يستعرض هذا المقال دراسات النفس الإنسانية عند الفلاسفة المسلمين والمتكلمين، مع التركيز على ابن سينا. يعرض المقال التحديات التي واجهها المفكرون المسلمون في هذا السياق وردودهم على الفلسفات النفسية اليونانية.

تأثر الفلاسفة المسلمين بالفكر اليوناني

موضوع الدراسات النفسية عند الفلاسفة المسلمين يكاد لا يعرف خلافات جوهرية بين المتناولين لها، اللهم إلا في بعض المسائل التي لها خلفيات عقدية، مما حدا بالمتكلمين إلى الرد عليها ودحضها، نظرا لعدم موافقتها لمقتضيات صريح النص القرآني والحديث. وكذلك لتأثرها النسبي ببعض الآراء النفسية اليونانية سواء تعلق الأمر بموضوع جوهر النفس أو ظواهرها وما يتبعها من تقسيمات، قد مال أغلب الباحثين الفلسفيين عندها إلى اعتبار التقسيم الأفلاطوني لقوى النفس وهي: القوة الشهوية، والغضبية، والناطقة، وكذلك حينما أخذ البعض بتفسير التحصيل المعرفي على سبيل التجرد الذهني والاستعداد الذاتي.

حتى إنه قد وصل الحد بالبعض منهم إلى إجراء مقارنة بين نفس الفيلسوف ونفس النبي من حيث القدرة على كسب المعارف والمطابقة بين تحصيل العقل المجرد والتحصيل الناتج عن الوحي الإلهي وذلك كذريعة لدى بعض المغرورين للانسلاخ عن أوامر الشرع ونواهيه، بدعوى أن الشرع قد جاء للعموم وأن النفوس الخاصة كالفلاسفة – مثلا في زعمهم – لا تحتاجه لأنها قادرة على الوصول إلى أحكامه بمجرد الصفاء الذهني وانتظام التفكير.

الدراسات النفسية الإسلامية والردود على الفكر اليوناني

فكان لزاما أن يعارض مثل هذه الأوهام ثلة من المفكرين المسلمين بتحليل النفس الإنسانية وتحديد مستوياتها التحصيلية والدلالة على ضرورة التجائها إلى العلم الإحاطي الذي يأتي به النبي وحيا من عند الله تعالى.

كما أن أغلب التآليف الفلسفية في موضوع النفس قد تمت إما إدراجا لموضوعها في مجال العلوم الإلهية أو العقلية أو الأخلاقية بصفة خاصة. وهذا ما نجده مثلا لدى الكندي كـ “الحيلة لدفع الأحزان”، أو الفارابي في “فصول منتزعة”، وأبي بكر الرازي في “الطب الروحاني”، أو يحيى بن عدي في “تهذيب الأخلاق”.

ابن مسكويه والنفس الإنسانية

أما ابن مسكويه فإنه قد خصص حيزا مهما في كتابه “تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق” لموضوع النفس، وأبدى فيه آراءه بعمق ملحوظ وبأسلوب فلسفي مقلدا نسبيا للأسلوب اليوناني خاصة. لكن توجهه وتخصصه العلمي قد كان أخلاقيا بالدرجة الأولى، ومؤسسا على قواعد نفسية. فكانت له في هذا الميدان محاورات كثيرة مع ابن سينا، بحيث يحكى أن هذا الأخير قد عابه في بعض كتبه بأنه شرح له مسألة فلسفية ثم أعادها عليه فلم يفهمها، ودفع إليه مرة جوزة كانت في يده، وقال له: امسحها – أي أخرج مساحتها – فألقى إليه ابن مسكويه أوراقا وقال له: أصلح بهذه أخلاقك! مما يؤكد أن ابن مسكويه قد كان متجها بالدرجة الأولى إلى الناحية الخلقية في تخصصه العلمي، كما قد جرت له مناظرات مع ابن سينا أيضا حول مسائل تتعلق بالنفس، مما يدل أيضا على أن ابن مسكويه كان ذا اطلاع واسع واهتمام كبير بمسائلها والتي قد لا تنفصل عن دراسة الأخلاق في منهجه.

