إن التوافق الزمني بين يوم الولادة النبوية ويوم البعثة باعتباره يوم الاثنين كما دلت عليه  بعض الروايات له دلالات ومناسبة ذوقية وجمالية في ربط الولادة الحسية الجبلّية بالولادة الروحية المعرفية، إضافة إلى اعتبار أن الولادة لا تتم إلا بين زوجين اثنين، أي الرجل والمرأة في تناسق مع الحركة الكونية الزمنية والمكانية. هذا مع أن الحقيقة النبوية ذات الطابع الروحي قد بقيت على فطرتها وعهدها الأول إلى أن جاءها الوحي وهي مؤهلة كل التأهيل لتقبله على أحسن صورة وتمثل ووعي . وأركز هنا على مسألة دلالات الوعي النبوي لأن الوحي قد جاء في مرحلة اكتمال الشخصية من كل جوانبها واستوائها على أحسن تقويم ورشاد وهو بلوغ سن الأربعين من عمره ، إذ سيكون فهمه لنصوصه وآياته وحروفه ليس مجرد فهم غريزي أو طبيعي مشترك بين الكائنات، كما الشأن لدى النحل وغيرها من الحشرات والحيوانات وحتى العادي من الناس، وإنما هو إدراك محقق وبعيد المدى والآفاق، سيشخصه عمليا وإجرائيا من خلال مسألة الإسراء والمعراج ثم إلى ما فوق سدرة المنتهى: (وأن إلى ربك المنتهى).

مفاجأة الوحي والوعي الروحي عند النبي

هذا الوعي بالوحي هو المؤسس لاستيعاب الشعور بكل الوجود وإدراكه والذي قد يصطلح عليه بالوعي الكوني كتقريب للمعنى، وذلك لأنه معرفة باللوح المحفوظ الذي سبق وعرفناه مجازا بأنه سجل الوجود، و هو ما عبر عن طريقة تمثله له لفظا: “أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول”.

وهنا يبدو الفرق بين أن يقول: أسمع ما يقول ، وهذا إذا كان الخطاب عاديا وبلغة أو صوت مناسب حرفا وصيغة كما تعوده المخاطب، وبين أن يقول: أعي ما يقول. وهذا فيه خصوصية الخطاب والتواصل الذي يجمع بين عناصر ثلاثة مختلفة: الملك الموحي بصفته الخاصة، والرسول الموحى إليه ببشريته، واستعداده الروحي الخاص، والكلام القدسي بحمولته المعرفية ومصدريته الربانية المتعالية، والتي هي المؤهلة للموحي والموحى إليه لتحصيل هذا التوصيل والتواصل ثم الحصول على مضمون الرسالة والوعي بمحتوياتها.

وهنا ستتم المناسبة بين زمن الولادة المحسوسة مع الولادة الروحية ونقطة الانطلاق اللانهائي في باب المعرفة والغوص في لجي التوحيد الخالص والدعوة إليه بالحال والمقال والأفعال: “قولوا لا إله إلا الله تفلحوا”، ” لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.”[1].

في سياق هذا الاصطفاء والفتح الأوسع لباب السماء واختراق آفاق الآفاق تضيف الرواية على لسان النبي ومواجهته الروحية لجبريل عليه السلام : “ثم أرسلني فقال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم ). حتى بلغ (ما لم يعلم)[2]…

فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال :زمِّلوني زمِّلوني ، فزملوه، حتى ذهب عنه الروع .فقال لخديجة وأخبرها الخبر: “لقد خشيت على نفسي “فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق…”[3]. وفي رواية أخرى :”فرجع بها ترجف بوادره”.

أي سورة أو آية أنزلت أول من القرآن

وعن مسألة أي سورة أو آية أنزلت أول من القرآن نجد هذه الرواية التي أخرجها البخاري: “قال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل أول؟ فقال: (يأيها المدثر )، فقلت: أنبئت أنه (اقرأ باسم ربك الذي خلق) فقال: لا أخبرك إلا بما قال رسول الله ، قال رسول الله : “جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي،فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني وصبوا علي ماء باردا، وأنزل علي: (يأيها المدثر قم فأنذر  و ربك فكبر)…”[4].

