أوضح الدكتور الفارس علي، أستاذ الدراسات اللغوية المقارنة بجامعة القاهرة، أن اهتمام المستشرقين الألمان باللغة العربية بدأ مبكرًا، وأن الاستشراق الألماني قدم خدمات جليلة للثقافة العربية والإسلامية، تمثل أبرزها في العناية بالمخطوطات العربية ونشرها وترجمتها وفهرستها، إضافة إلى الاهتمام بفن المعجمية العربية.
وفي حواره مع “إسلام أون لاين”، رصد أستاذ الدراسات اللغوية نشأة الاستشراق الألماني وتطوره، وأبرز الأعمال التي أثرى بها المكتبة العربية.. كما تطرق إلى دور علم اللغة المقارن في فهم ظواهر اللغة العربية، وإلى مسألة التفاضل بين اللغات، مبينًا أن “العربية” لها مكانة تفوق ما للغات الأخرى؛ سواء في بُناها الصرفية أو تراكيبها النحوية.
والدكتور الفارس علي أكاديمي ومترجم مصري، متخصص في الدراسات اللغوية المقارنة، عمل أستاذًا بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة زايد بأبوظبي.. فإلى الحوار:
كيف بدأت صلتكم بالاستشراق الألماني؟
لا أبالغ إذا قلت إن صلتي بالاستشراق الألماني بدأت مع أول اتصال منهجي لي بـ التراث العربي، حيث وقفت على كثير من عنوانات دواوين الشعر الجاهلي والإسلامي واللغة والأدب وموسوعات السير والتراجم وغير ذلك من خلال ما أخرجه المستشرقون الألمان، فقد ظهرت مئات من نصوصنا القديمة الأساسية في مختلف الفنون والعلوم العربية الإسلامية بإخراج وتحقيق وعناية من حركة الاستشراق الألماني على وجه الخصوص، حتى إنني أستطيع القول إن مجموع ما نشره الألمان وحدهم من التراث العربي في مختلف الفنون قد جاوز ما نشره المستشرقون الفرنسيون والإنجليز مجتمعين.
على أن علاقتي قد توطدت بالاستشراق الألماني في مرحلة الدراسات العليا بعد تعييني بقسم علم اللغة والدراسات السامية والشرقية بكلية دار العلوم، حيث تخصصت بتوجيه من أستاذي الدكتور عبد الصبور شاهين، رحمه الله، وكان رئيس القسم آنذاك، في الدراسات اللغوية المقارنة. في تلك الأثناء اتصلت بالعالمين الجهبذين الدكتور محمود فهمي حجازي، والعلامة الدكتور رمضان عبد التواب، حيث واظبت على حضور محاضراتهما ومجالسهما العلمية، ومن خلالهما جعلت أتعرف على أساطين الاستشراق الألماني، مثل رايسكه، وڤوستنفيلد، وفلوغل، ويوهان فوك، الذي أذكر أني قرأت له آنئذ كتابه الماتع: “العربية، دراسات في اللغة واللهجات والأساليب”، بترجمة العلامة الدكتور رمضان عبر التواب، وكذلك تيودور نولدكه شيخ المستشرقين الألمان غير مدافع، صاحب المصنف الأشهر في تاريخ الاستشراق الألماني: “تاريخ القرآن”، الذي تناول أساتذتنا طروحاته بالرد والتفنيد، وأخص بالذكر أستاذنا الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه “تاريخ القرآن”، الذي كان له أكبر الأثر في نفسي، حيث تتبع فيها أقوال نولدكه قولًا قولًا وفندها جميعًا.
وإبان مرحلة الماجستير، اتخذت من المقارنة بين طرائق التعبير عن مفهوم الزمن في اللغتين العربية والعبرية، موضوعًا لأطروحتي، الأمر الذي أجاءني إلى الاتصال بكل ما طالته يدي مما خطه المستشرقون، وبخاصة الألمان، في هذه القضية، وعلى رأسهم برغشتراسِّر في كتابه التطور النحوي للغة العربية الذي ترجمه العلامة الدكتور رمضان عبد التواب، وبروكلمان في نحو اللغة العربية، ونحو العبرية وغيرهما.