ومما يزيد تأكيدنا على القول بالتخصص النفسي والأخلاقي عند ابن مسكويه، وذلك على شكل مراقبة منتظمة ومؤسسة على قواعد ومبادئ فكرية، ذات طابع فلسفي عقلي في أغلبها مع الالتزام والاستظلال بالنص الديني، هو ما قد نجده في ذلك العهد الذي كتبه بنفسه وعاهد الله عليه بأن “يجاهد نفسه ويتفقد أمره ما استطاع. فيعف ويشجع ويحكم. وعلامة عفته أن يقتصد في مآرب بدنه حتى لا يحمله السرف على ما يضر جسمه، أو يهتك مروءته. وعلامة شجاعته، أن يحارب دواعي نفسه الذميمة حتى لا تقهره شهوة قبيحة ولا غضب في غير موقعه، وعلامة حكمته أن يستبصر في اعتقاداته حتى لا يفوته بقدر طاقته شيء من العلوم والمعارف الصالحة ليصلح أولا نفسه، وتحصل له من هذه المجاهدة ثمرتها التي هي العدالة. وعلى أن يتمسك بهذه التذكرة ويجتهد في القيام بها والعمل بموجبها”.

ومن هنا فابن مسكويه ستكون له آراء ومناهج مركزة نسبيا في دراسة النفس وعرض بعض النتائج الميدانية المتحصل عليها من خلال هذه المجاهدة، والتي هي ذات مرتكز عقلي في أغلب الأحيان، قد أودع نتائجها في كتابه “تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق” بصفة خاصة.

تمثال سقراط في أثينا

فكما أقام معظم فلاسفة الإسلام دراستهم في الأخلاق على نظرياتهم في النفس، كذلك فعل ابن مسكويه. فيما يذهب بعض الباحثين إلى القول بأن أفلاطونية مسكويه واضحة في تقسيمه لقوى النفس، كما أنه قد يتأثر بسقراط في القول بأن “اللذة ضد الألم، والألم ضد اللذة، والاستمتاع بأي لذة جسمية له حدود إذا تجاوزها المرء تحول إلى لذة”. كما يذهب نفس الباحث إلى القول بأن ابن مسكويه قد تأثر بمفكر أفلاطوني في منهجه هو: أبو بكر الرازي الطبيب العربي، ولاسيما برسالته الطب الروحاني، والتي قد سبقت الإشارة إليها، ورسالته في اللذة، بحيث قد “أثر هذان الكتابان تأثيرا واضحا على مسكويه في كتابه تهذيب الأخلاق. كما يخبرنا – الدكتور عبد العزيز عزت أيضا على حد تعبير هذا الباحث – بأن للرازي أثرا في رسالة مسكويه المخطوطة في مكتبة راغب باشا في استانبول، وعنوانها (في اللذات والآلام).

ويقول الدكتور عزت: إن مسكويه اهتم كل الاهتمام بالرازي في شبابه، وتأثر مسكويه بالكندي، لاسيما في كتاب دفع الأحزان. وهو يذكره ويوافق رأيه صراحة. وقال الكندي في كتاب دفع الأحزان: “ما يدلك دلالة واضحة أن الحزن شيء يجتلبه الإنسان يضعه وضعا وليس هو من الأشياء الطبيعية”.

ولئن كنا قد لا نسلم كليا بمقولة الأثر والتأثر، إلا أن القاسم المشترك بين ابن مسكويه وغيره من الفلاسفة المسلمين هو أنهم يعتمدون النظر العقلي الصوري أكثر مما هو محل التجربة الميدانية، أو الاستناد في البداية والنهاية على تقرير النص الديني استنادا خاليا من التأويل، مع محاولة التوفيق بين تأويلاتهم وبين الآراء الفلسفية اليونانية توفيقا ظنيا في أغلب مراحله. ومع هذا فإنهم كما قلت قد يبقون دائما في حدود الاستظلال بالنص الديني وإلا كانت المعارضة التصحيحية عند اختراقهم لهذه الظلال في نص صريح ومعنى متفق أو مجمع عليه من طرف علماء المسلمين.

ابن سينا والتخصص النظري والتطبيقي في علم النفس

غير أن أبرز شخصية فلسفية متخصصة في مجال معرفة النفس عند المسلمين سيمثلها ابن سينا، وخاصة في كتابيه “الشفاء” و”النجاة” كتلخيص له، بالإضافة إلى “الإشارات والتنبيهات”.

فلقد كان نتاج ابن سينا ضخما، كما يقول أحد الباحثين: “تناول فيه شتى المواضيع الفلسفية والطبية واللغوية. ولعل أهم كتبه هي موسوعته الفلسفية الكبرى “كتاب الشفاء”. ومن الغريب أن المواضيع الخلقية لم تحظ لديه بكبير عناية، فباستثناء رسالته في “علم الأخلاق”… فقد ينسب إليه رسالة موجزة في البر والإثم، يضاف إليها بعض الإشارات الخلقية العارضة.

