامية معاكسة أخرى .. مع تحري الموازنة مبكراً يمكن تفادي هذا الاحتمال إن شاء الله.