وبعد الانتهاء من مرحلة الماجستير ابتعثتني جامعة القاهرة بتزكية من العلامة الدكتور محمود فهمي حجازي إلى جامعة برلين الحرة بألمانيا لدراسة الدكتوراه. وهناك انتقلت من الخبر إلى المعاينة، ومن التصور الغامض المشوش المسبق لعالم الاستشراق والمستشرقين، إلى الصورة الواضحة المعالم التي شكلتها الخبرة المباشرة والتجربة الحية غير المكتفية بمجرد السماع. هناك أشرف عليّ واحد من أكبر سدنة المنهج التاريخي المقارن في الدرس اللغوي، والدراسات السامية في العالم، هو البروفيسور راينر فوغت، وهذا الرجل أدين له بفضل عظيم، وكان له أكبر الأثر في تكويني العلمي، حيث تعلمت منه ما لم أتعلمه من أحد غيره، فقد كان مثالًا في منهجيته العلمية الصارمة.
وهناك أتيح لي أن أتصل بأسماء كبيرة في عالم الاستشراق، من أبرزهم العلامة ديتريش فيشر عضو المجمع اللغوي في مصر، وكان عضو لجنة الحكم على أطروحتي. والأستاذة أنجليكا نويفرت أستاذة الدراسات القرآنية المعروفة، والبروفيسور ديتر بلوم الذي أثرى المكتبة اللغوية بدراساته الرصينة في الفعل العربي.
نريد أن نلقي الضوء على الاستشراق الألماني، نشأةً وتطورًا ومآلاً؟
اهتمام المستشرقين الألمان بالعربية بدأ مبكرًا، فقد نشر المستشرق الألماني “فلهلم بوستل” في منتصف القرن السادس عشر مصنفه الأول في “قواعد العربية”، لكني لا أعده منجزًا ألمانيًّا حقيقيًّا، لأنه نشر باللاتينية كما هي الحال في أوربا آنذاك. وفي القرن السابع عشر ألف كريستمان كتيبًا بالألمانية، وهو الأول من نوعه، في تعريف الحروف العربية. لكن الرائد الأول الذي وقف حياته على دراسة اللغة العربية والحضارة الإسلامية هو رايسكه (المتوفى في الربع الأخير من القرن الثامن عشر) الذي يعد واضع حجر الأساس لدراسة العربية في أوروبا، فقد طبع عددًا من المخطوطات العربية، مثل تاريخ أبي الفداء على نفقته الخاصة، ولم يبع منه إلا 30 نسخة، وأنفق في سبيل ذلك كل ما يملك، ومات فقيرًا بسبب ذلك.
وتتابع نشاط الحركة الاستشراقية الألمانية وزهت بدءًا من منتصف القرن التاسع عشر وامتدت مدة طويلة، وصنف إبان ذلك العديد من البحوث العلمية والكتب التعليمية التي تأثروا فيها باللغويين العرب، ونشروا مئات من المخطوطات العربية، منهم فلايشر، و”غوستاف يان” الذي طبع كتاب سيبويه لأول مرة مشفوعًا بترجمة ألمانية وتعاليق مفيدة في منتصف القرن التاسع عشر، وقد صحبت هذه الطبعة القديمة خلال مرحلة الدكتوراه، وأدهشني فيه قدرة الكاتب المعقولة على فهم عبارة سيبويه، الذي كان يقال لمن يقرأ كتابه: “هل ركبت البحر” إشارة إلى صعوبته البالغة. ولا ينبغي أن ننسى في هذه المرحلة أسماء جليلة، مثل كاسبراي وركندورف صاحب التراكيب النحوية العربية الذي نشره في مجلدين كبيرين وبروكلمان صاحب التواليف المعروفة في تاريخ الأدب العربي والنحو العربي ونحو اللغات السامية.
الألمان برعوا في العناية بالمخطوطات والفهرسة والمعجمية
وظل الاستشراق الألماني في حركة ونشاط دائبين لم يقطعهما إلا اندلاع الحرب العالمية الثانية، فأصابه الضعف والوهن، وتراجعت وتيرة الإنتاج، إلى أن عادت مع حركة الاستشراق الحديثة والمعاصرة، التي يعد من روادها أسماء مثل: زيغريد هونكه صاحبة “شمس الله تسطع على الغرب“، وآنا ماري شيمل، التي كانت معنية بالتصوف الإسلامي، وديتريش فيشر، وإنجليكا نويڤرت. لكن مع تراجع الكتابة باللغة الألمانية في الدوريات العريقة، وإغراقها بأخرة بمقالات بالإنجليزية، حتى إنك لا تكاد تجد فيها مقالة واحدة مكتوبة بالألمانية في أعدادها الأخيرة، على نحو ما نرى في دورية ZDMG المجلة الألمانية الشرقية، فصارت اسمًا على غير مسمى، مع هذا التراجع لا أستطيع أن أخفي قلقي على مستقبل حركة الاستشراق الألمانية، فلست أعتد عملًا أو منجزًا ألمانيًّا إلا ما كان مكتوبًا بالألمانية، وإن كان كاتبه يحمل جواز سفر ألمانيًّا … فاللسان عندي هو الهوية، لا ينازعه فيها شيء غيره!