منهج ابن سينا في دراسة النفس

وحينما نطالع هذه الرسالة فقد لا نجد فيها سوى فقرات جد مختصرة ومركزة عن المذهب النفسي عند ابن سينا، وذلك حين تقسيمه للقوة الناطقة إلى قوة نظرية متطلعة إلى العلوم التجريدية وإدراك المعقولات والمعاني الكلية، وقوة عملية إليها قد تنسب الأخلاق. وهذه القوة العملية لا تبلغ كمالها إلا بالفضائل التي من أصولها: “العفة والشجاعة والحكمة والعدالة”، المنسوبة إلى كل قوة من قوى الإنسان، وتجنب الرذائل التي بإزائها”.

هذه التقسيمات التي أوردها ابن سينا – في كتبه المذكورة – لم يكن القصد منها سوى إقامة الدلائل المقربة للأفهام: طبيعة النفس وقواها، وتفاعلها مع الجسد سلبا وإيجابا…. ولربما يكون سبب تفرغ ابن سينا إلى الدراسة النفسية له تجذر عميق وميل نفسي ذاتي كشغف وحب استطلاع، وهو نتيجة الجو الثقافي الذي عرفه عصره وبيئته وخاصة من طرف والده الذي كان له اهتمام بالموضوع، مما أثر على ابنه قصدا أم بغير قصد، كما يقول ابن سينا نفسه: “ثم انتقلنا إلى بخارى وأحضرت معلم القرآن ومعلم الأدب، وكملت العشر من العمر وقد أتيت على القرآن، وعلى كثير من الأدب حتى كان يقضى منه العجب. وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين ويعد من الإسماعيلية. وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم، وكذلك أخي وكانا ربما تذاكرا بينهما، وأنا أسمع منهما وأدرك ما يقولانه”.

وباختصار، فابن سينا قد يعتبر من أبرز الفلاسفة المسلمين الذين أدلوا بعمق آرائهم في موضوع النفس، تنظيرا وممارسة ميدانية على سبيل الاستشفاء والعلاج النفسي كما هو مشهور عنه.

ولهذا فإن حضوره في الدراسات النفسية سيكون نسبيا مكثفا، بل قد نجد عدة كتابات ستخصص لابن سينا مواضيع لا تهتم في أغلبها إلا بالمناهج التي وظفها في إثبات الجوهر النفسي وتقسيم قواها، ربما قد تخطى التقسيم التقليدي الأفلاطوني، وطرح براهين تجمع بين الاستدلال العقلي والوجداني الحدسي على وجود الروح أو النفس ومخالفة جوهرها لطبيعة البدن.

مقارنة بين ابن سينا والفلاسفة الآخرين

ولئن كان فلاسفة آخرون قد تعرضوا لموضوع النفس بالمناهج العقلية فإن محاولاتهم هذه ستبقى دون مستوى الاهتمام الذي أولاه له ابن سينا، إذ أن ابن رشد – مثلا – لم يكن سوى شارح للمقولات اليونانية أو مدافع عنها في ثوب كتاب “تهافت التهافت” الذي رد فيه على الغزالي. وإن اعتمد آراء نفسية غير يونانية فإن أغلبها إما كانت نقلا عن ابن سينا أو تأثرا بأستاذه ابن طفيل، الذي بدوره سيدلي بدلوه في هذا الموضوع وخاصة في كتابه “حي بن يقظان” الذي عرض فيه للمراحل العقلية والنفسية والجسدية التي يجتازها الإنسان حتى يصل إلى المعرفة الحقيقية وإدراك ما وراء المرئيات، قد كان من بينها تلك الإشارات إلى ملاحظة حي بن يقظان لموت الظبية وغياب حركتها والاستدلال بهذا التغير الحركي على وجود الروح الحيواني أو النفس المحرك للبدن، والذي هو مخالف له جوهرا وعرضا ثم الانتقال إلى إثبات الروح الإنساني من هذا القياس… إلى غير ذلك من المسائل التي قد تضمنتها رسالة حي بن يقظان والتي ستصبح مرجعا فكريا بالنسبة لابن رشد وغيره من فلاسفة الأندلس، وخاصة في مجال معرفة النفس.

فابن سينا إن اعتبرناه باحثا متخصصا في دراسة النفس وله مسلك منهجي خاص في عدة قضايا منها إلا أنه قد يبقى أكثر قربا إلى المتكلمين منه إلى الفلاسفة اليونان وذلك لأن له استشهادات كثيرة بنصوص قرآنية على ما يطرحه من آراء فلسفية كترسيخ لشرعيتها وتبيين اعتمادها على الأدلة الصحيحة، رغم أنه قد نقل عدة آراء له في النفس عن قدماء الفلاسفة والتي قد يذكرها حينما لا يستطيع تحويرها بأسلوب مقبول شرعا في بعض الأحيان.