بين الحين والآخر، يفاجئنا أحدهم برأي صادم عن الإسلام، أو بتسفيه لقيمه وأحكامه، أو بتطاول على شخصية من شخصياته التاريخية التي هي محل فخر واعتزاز؛ ولو كانت عند أمم أخرى لَجُعلت محل تقدير وتبجيل لائقَيْن بها.
فلمَ هذه الظاهرة؟ وهل هي تعبِّر فعلاً عن جرأة في الطرح، وتجديد في الرأي؛ أم عن إسفاف في الأسلوب وتطاول غير مقبول؟
في حوار “إسلام أون لاين” مع المفكر الإسلامي أ.د. إبراهيم عوض، الأستاذ بكلية الآداب- جامعة عين شمس، وصاحب العديد من الكتابات في الرد على العلمانيين والمستشرقين.. نتعرف على أسباب الهجوم على الإسلام، وكيفية التصدي له، وعلى دور المؤسسات الدينية والجامعات في ذلك..
فإلى تفاصيل الحوار:
– ما يطرح في الإعلام من آراء تثير الجدل عن الإسلام قيمًا وأحكامًا، وعن الشخصيات الإسلامية التاريخية.. هل يمكن اعتباره تجديدًا وجرأة، أم تبديدًا وتطاولاً؟
– يمكن القول إن هذه الآراء فيها الأمران معًا.. وأنا شخصيًّا أعيد النظر في بعض ما أعتقد، وهذه الإعادة ناتجة من سماعي لهذه الآراء.. المسلم عليه أن يعيد النظر فيما بذهنه، ليرى: هل هو صحيح فيداوم عليه، أم به خطأ فيراجعه.. هذا فيما يتصل بما يوجد من اجتهاد وجرأة فيما يطرح في وسائل الإعلام.
أما ما يتصل بالجانب الآخر، فعلينا أن نعترف أن هذه الآراء يغلب عليها الرغبة في الإفساد.. فبعض من يتحدثون بها لم نعرف عنهم الاهتمام بالإسلام وبأفكاره ومناهجه، فضلا عن الالتزام بسلوكياته؛ ثم فجأة وجدناهم يطلقون لأنفسهم العنان في تناوله بالنقد والتجريح.. بل إننا نعرف موقفهم من غير الإسلام، وبأنهم يتحدثون عن غير الإسلام بكثير من التوقير والتبجيل!
فهل من الحصافة أن ننخدع بهم، ونظن أنهم يريدون بالإسلام خيرًا..!
ولو أن أحدهم طرح أسئلة وانتظر الإجابة، أو طرح تفسيره هو لما يعتقده؛ لظننا به خيرًا.. إنما هم ينطلقون من الهجوم، ومن التشكيك والتحقير.. مثل الذي وصف أحد أهم أبطال الإسلام، وهو صلاح الدين الأيوبي، بأنه “أكبر مجرم في التاريخ”!!
– هو يزعم أنه يبحث عن الحقيقة؟
– ليست هذه الطريقة الصحيحة للبحث عن الحقيقة.. هذا البحث يكون عن طريق أن تقرأ بتعمق، وتطرح جميع الآراء ثم تناقشها بهدوء وتجرد؛ لا بالشتم والتطاول.
في تجربتي الشخصية حينما أريد أن أبحث قضية، أقرأ ما كُتب حولها، مما يقع تحت يدي، وبلغات مختلفة، سواء مما كتبه المسلمون أو المستشرقون، ومما كتبه الملتزمون بالإسلام أو غيرهم، وأقرأ لزعماء الفكر والعلم مثل محمد فريد وجدي وعباس العقاد والشيخ محمود شلتوت.. حتى إنني أقرأ لمن أختلف معهم كليةً، مثل جمال البنا.. ثم أناقش ما قالوه، وأحكِّم عقلي، وفي نهاية الأمر أقول: هذا ما أدى إليه اجتهادي، أما الحقيقة فهي عند الله سبحانه..