وكيف ترون إسهام المدرسة الألمانية في دراسة التراث العربي، مقارنة بمدارس الاستشراق الأخرى؟
لا شك أن الاستشراق الألماني قد قدم خدمات جليلة للثقافة العربية والإسلامية، وتميز في ذلك عن غيره من الاستشراق الأوربي، في عدة مجالات:
المجال الأول: العناية بالمخطوطات العربية، ونشرها، وترجمتها والتعليق أحيانًا. وقد رأينا رايسكه ينشر تاريخ أبي الفداء، وكذلك نشر معلقة طرفة بن العبد بشرح ابن النحاس، وترجمها إلى اللاتينية بحسب أعرافهم آنذاك. وقد راجت حركة نشر التراث العربي في شتى فنونه من أدب ولغة وفلسفة وتراجم وسير وفرق وفلك وطب … إلخ، في القرن التاسع عشر. وأزعم أن إسهام الألمان في هذا المجال قد فاق بمراحل ما أسهم به كل مستشرقي أوروبا أجمعين. ويكفينا أن نعرف تدليلًا على ذلك أن أحدهم، وهو ڤوستنفلد قد حقق ونشر وحده نحو 200 مخطوطة من التصانيف الموسوعية، مثل: وفيات الأعيان لابن خلكان، وطبقات الحفاظ للذهبي وسيرة ابن هشام ونحوها. كذلك الأمر مع فلوغل الذي لبث عاكفًا على تحقيق الفهرست لابن النديم قرابة 25 عامًا، وكشف الظنون لحاجي خليفة 13 عامًا حتى أخرجهما.
وبرغشتراسر الذي كان معنيًّا بنشر مخطوطات القراءات القرآنية، وكل ما يتعلق بصور أدائه حتى إنه لما قدم إلى مصر جعل يستمع إلى بعض مقرئي القرآن، ويقوم بتدوين مقاماتهم ونغماتهم في القراءة في نوتته الموسيقية. وقد مر حديثي آنفًا عن المستشرق يان الذي نشر كتاب سيبويه في منتصف القرن التاسع عشر، وترجمه، وعلق عليه، يوم أن كان الكتاب وغيره غير معروف عندنا في العالم العربي إلا مخطوطًا. والقائمة في ذلك تطول، ولا سبيل لنا إلى أن نستقصيها في مقامنا هذا.
المجال الثاني:فهرسة المخطوطات العربية، سواء الموجودة في المكتبات الألمانية أو في غيرها من المكتبات الأوربية، وتصنيفها تصنيفًا دقيقًا. ولعل العمل الجبار الذي يفخر به الاستشراق الألماني ما قام به وليم ألورد بفهرسة المخطوطات العربية الموجودة في مكتبة برلين الوطنية خير مثال على ما نقول؛ حيث صنف عشرة آلاف مخطوط عربي في عشرة مجلدات ضخمة، واصفًا إياها وصفًا دقيقًا. وفهرس فلايشر المخطوطات الشرقية لجامعة دريسدن، وبروكلمان مخطوطات جامعة برسلاو، وظل ريتِّر يكتب مقالات ضافية في الأعوام من (1945- 1959) عن المخطوطات العربية في مكتبات الآستانة وآيا صوفيا وبيروت، ونحوها. ويعد كتاب العلامة كارل بروكلمان “تاريخ الأدب العربي” درة التواليف الألمانية في تقصي تفاصيل حركة التأليف في التراث العربي، وهو عمل جبار بكل ما تعنيه الكلمة، ويعكس مثابرة الرجل، وقوة عزيمته، والكتاب رغم قصوره في بعض مواضعه، فإن ريتر تدارك هذا القصور بإضافات مهمة في طبعاته الأخيرة، ولا يزال هذا العمل مرجعًا لا يستغني عنه أي باحث في تاريخ الأدب العربي. وسيجد القارئ لسيرة هذا الرجل التي ترجمتها مؤخرًا حديثًا ضافيًا عن ملابسات تأليف هذا الكتاب الفريد في فنه.