وفي رواية أخرى وهو يحدث عن فترة الوحي: “فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثت منه رعبا فرجعت، فقلت: زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: (يأيها المدثر) إلى (والرجز فاهجر)…”[5].

فالروايات هنا متكاملة لا تناقض بينها ، بل هي ترسم الصورة الظاهرية و الباطنية لحال الرسول عند تلقيه للوحي، كما أن اعتبار الأسبقية لهذه السورة على أخرى ليس مما يجعل سورة العلق في الدرجة الثانية بعد المدثر من حيث التنزيل ولكنهما سورتان متتاليتان في زمن متقارب، قد سبقت فيه الأولى الثانية بحسب السياق والمقتضى المعرفي وتمهيداته، وهذا صريح في الحديث بأن الملك جبريل عليه السلام قد جاء إلى النبي وهو في حراء قبل أن ينزل عليه سورة المدثر التي تصف لنا حاله والارتعاد الذي اعتراه عند نزول الوحي للمرة الأولى وبالمناسبة مع رؤية الملك جبريل عليه السلام، وهو أيضا ما عبرت عنه الرواية التالية بقول النبي مضمرا:”فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض ” لأنه لو لم يكن معرَّفا ومعروفا لديه ولدى من يحكيه لهم لما عبر عنه هكذا.

في حين أن التعبير بارتجاف الفؤاد من جهة والبوادر من جهة أخرى قد يعطي صورة لشمولية التفاعل النبوي مع الوحي ظاهريا وباطنيا، نفسيا وروحيا وجسديا، لحد أنه قد جثا رعبا لما بدا له من جلال وسمو في المشهد الذي -كما قلنا – لم يكن في الحقيقة سوى جلال الله تعالى الذي أوقره فؤاده بواسطة جبريل عليه السلام في تلك الصورة الخاصة ، التي مفادها إن كانت هذه هي حقيقة الملك الذي هو خلق سماوي ، وهو خلق من خلق الله تعالى، فكيف بعظمة الخالق وقدره سبحانه وتعالى، رب السموات والأرض وما فيهن وما بينهن من عوالم ومعالم.

إضافة إلى هذا فالنبي هو سيد المحققين ولا يرضى إلا بما هو على حقيقته لا مجرد شكله أو تشخصه، وهذا هو حاله مع رؤية جبريل وخصوصية رؤيته له دون سائر الرسل والأنبياء وكذا باقي الأولياء …

لكن قد يبقى التساؤل قائما حول هذا التسلسل: هل أن سورة المدثر جاءت مباشرة بعد اللقاء بغار حراء ، أم أنها جاءت في مرحلة بعد أن أخبر زوجته السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بما جرى له، ثم ذهابه معها إلى ورقة بن نوفل وطمأنته إياه بأنه سيكون نبي هذه الأمة؟

حسب رواية البخاري، في كتاب التعبير، يبدو أن التسلسل قد كان قائما عند هذه المرحلة، أي أنه بعد لقاء حراء اعترض جبريل عليه السلام سبيله للمرة الثانية عند نزوله ببطن الوادي، وهو ما زاد في ارتجافه حتى قال:”زملوني زملوني“،ثم نزلت سورة المدثر .لكن الرواية في كتاب بدء الوحي لم تذكر سورة المدثر  بتاتا ووقفت عند (اقرأ) ثم الذهاب إلى بيته ومن بعد اللقاء بورقة بن نوفل وما جرى بينهما من حديث بشائر النبوة ومستقبلها وحتمياتها وما يعتري الرسالة عند التبليغ العام.

وهذا الاستنتاج الأخير قد يتوافق مع رواية ابن إسحاق وتسلسلها في نفس السياق ، أي أن ظهور الملك مرة أخرى ثم نزوله بسورة المدثر  يكون قد حصل بعد أن أخبر أهله وما طمأنته به زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها…

وهنا نتساءل: لماذا سيرعب النبي للمرة الثالثة والمفروض أن تكون المفاجأة أو الإثارة والانفعال الأول كفيل بتحصيل التعود ولم يعد هناك مدعاة أو استصاغة لهذا الارتجاف والارتعاد عند كل مرة كما وصف في الأحاديث الخاصة بسورة المدثر؟

لكن قد يطرح سؤال من جانب آخر  وهو: إذا كانت سورة المدثر هي بداية الرسالة وسورة اقرأ هي نقطة النبوة فإنه بعد الأمر  ب(قم فأنذر) سيكون غير محتاج إلى حكاية حاله لزوجته رضي الله عنها حتى قد قال لها: “لقد خشيت على نفسي“، وكذلك مراجعة ورقة بن نوفل وسماعه منه ما يحتمله حاله .