وهذا منهجي الذي أدرِّسه طلابي في الجامعة، وكثيرا ما أقول لهم: ما أقوله ليس معصومًا؛ إنما هو وجهة نظري، ولا تتحرجوا من مناقشتها، بعقول وعيون مفتوحة.
لكن أن يتناول أحدهم شخصياتٍ كبارًا لهم تاريخهم المشهود له، ويهدمهم بالكلية؛ فمن حقنا أن نتشكك فيه.. هل هذه الشخصيات لها أخطاء؟ نعم، لكنها أخطاء لا تغطي على مجمل حسناتهم، ولا يجوز هدم تاريخهم لبعض الأخطاء التي لا يخلو منها العظماء والمفكرون.
لمصلحة من يكون هذا الهدم؟! ولماذا الإسلام بالذات؟! بينما يدافعون عن الكنيسة!! لقد كان عليهم أن يعرفوا أن الإسلام- كثقافة وتاريخ- لو افترضنا أن به خطأً واحدًا، فهناك عشرات بل مئات الأخطاء في الكنيسة والأديان الأخرى.. فلمَ السكوت عنها وتصويب النظر تجاه الإسلام وحده؟!
– ولماذا تعتقد أن الإسلام مستهدف أكثر من غيره؟
– لأن الغرب يعرف جيدًا قيمة الإسلام، ويدرك خطورته بالنسبة لهم، وأنه يمكن أن يكون منطَلقًا لإعادة بعث هذه الشعوب من جديد.. فلو أن هذه الشعوب أفاقت، وهي لن تفيق إلا بالإسلام، لكان ذلك خطرًا على أطماع الغرب.
لقد انساح الإسلام في الأرض في فترة زمنية قصيرة، لم تتجاوز بضعة عقود، في ظاهرة غير معروفة في تاريخ الإمبراطوريات والدول العظمى، ولم تستطع إمبراطوريتا فارس والروم أن تصمدا ولو قليلاً أمام مدِّ الإسلام وقوته، وأصبحتا في خبر كان.. مع أن العرب قبل الإسلام لم تكن لهم ثقافة ولا حضارة ولا مدنية.
فالغرب يعرف هذا جيدًا، ويدرك إمكانية إعادة التجربة، وهو- أي الغرب- يجلس على أكتاف البشر، ويستنزف ثرواتهم وخيراتهم؛ وليس من أحد بإمكانه أن يقف أمامه إلا الإسلام، وإلا المسلمون بعد عودتهم لمنهج الله.. ولهذا تكثر الحملات ضد الإسلام، والتي تحاول أن تخدعنا بثوب البحث العلمي، وببريق البحث عن الحقيقة!!
– هل هذا التطاول أمر عفوي أم مخطَّط؟
– هو أمر مخطط في معظمه؛ لأن الغرب- كما قلنا- يعرف قوة الإسلام جيدًا، ويعلم أن المارد الإسلام لو تحرك فلن يكون لأطماعهم مكان في بلادنا.. مثل اللصوص الذين يعرفون أنهم لن يستطيعوا منافسة التاجر الأمين، لصدقة ورحمته بالناس وعدم جشعه؛ فيلجأون لمحاربته وتشويه سمعته، لطرده من السوق أو لإبقائه ضعيفا لا يستطيع منافستهم.
ولذا، فهؤلاء يسلطون الأضواء على جزئيات ذات مساحة صغيرة جدًّا في الإسلام، في حين يتجاهلون الحقائق الكبرى والصورة العامة المشرقة.. فموضوعات مثل تقدير الإسلام للعلم، ورحمته بالمخالفين، وحسن رعايته المرأة حتى إن الرجل ليدخل الجنة بتربيته الجيدة لابنتين أو لابنة واحدة، وأن المرأة لا تزوَّج بالإكراه أبدًا بل لابد أن تُستأذَن.. مثل هذه الموضوعات لن تجدها في حديثهم، ولا يلتفتون إليها.. إنما يركزون على جزئية مثل ضرب المرأة، مع أنها جزئية لا تمثل حقيقة موقف الإسلام من المرأة، والنبي ﷺ لم يضرب أيًّا من زوجاته، وقال في الحديث الصحيح: “النساء شقائق الرجال.