المجال الثالث: الذي برع فيه المستشرقون الألمان، وبزوا فيه غيرهم من المستشرقين، فكان فن المعجمية العربية، فقد تفننوا في وضع القواميس الألمانية العربية؛ مثل معجم شراغله، أو العربية الألمانية مثل معجم ڤير، الذي اعتنى فيه بالألفاظ العربية الحية المستخدمة في الصحف والمجلات والمؤلفات الحديثة.. أو القواميس العربية العربية. وهنا يجب أن أشير إلى العلامة أَوْغُسْت فيشر الذي كان من كبار اللغويين في القرن العشرين، ومن مؤسسي المجمع اللغوي العربي في مصر، فبدأ معه يوم أنشئ عام 1932، وخير ما خلف “فيشر” مشروع المعجم التاريخي للغة العربي، الذي احتذى فيه طريقة معجم أكسفورد التاريخي، ومنهجه في “معجمة” اللغة العربية القديمةـ بأن يتتبع دورة حياة الألفاظ والمفردات العربية، وأن يستقصى دلالات هذه الألفاظ والتراكيب من مصادرها التاريخية في مختلف حقبها وبيئاتها، مسجلًا ما طرأ عليها من تغيير وتبديل، وتوافرت له من ذلك مادة صالحة بلغ بها إلى آخر القرن الثالث الهجري، جمعها من المعلقات والمفضليات والأصمعيات والحماسة والهاشميات، وشعر المراثي. وفي الحديث اعتمد على البخاري، وأجزاء من تاريخ الطبري. وقد أنفق في سبيل ذلك نحو خمسين عامًا جمعًا وتنسيقًا، وبلغ عدد الجذاذات اثني عشر ألف جذاذة. ولما أنشئ مجمع اللغة العربية في مصر في 1932 وعين عضوًا فيه أودع بعض هذه الجذاذات أمانة المجمع، وراح يتردد على القاهرة في شتاء كل عام حتى 1939، ولما قامت الحرب لم يستطع العودة إلى مصر، وظل حبيسًا بألمانيا إلى أن عاجلته المنية عام 1948.
الاستشراق الألماني لم يخضع لغايات استعمارية أو دينية
أما مصير المواد التي جمعها، فقد توزعت بين القاهرة وهالّه، وحاول المجمع أن يلم شعث ما تفرق من جذاذات معجمه التي كانت في أمانته فلم يفلح، وضاع معظمها ولم يبق منها إلا النزر القليل، كذلك حاولت بعض الجامعات الألمانية الحصول عليها لاستكمال الجهد، ولكنها فشلت. ولم يجد المجمع من هذه الجذاذات شيئًا صالحًا للنشر إلا مقدمته التي أعدها بنفسه شارحًا فيها منهجه، ونموذجًا من حرف الهمزة إلى مدخل الجذر “أ ب د”، وقد نشرها المجمع غير مرة. وقد حاول المجمع منذ ذلك الحين أن يستكمل عمل فيشر في المعجم التاريخي، وشكل في ذلك لجانًا متعاقبة، لكنه فشل في إنجاز شيء ذي بال لأسباب تمويلية، إلى أن تولى الأمر بأخرة بعض دول الخليج؛ مثل قطر، التي شكلت فريقًا من اللغويين العرب معظمهم من المغرب العربي، والمستشرقين الألمان في إخراج معجم تاريخي إلكتروني، خرجت بعض أجزائه. كذلك إمارة الشارقة التي شكلت ما يسمى باتحاد المجامع العربية، بالتعاون مع المجمع اللغوي المصري في محاولة- ربما- لاستكمال مشروع فيشر، الذي مضى على فكرته الأولى ما يربو على قرن.
إذن، ما الذي ميز المدرسة الاستشراقية الألمانية؟
فيما يتصل بما تميزت به المدرسة الاستشراقية الألمانية عن غيرها من مدارس الاستشراق الأوربي، يمكن القول: إنها اختصت بمزايا واضحة؛ وهي في رأيي أن الحركة الاستشراقية الألمانية لم تخضع غالبًا لغايات سياسية أو استعمارية أو دينية، كالاستشراق في بلدان أوروبية أخرى؛ فألمانيا لم يتح لها أن تستعمر البلاد العربية أو الإسلامية، ولم تهتم بنشر الدين المسيحي في الشرق، لذلك لم تؤثر هذه الأهداف في دراسات المستشرقين الألمان، وظلت محافظة على الأغلب على التجرد والروح العلمية. وإذا ظهر في بعض الدراسات الاستشراقية الألمانية بعض الانحراف في الرأي، أو الخطأ، فهذا أمر لا يمكن تعميمه في الدراسات كلها.
