لقد حفظت لنا الذاكرة نساء عظيمات الشأن جاريْن بل سبقن أحيانا إخوتهن الرجال في كثير من المجالات، ومن عالمات شنقيط (موريتانيا)، وهن لا يحصين كثرة، العالمة الشهيرة خديجة بنت العاقل التي تخرج على يدها فطاحلة وعلماء شنقيط الذين أثروا المكتبة الإسلامية بروائع التآليف والكنوز الثقافية.
لا يعتبر حضور المرأة الموريتانية في الحياة العامة أمرا جديدا، فقد تحدث المؤرخون عن هذه الظاهرة في مؤلفاتهم القديمة، ضمنهم الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة، الذي قال إنه عندما زار مدينة “ولاتة” التاريخية في موريتانيا، فاجأته مكانة المرأة العلمية وحضورها الاجتماعي بل أن المؤرخ البكري أطلق على أرض الصحراء “بلاد الفقهاء والنساء”.
كانت المرأة الموريتانية الصحراوية تمتهن العلم والتدريس، وتهتم بالتأليف في مختلف المجالات، ومن أشهر نساء هذه الفترة خناثة بنت بكار، الأميرة المتحدرة من أسرة الإمارة في منطقة لبراكنة في الوسط الموريتاني، التي تزوجها سلطان المغرب مولاي إسماعيل في القرن السابع عشر، وكانت امرأة عالمة ولا تزال المكتبات المغربية تغص بالمؤلفات التي استنسخت لها، وتشهد على اهتمامها الواسع بالعلم.
في القرن الثاني عشر الهجري، ظهرت واحدة من عالمات شنقيط الصحراويات، سيدة اخرى هي خديجة بنت العاقل، التي لا تقل شهرة عن سابقتها حيث كانت من أبرع معاصريها في علم المنطق، الذي ألفت فيه كتابها الشهير، الذي لم يجد طريقه للطباعة وما زال مخطوطا.
من هي خديجة بنت العاقل؟
اسمها خديجة بنت العاقل بن محمض بن الماحي الديمانية الشنقيطية، عاشت في القرن 12هـ عالمة جليلة بلغت المرتبة العليا في العلوم الكلامية والمنطقية، أخذ عنها علماء كبار كأخيها العلامة أحمد العاقل (ت:1244هـ) و العلامة المختار ولد بونا ت: 1220هـ وغيرهما وفيها يقول ابن أخيها:
وما أقرأت قوما فلانة قبلنا *** على عهد نجل بون ممن يشاهدوا
وكانت زعيمة مدرسة منطقية سار على نهجها عدد من العلماء، وكانت إذا أرادت أن تضرب مثلا بسهولة أمر وبساطته تقول: “ذلك كالمنطق عندنا”.
وخديجة بنت العاقل هي أخت العلامة المعروف أحمد ولد العاقل (ت1244هـ)، وهي عالمة مشهورة بالتأليف والتدريس، ومن أشهر مؤلفاتها شرح على سلم الأخضري في علم المنطق، وقد ذكر الخليل النحوي أن خديجة بنت العاقل لشدة اهتمامها وولعها بالمنطق، إذا أرادت أن تبالغ في سهولة أمر وبساطته تقول :”ذلك مثل المنطق عندنا”. كما لها مؤلف آخر على عقيدة السنوسي.
وكانت العالمة المنطقية خديجة بنت العاقل تدير محضرة من المحاضر، ويقول المؤرخون أن كثيرا من العلماء الرجال أخذوا عنها عديد العلوم، وتخرج على يديها الكثيرمن العلماء الأجلاء، ومن تلامذتها حرمة بن عبد الجليل، وأخيها أحمد بن العاقل وإمام النحو (سيبويه شنقيط) المختار بن بونا الجكني وإمام دولة فوته الإسلامية الإمام عبد القادر.
استثناء في زمن غُيبَت فيه النساء
وعلى عكس مجتمعات كثيرة، فإن المجتمع الموريتاني لم يعرف في تاريخه ظواهر مسيئة للمرأة مثل الضرب والإهانة، بل إن إهانة المرأة تشكل في عرف هذا المجتمع أكبر مسبة يتعرض لها الرجل.
وفي هذا المجال، تقول رئيسة مركز الهدف لخدمات الإعلام والاتصال مريم بنت أمود إن المرأة الموريتانية لا تنسب لنفسها ما ليس لها حين تفخر بكونها استثناء في زمن غيب فيه النساء.”فقد كانت أمهاتنا إلى عهد قريب هن المعلمات لأبجدية اللغات وتأتأتن حرفها للنشء وهو عمل فضله علماؤنا على التحلي بعبادة العلي ، وقد تناقل الطلاب والعلماء مقولة صارت مثلا يعطي صورة نمطية عن المستوى العلمي الذي وصلت إليه نساء أهل العاقل حين يعبرن عن بساطة الشيء بقولهن سهل كالمنطق عندنا، وقد بلغت شهرة عالمتهم وشاعرتهم خديجة بنت العاقل كل الآفاق ونالت اخديجة بنت آدبة حظا وافرا من الشهرة والتميز”.