الوحي وتأكيد مختتم النبوات والرسالات بالبعثة المحمدية

فالوحي قد قر  في  قلبه   ووعى مضمونه وغايته وعرف كل المعرفة مصدره ،لكنه بحكم بشريته فقد كان ممكنا أن يعلم عن شأنه وأن يظهر تواضعه في أمره وقبوله لرأي غيره استئناسا لا تأسيسا. في  حين أن البشارة بنبوته من طرف زوجته وبالتالي أيضا من خلال استنباط ورقة بن نوفل  لها على ضوء حاله وحكايته هي في حد ذاتها بداية الدعوة ونشرها عمليا،وهي أيضا صورة  مشرقة لنجاحها حيث قد سلم لها بالحال قبل المقال .

وما وجود ورقة في هذه الحلقة إلا تحقيق لنبوة سيدنا عيسى عليه السلام  وبشارته وأن أول من سيؤمن  بنبوة سيدنا محمد صلى اله عليه وسلم مسبقا هم من كانوا من أهل الكتاب  الإنجيليين خاصة، قبل التوراتيين، نظرا للمباشرة الروحية والزمنية بين الرسولين والنبيين كما ذكره القرآن الكريم في بشارة عيسى عليه السلام :( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)[6].

فكان من حكمة هذا أن أول من يقر برسالته s هم المرتبطون روحيا بعيسى عليه السلام والواصلون طريقهم وتطلعاتهم بسيدنا محمدs، فآتاهم الله تعالى كفلين من رحمته كما قال عنهم:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) )[7].  

وعن ورقة بن نوفل يقول ابن كثير في تخريجة مناسبة  :” وأدركها ورقة بن نوفل وكان يتوسمها في رسول الله …بما كانت خديجة تنعته له وتصفه له،وما هو منطو عليه من الصفات الطاهرة الجميلة  وما ظهر عليه من الدلائل والآيات.

ولهذا لما وقع ما وقع أخذت بيد رسول الله وجاءت به إليه، فوقفت به عليه وقالت: ابن عم ،اسمع من ابن أخيك، فلما قص عليه رسول الله خبر ما رأى، قال ورقة: سبُّوح سبوح، هذا الناموس الذي أنزل على موسى. ولم يذكر عيسى وإن كان متأخرا بعد موسى، لأنه كانت شريعته متممة ومكملة لشريعة موسى عليهما السلام  ونسخت بعضها على الصحيح من قول العلماء كما قال: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ).

وقول ورقة هذا كما قالت الجن: (يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)…ثم قال ورقة :”يا ليتني فيها جذعا” أي يا ليتني أكون اليوم شابا متمكنا من الإيمان.”يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك “يعني حتى أخرج معك وأنصرك”[8].

هذا الإدراك أو الاستدلال يشير إلى أن ورقة سيكون قد أخذ الدليل مسبقا من النبي فنطق عنه به ،أي أنه سيكون له نفس الموقف ونفس الاستمداد الذي حظي به الراهب بحيرى عند لقائه بهs في رحلة الشام الأولى وكشفه عن سر نبوته من خلاله وبإذنه،.وما مراجعته لورقة بن نوفل هنا إلا كتثبيت وإذن له بمعرفة نبوته ورسالته معا،معرفة محققة تستمد مصدرها من العين الأصلي الذي قد أصبح حينئذ نبيا ورسولا في الحال والواقع ،وبهذا فقد سعد ورقة وكان ذا كفلين من أهل الكتاب كما نصت عليه الآية السابقة، وما هذا إلا من فضل الرحمة المهداة : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).


[1] رواه مسلم

[2]  رواه البخاري،كتاب التعبير

[3]  رواه البخاري ،كتاب بدء الوحي

[4]  رواه البخاري ،كتاب التفسير

[5]  رواه البخاري ،كتاب التفسير

[6] سورة الصف آية 6

[7]  سورة الحديد آية : 27-29

[8]  ابن كثير :السيرة النبوية ج1ص396