هل يمكن لقوة مالية تقدر بمئات المليارات من الدولارات أن تكون بلا صوت؟ هل يُعقل أن نكون نحن من يدفع الفاتورة الأكبر لإنقاذ العالم في أزماته ضمن مشهد العمل الإنساني الخليجي المتنامي، بينما يغلق الباب في وجوهنا حين يبدأ الكبار في رسم خرائط المستقبل.

هذه ليست أسئلة فلسفية مجردة، بل هي “الفضيحة الاستراتيجية” المسكوت عنها في واقع العمل الخيري والإنساني الخليجي اليوم.

دعونا نتحدث بلغة الأرقام التي لا تكذب. تشير التقديرات الأكاديمية إلى أن حجم العطاء الخيري للأفراد والعائلات في دول الخليج يلامس سقف الـ 210 مليارات دولار. وإذا أضفنا إلى ذلك المساعدات الحكومية الضخمة – حيث تجاوز عطاء المملكة العربية السعودية الإنساني وحده 141 مليار دولار مستهدفاً 173 دولة – فنحن أمام “عملاق مالي” يتربع على عرش القوى الإنسانية عالمياً. ويجسد إحدى أكبر تجارب العمل الإنساني الخليجي تأثيراً في العصر الحديث.

نحن نمتلك المال، ونمتلك الدافع القيمي الراسخ المستمد من عقيدتنا (الزكاة، الصدقة، الوقف). ولكن، وهنا تكمن المفارقة المؤلمة: هذا السخاء المالي الهائل يقابله “نفوذ فكري” يكاد يكون معدوماً، وتأثير سياسي هش لا يتناسب مع حجم التضحيات.

فخ “الأبقار الحلوب”

في أروقة المنظمات الدولية وكواليس صنع القرار في جنيف ونيويورك، هناك نظرة نمطية قاسية تلاحق المانح الخليجي. إنهم لا يروننا “شركاء” في التفكير أو التخطيط، بل ينظرون إلينا كـ “أبقار حلوب” (Cash Cows).

المعادلة لديهم بسيطة ومجحفة: حين تقع الكارثة، وتشتعل الحرائق، يتصلون بنا لطلب التمويل الفوري. ولكن حين تهدأ العاصفة، ويبدأ الخبراء في تصميم السياسات طويلة الأمد، وصياغة الحلول الجذرية، يتم استبعادنا تماماً. نحن “ممتازون” في نظرهم لدفع الفواتير، لكننا “غير مؤهلين” للمشاركة في توجيه الدفة الاستراتيجية.

هذا الوضع يحصرنا في دور “المستجيب للأزمات” فقط. نحن نتحرك بردود الأفعال؛ نبني الخيام، نوزع السلال الغذائية، ونحفر الآبار. ورغم أن هذا العمل عظيم وينقذ الأرواح، إلا أنه يعالج “الأعراض” ولا يلمس “الأسباب”. إنه يكرس دورنا كـ “مطافئ” للعالم، بينما يحتكر الآخرون دور “المهندسين” الذين يعيدون بناء الهياكل.

لماذا يحدث هذا؟ (الخلل في الداخل)

قبل أن نلوم “الغرب” أو تحيزات النظام الدولي، علينا أن نمتلك شجاعة النظر في المرآة. إن جزءاً كبيراً من هذا الضعف هو صناعة محلية بامتياز، نتيجة تحديات هيكلية لم نتعامل معها بجدية حتى الآن. رغم أن تجاوزها ضرورة لبناء نموذج أقوى لـ العمل الإنساني الخليجي.

أول هذه التحديات هو أزمة الشفافية والبيانات. نحن في الخليج تربينا على فضيلة عظيمة هي “إخفاء الصدقة”، حتى لا تعلم الشمال ما أنفقت اليمين. هذه قيمة روحية سامية لتهذيب النفس، ولكن حين ننتقل إلى إدارة منظمات دولية بحجم دول، تتحول هذه الفضيلة الثقافية إلى “عائق استراتيجي” قاتل.

رجل يقدم مجموعة من الملابس الدافئة لرجل آخر يجلس على الرصيف، مع خلفية جدران من الطوب. تُظهر الصورة أهمية العطاء والمساعدة في المجتمع.
العمل الإنساني الخليجي لا حدود له

في العالم الحديث، “البيانات” هي عملة الثقة. غياب قواعد البيانات الشاملة عن أنشطتنا، وضعف الإفصاح، يجعل العالم يشكك فينا، ويصنفنا كـ “صناديق سوداء”. الفراغ المعلوماتي الذي تتركه بصمتنا يملؤه الآخرون بشكوكهم. نحن بحاجة ماسة لإعادة تعريف مفهوم الشفافية؛ ليس باعتباره رياءً، بل كشكل من أشكال “الإحسان” الإداري وأداء الأمانة.

ثاني هذه التحديات هو العمل بلا ذاكرة مؤسسية. العديد من مؤسساتنا تعاني من ضعف الحوكمة، وتدار بعقلية “الفزعة” لا بعقلية “المؤسسة”. ناهيك عن داء المنافسة الداخلية؛ فبدلاً من أن تتكامل جمعياتنا لتشكل قوة ضاربة، نجدها تتنافس في نفس الميدان، وتكرر نفس المشاريع، مما يشتت الجهود ويهدر الموارد.

الطريق المسدود

إن الاستمرار بهذا النهج التقليدي لم يعد خياراً. العالم يتغير، وجيل جديد من المانحين الشباب بدأ يطرح أسئلة صعبة عن الجدوى والأثر المستدام. لم يعد يكفي أن نقول “لقد أنفقنا المليارات”؛ السؤال الآن هو: “ماذا غيرت هذه المليارات في معادلة القوة والنفوذ؟”.

المال دون فكر هو مجرد وقود يحترق ليضيء طريق الآخرين. وإذا أردنا أن نغادر مقعد “الممول الصامت” لنجلس على “طاولة الشريك”، علينا أولاً أن نمتلك “مشروعاً” خاصاً بنا.

ولكن، كيف نبني هذا المشروع ونحن نتجاذب بين رغبتنا في خدمة ديننا، ومصالحنا الوطنية، وبين المعايير العالمية؟ هذا هو سؤال “الهوية” الشائك الذي سنفككه في المقال القادم (من “الفسيفساء” إلى “الهندسة”: هل يكفي أن نكفل يتيماً بينما يكتب الآخرون المناهج؟)، لنكتشف كيف يمكن للقيم الإسلامية أن تكون “قوة ناعمة” لا عبئاً ثقيلاً.