يزخر تاريخنا الإسلامي بأسماء نساء خالدات، تركن بصمات مضيئة في سجل البطولة . بين صفحات هذا التاريخ، تبرز قصة امرأة حيّرت المؤرخين وأثارت جدل الباحثين قديماً وحديثاً ومن هؤلاء خولة بنت الأزور الفارسة التي نُسجت حولها ملاحم البطولة والشجاعة، لكن هل كانت هذه المرأة موجودة بالفعل؟ أم هي شخصية أسطورية من خيال الشعراء؟
في هذا المقال، سنتناول شخصية خولة بنت الأزور، ونحاول التعرف عليها وإجابة هذه الأسئلة.
نسب ونشأة خولة بنت الأزور
حول حمى مكة المكرمة، وتحت ظلال بيت الله الحرام، أبصرت خولة بنت الأزور النور لأول مرة. ولدت لأسرة عربية أصيلة تنتمي إلى بني أسد، وكانت أختاً لفارسٍ مغوار عرفه التاريخ باسم ضرار بن الأزور.
نشأت خولة في بيئة عربية أصيلة، تعلمت فيها فنون الفروسية وآداب القتال، إلى جانب ما عُرفت به من فصاحة اللسان وقوة البيان.
حياتها
تروي كتب التاريخ إن خولة أسلمت مع أخيها بعد فتح مكة، وكان إسلامها نقطة تحول في حياتها. فنذرت نفسها لله، وقررت أن تكون سيفاً من سيوف الإسلام. كانت تجيد ركوب الخيل وتتقن فنون القتال، وعُرفت بذكائها الحاد وحنكتها في المعارك.
مواقف بطولية
حين هب المسلمون لفتح بلاد الشام، كانت خولة في طليعة النساء المجاهدات. خرجت مع أخيها ضرار الذي اختاره خالد بن الوليد قائداً على خمسة آلاف من المجاهدين. وهناك سطرت – حسب الروايات – أروع ملاحم البطولة والفداء.
من أشهر مواقفها البطولية تلك القصة التي تروى عن إنقاذ أخيها من الأسر. فحين وقع أخوها ضرار في قبضة الروم بعد معركة طاحنة، لم يغمض لخولة جفن. فتنكرت في زي فارس، وامتطت صهوة جوادها، وانطلقت تشق صفوف الأعداء. مرهبة نفوس المقاتلين، لشدة بأسها وقوة عزيمتها.
لم يكتشف أحد حقيقتها حتى اقترب منها خالد بن الوليد رضي الله عنه مستفسراً عن هوية هذا الفارس المغوار. عندها كشفت عن شخصيتها في حياء، قائلة: “أيها الأمير، إني لم أعرض عنك إلا حياءً منك، فأنت أمير جليل وأنا من ذوات الخدور وبنات الستور. وإنما حملني على هذا أنني محرقة الكبد على أخي ضرار.”
كانت خولة شاعرة مفلقة وتروى عنها عدة قصائد منها قصيدتها في رثاء أخيها التي تقول فيه:
أَبعدَ أَخي تلذّ الغمضَ عَيني فَكيفَ ينامُ مقروحُ الجفونِ سَأَبكي ما حييتُ عَلى شقيقٍ أَعزّ عليّ مِن عيني اليمينِ فَلَو أَنّي لحقتُ بهِ قتيلاً لَهانَ عليّ إِذ هو غير هونِ وَإِنّا معشرٌ مَن ماتَ منّا فَليسَ يَموت موتَ المستكينِ وَإِنّي إِن يقال قَضى ضرارٌ لِباكيةٌ بِمنسجمٍ هتونِ
ما مدى صحة الروايات عن خولة بنت الأزور ؟
لكن القصص البطولية التي تروى عنها، تواجه تحدياً كبيراً من الناحية التاريخية. فالمصادر المعاصرة لعصر الفتوحات تكاد تخلو من أي ذكر لخولة بنت الأزور. والحافظ ابن حجر رحمه الله ذكر في استقصائه الدقيق للصحابيات، ثمانياً وعشرين امرأة يحملن اسم خولة، لكنه لم يذكر بنت الأزور بينهن. وحين ترجم لأخيها ضرار، ذكر ثلاثة من إخوته الذكور ولم يشر لوجود أخت له.
أما المصادر التي تناقلت قصص خولة، فجلّها يعود إلى كتاب “فتوح الشام” المنسوب للواقدي. وقد أثبت الباحثون أن هذا الكتاب كُتب عام 907 هجرية، أي بعد الأحداث التي يؤرخ لها بقرون عديدة. وقيل إن مؤلفه مجهول نسب الكتاب زوراً للواقدي، مما يضعف مصداقية هذا المصدر التاريخي.
وفند الباحث محمد باموسى صحة قصة خولة في إنقاذ أخيها في كتابه (إسعاف الأخيار بما اشتهر و لم يصح من الأحاديث والآثار والقصص والأشعار) قائلا: “لقد اشتهرت قصة خولة بنت الأزور في إنقاذ أخيها ضرار من الأسر عندما ركبت جوادها، ووضعت لثاماً لتخفي وجهها … إلخ. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن خولة بنت الأزور، وقضية إنقاذ أخيها من الأسر كله من الأخبار الواهية، التي لا تستند على برهان قوي”.
ضرار بن الأزور
على النقيض من الغموض الذي يلف شخصية خولة، يعد أخوها ضرار شخصية تاريخية موثقة، ذكرته كتب التراجم والطبقات، وأشادت ببطولاته في حروب الردة مع خالد بن الوليد رضي الله عنه. كان ضرار فارساً مغواراً، وقائداً محنكاً، وشاعراً موهوباً.
في الثقافة والأدب
تركت قصة خولة بنت الأزور رغم الشكوك التاريخية حولها أثراً عميقاً في الثقافة العربية والإسلامية. فألهمت عدداً من الأدباء والشعراء على مر العصور، وغدت رمزاً للمرأة المجاهدة القوية. وظلت قصصها تُروى في المجالس والكتب، تلهم الأجيال المتعاقبة.
بين ثنايا قصة خولة، نكتشف كون التاريخ لا يقتصر على سرد الوقائع فحسب، وإنما يمتد ليشمل تطور الوعي المجتمعي وتحولاته. فظهور قصة خولة في القرن التاسع الهجري قيل إنه عكس حاجة المجتمع آنذاك لنماذج نسائية تجمع بين الشجاعة والفضيلة، والقوة والحياء، في وقت كانت فيه الأمة بحاجة إلى استلهام قصص البطولة من ماضيها المجيد.
ومع أن الحقائق التاريخية تميل إلى نفي وجود خولة بنت الأزور، إلا أن ذلك يفتح باباً للتأمل في كيفية تشكل الروايات التاريخية وتطورها، وكيف أن المجتمعات تصوغ أساطيرها استجابة لاحتياجاتها النفسية والاجتماعية.
وفاتها
توفيت خولة بنت الأزور عام 35 للهجرة وقيل إنها دفنت بالبلقاء.