– إذا كنتم تذهبون إلى أنه هجوم مخطط، ألا تخشون من الاتهام بالانسياق وراء “نظرية المؤامرة”؟
– لا طبعًا، لأن معظم سلوك البشر قائم على المؤامرة؛ أي على وجود أهداف غير معلنة يسعى أصحابها لتحقيقها دفاعًا عن مصلحتهم.
أليس ما نراه من كذب السياسيين على شعوبهم، يعد مؤامرة؟! أليس ما نلمسه من بروباجندا في الإعلام وغيره وخداع الناس بما يضر حياتهم وحقوقهم، يعد مؤامرة؟! عندما غزت أمريكا العراق بدعوى امتلاكه أسلحة دمار شامل، واعتذروا بعد تدميره، بينما هم يعلمون مسبقًا عدم امتلاكه إياها؛ ألم يكن ذلك مؤامرة؟!
ونابليون بونابرت حين غزا مصر، ولبس العمامة وأعلن إسلامه للتقرب للشعب المصري، وقال لهم إنه يريد تخليصهم من المماليك الظالمين.. ألم يكن ذلك مؤامرة؟!
وإذا عدنا للحروب الصليبية، فسنجد أنهم أخفوا حقيقة مقصدهم عن شعوبهم، وقالوا لهم بأنهم ذاهبون للانتقام من المسلمين الذين يمنعون حجاج بيت المقدس، وهذا لم يحدث.. ألم يكن هذا مؤامرة؟!
إن التاريخ قائم في كثير من حالاته، بل في أغلبه، على المؤامرات.
السؤال الذي يجب أن يسبق ذلك، هو: من الذي سيتصدى له إذا كانت حكومات كثيرة موافقة على ذلك، وتراه يخدم سياستها في تغريب الشعوب وتغييبها.. وهم في سبيل ذلك، يستخدمون بعض حملة العلم الديني، الذين يُفترض أنهم يدافعون عن الإسلام، ويحملون لواءه؟! فضلاً عن استخدام بعض من يسمون “مثقفين”، ولا علاقة لهم بثقافة الأمة وتراثها، ويقفون منبهرين أمام الثقافة الغربية.. فنجد تمييعًا لبعض العقائد الدينية التي تتصل بالموقف من الآخر؛ مثل عدم القول بكفرهم، بزعم دعم الوحدة الوطنية.. مع أن هذا كذب على الله، وتدليس على الإسلام.
إن صوت العلماء المخلصين الواعين ضعيف جدًّا، ولا يكاد يصل إلا لأعداد محدودة، وإن وصل لا يؤثر.. في مقابل طوفان هادر من الأباطيل والأراجيف التي تجد كامل الدعم والمساندة، وتسخَّر لها كلُّ الإمكانات للوصول حتى إلى الفلاح والعامل والصانع! أما المقالات التي تُكتب- مني ومن غيري- فلا تصل إلا للعشرات، بالكاد.
والمؤسف، أن شريحة مثل طلاب الجامعات، يُفترض فيهم التعلُّم والبحث عن الحقيقة، نجدهم غير راغبين في ذلك، ويتهربون من العلم، ولا يهمهم سوى الدرجات والنجاح على الورق، دون تحصيلٍ علمي مثمر يفيد في رد هذه الانحرافات، وهذا التطاول على الإسلام.
وهنا سؤال: هل الشعوب تحب دينها أم لا؟ إذا كانت تحبه فعلاً فلتتثقف وتطّلع؛ لصدِّ هذه الهجمات.. أما إذا كانت لا تريد التثقف والاطلاع، فلتعلم أنها ستخرج من التاريخ، ولن يرحمها أحد.