لعلنا سنكون مقصرين إذا أهملنا هنا الحديث عن نظم الفوائد العلمية بالشعر الحساني وسيلة مشوقة إلى تحصيله وفهمه و نشره في الأوساط الشعبية، و هذه الممارسة لم يسلم منها عالم مهما بلغت درجته في السيطرة على الفصحى و قرض الشعر فيها ، و لم ينج منه فن ، فكلنا يعلم ما نظمت به العقيدة الواجبة في حقه تعالى مبينة بعدد قطع لعبة دمراو، و ما نظمت به خديجة بنت العاقل لتلازم بين الوجود العقلي و الدوام ( في كاف مشهور من الصنهاجية).
مؤلفاتها و جهودها في السيرة النبوية
وفي محاضرة لها بالمركز الثقافي المغربي بنواكشوط، بعنوان:”جهود المرأة الشنقيطية في السيرة النبوية“، تحدثت زينب الخرشي، أستاذة الحديث الشريف بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية عن نماذج من النساء الرائدات في شتى مجالات العلوم في الأمة الاسلامية عموما و بلاد شنقيط تحديدا.
وكشفت الخرشي عن أن “المرأة الشنقيطية شغلت حيزا مهما في خارطة الاعتناء بالسيرة النبوية والاهتمام بها، فكان للمرأة الشنقيطيـة إسهام كبير في حقل السيرة، فصارت لها دارسة ومدرسة وفي وقائعها ناظمة ومؤلفة، بل إنها أكثر من ذلك شمرت عن ساعد الجد جاعلة منها المنطلق الأول لتربية الأجيال وتكوين الرجال وذلك يتجلى بوضوح في سير كثير من الشنقيطيات اللائي ولين وجهوهن شطر منهج رسول الله ﷺ في التربية والتعليم ونهجه في الإرشاد والتوجيه، فكن بحق عظيمات ومن وراء ظهور العظماء والعلماء. وذكرت المحاضرة أسماء لسيدات تميزن في مجال السيرة النبوية في بلاد شنقيط منهن خديجة بنت العاقل باعتبارها واحدة من المشهورات في مجال السيرة والعقيدة والحديث والمنطق. ولها مؤلفات من عديدة في هذه المجالات نذكر منها ما يلي:
- شرح على أم البراهين في العقيدة
- طرة على سلم ألأخضري في المنطق
- عدة أنظام في مجالات مختلفة
وقالت الخرشي أن خديجة بنت محمد العاقل الشنقيطية، حفيدة الشيخ محنض بن الماحي بن المختار بن عثمان، عالمة جليلة كانت شيخة المحضرة، روت عن والدها، وتخرج على يدها علماء أجلاء. وأنها كانت من النساء الشنقيطيات اللائي كان لهن دور بارز فى نشر وتعليم علوم السيرة النبوية وبعض المعارف الأخرى.
تلامذتها من العلماء
كانت خديجة بنت العاقل من أعلم أهل زمانها. مما جعل العديد من الناس يلتفون حولها، ويرغبون في دروسها، فممن أخذ عنها غير المصنف: – كما اسلفنا – أخوها العالم الكبير أحمد بن العاقل الدَّيْماني، الذي اشتغل أقوام بالأخذ منه، والذي كلما اشتغل في بحث قال: “هذا ما في الكتب والذي عند أختنا خديجة كذا وكذا وهو أصح وأرجحُ”. وممن أخذ عنها غير المصنف: حرمة بن عبد الجليل وأحمد بن عبدي بن الحاج أحمد والسالك بن عمار وعبد الجليل بن أجِيوَنْ العلويون.
بالإضافة طبعا إلى إمام علم المنقول والمعقول في زمنه، المختار ولد بونا الجنكي، وكان عالما فاضلا عابدا اشتهر بمدرسته النحوية والمنطقية، تصدر على كثير من أهل العلم وقرأ عليه الكثير منهم، وألف في مختلف العلوم ومن مؤلفاته: الجامع بين التسهيل والخلاصة المانع من الحشو والخصاصة، مبلغ المأمول في قواعد الأصول ، تحفة المحقق في حل مشكلات المنطق، تبصره الأذهان في نكة البديع والمعاني والبيان، سلم الطالبين إلى قواعد النحويين، وسيلة السعادة..