– إذا جئنا لدور الإعلام.. هل هو فيما يتصل بالإسلام، يمارس دوره بحياد، أم يسعى لتأجيج النقاش لجذب الجمهور؟
– أولاً أنا لا أعرف الحياد أمام الدفاع عن الإسلام.. المسلم، إعلاميًّا كان أم غير ذلك، يجب أن يدافع عن الإسلام وعن قيمه ومبادئه ومُثله.. لكن إذا كان رجل الإعلام بصدد طرح قضية للنقاش، ولا يريد أن يقوله رأيه الشخصي، فعليه أن يختار ضيوفه بعناية ممن يحسنون توضيح حقائق الإسلام ورد الشبهات عنه.
والإعلام الآن، في معظمه، لا يهمه إلا الإثارة والضجيج واجتذاب المشاهدين، فضلاً عن أن أعين هؤلاء الإعلاميين موجَّهة دائمًا لمن يملكون ذهب المعز أو سيفه.. وأقولها بكل صراحة: بعض قنوات الإعلام في الصحافة والتلفزيون ضد الإسلام، دون شك في ذلك!!
ولذا، تضيع الحقائق، وتكثر الشبهات، ويُساء للإسلام، وتغيَّب الشعوب عن دينها ومصالحها!
– المؤسسات الدينية.. هل تقوم بدورها في التصدي لهذا “التطاول”؟ وهل هي قادرة أصلاً؟
– نعم تقوم بدورها إلى حد كبير.. وهي قادرة لو أرادت، ولو كانت مخلصة، ولو كانت مستقلة.. وبعض هذه المؤسسات لها مواقف مشرفة، ولها بيانات مهمة ومتزنة؛ لكننا نلاحظ أن ثمة موضوعات معينة غير مسموح لهم بالحديث عنها، وبيان رأي الإسلام فيها.. هي محرَّمة عليهم أربعين سنة!
فهي مؤسسات ملجَّمة، ومحجَّمة؛ إما من داخلها خوفًا، أو من خارجها بالتسلط والكبت الممارَس عليها.. حتى رأينا بعضهم يغيرون آراءهم، ويوافقون على أمور ظلوا لسنوات يعارضونها قائلين إنها تتعارض مع رأي الشرع.
–هل مناهج التعليم في الأزهر وفي أقسام الدراسات الإسلامية خارجه، تؤهِّل الدارسين للتعامل مع هذه الشبهات والافتراءات؟
– نعم، هي بشكل عام مناهج جيدة، وتؤهل دارسيها.. المشكلة الأساسية هي عدم رغبة الطلاب في العلم، وتركيزهم فقط على تقليص مساحة المناهج ليحصلوا على الدرجات.. التعليم أصبح عملية روتينية مملة؛ لا تثمر عقلاً، ولا ترسِّخ منهجًا، ولا تربي باحثين وعلماء إلا من رحم الله!
الأساتذة رغم ضعف بعضهم، والكتب الدراسية رغم حاجتها إلى تجويد؛ مازالوا قادرين على تخريج أجيال مثقفة قادرة على مواصلة مسيرة البحث الجاد، لو توافر طلاب حريصون على التعلم، ولو التفت المجتمع ككل لأهمية العلم والعلماء.
– كيف يمكن تفعيل القانون لمواجهة الافتراءات والتطاول؟
– أنا مع حرية الرأي، وإتاحة الفرصة لكل صاحب رأي؛ حتى لا نُتهم بتكميم الأفواه.. بشرط أن يتكلم العلماء والباحثون المختصون؛ أما أن يتحدث البعض عن جهل، أو يسب ويتطاول على مقام النبوة مثلاً؛ فلا يمكن السكوت عن ذلك.
لكني ألفت النظر إلى مسألة أخرى، وهي أن الإسلام لو كان موجودًا في حياة الناس بالصورة الصحيحة؛ لما وجد هؤلاء المتطاولون من يستمع لهم ويقتنع بكلامهم.
القانون وحده ليس حلاًّ.. والأفضل تقوية مناعة المجتمع، وإتاحة الفرصة للعلماء الفاقهين، واحترام التخصص.. مثلما أنه لا يملك ممارسة الطب إلا الأطباء.