لم تكن دراسات المستشرقين الألمان عن العرب والإسلام والحضارة الإسلامية العربية متصفة على الأغلب بروح عدائية. نعم لقد كان ثمة بعض المستشرقين الذين أتوا بآراء لا توافق العرب والمسلمين، أو بآراء خاطئة تمامًا، وهذا أمر طبيعي لا غرابة فيه، ولا نتوقع غيره؛ كبعض آراء “نولدكه” عن الشعر الجاهلي والقرآن الكريم، أو آراء فوللرز عن القرآن وتهذيبه، لكن يمكنني القول إنها آراء محدودة، فالاستشراق الألماني لم يعرف مستشرقين جعلوا ديدنهم عداء العرب والإسلام، وتعمدوا الدس والتشويه في دراساتهم، بل العكس وافقت هذه الدراسات روح إعجاب وتقدير وحب وإنصاف، بل إن بعضهم وقع في غرام العرب والعربية.
فعلى سبيل المثال لو قرأت فقرات من كتاب فلوغل عن المدارس النحوية عند العرب (أعكف على ترجمته هذه الأيام) لقرات عجبًا في صفة العربي، وبلاغة النبي، وفي ثنائه على لغة القرآن. بل إن شاعرهم الأعظم غوته صاحب “فاوست” كان معروفًا عنه أنه شغوف بالقرآن الكريم، وقد استلهمه في كثير من قصائده، وقرأت له إحداها، وكانت تبدو كأنها ترجمة أنيقة لسورة “الصمد”، ومن تصريحاته المشهورة أنه لا يزعجه البتة أن يوصف بأنه مسلم.
كذلك نجد “رايسكه” الذي وضع حجر الأساس للدراسات العربية في ألمانيا، وأوروبا كلها، كان يسمي نفسه “شهيد الأدب العربي”. حتى إن بعضهم أسلم حبًّا للعربية والإسلام مثل “ريشر” الذي سمى نفسه “عثمان” بعد إسلامه، وبعضهم اتخذ لنفسه اسمًا عربيًّا، مثل أوغست موللر الذي نشر طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، فقد أطلق على نفسه اسم “امرئ الفيس بن الطحان”، وهو ترجمة لاسمه الألماني. ونال بعضهم أذى كثيرًا سبيل العربية، مثل ڤوستنفلد الذي كف بصره وهو يبحث لسنوات في النصوص العربية يحققها على نفقته.
لو أتينا إلى الدراسات اللغوية المقارنة.. هل لها دور في إثراء اللغة العربية؟
بالطبع يخدم علم اللغة المقارن دارسي اللغة العربية كثيرًا، فهو يقدم في فهم ظواهر اللغة العربية فوائد جمة يمكن أن تعود على الدرس اللغوي العربي، وكثيرًا ما كنت أردد لطلابي من دارسي اللغة العربية في دار العلوم وغيرها أن الإلمام بطرف من هذه اللغات المسماة باللغات السامية (وهي بالمناسبة تسمية من اختراع المستشرق الألماني أوغست فون شلوتسر، وقد استفادها من الجدول الخاص بأنساب الشعوب المنحدرين من ذرية نوح عليه السلام، وهم سام وحام ويافث، بحسب الرواية التوراتية، لكنها لا تزال تسمية غير مسلم بها عند كثير من الأنثربولوجيين وعلماء اللغات العتيقة، على أني أفضل عليها مصطلح اللغات العروبية، وهي تسمية أصدق في الدلالة عليها وألصق بموضوعها)، أقول إن الإلمام بطرف من هذه اللغات يساعد كثيرًا في توثيق معارفهم باللغة العربية؛ وأمثّل لهم بمن يريد خطبة فتاة، فلا بد له لكي يعرفها حق المعرفة من أن يلم بطرف من أصولها ومعرفة شيء عن ذوي قرباها من أشقاء وشقيقات وأخوال وأعمام ونحو ذلك.
علم اللغة المقارن يخدم دارسي اللغة العربية كثيرًا
فلكي تعرف العربية معرفة جيدة، عليك أن تعرف شيئًا عن الأكادية والآرامية والسريانية والعبرية والحبشية ونحو ذلك؛ كل ذلك سيؤدي لا محالة إلى استنتاج أحكام لغوية، لم نكن لنصل إليها، لو اقتصرت دراستنا على العربية فحسب. ونفسر بهذا الأمر سر تقدم المستشرقين أحيانًا، في دراستهم للغة العربية، ووصولهم فيها إلى أحكام لم يسبقوا إليها؛ لأنهم لا يدرسون العربية في داخل حدودها وحدها، بل يدرسونها في إطار هذه اللغات المذكورة. وليس هنا مجال ذكر أو تفضيل القضايا اللغوية التي أسهمت الدراسة المقارنة في تبيانها وحل إشكالياتها.
هل القول بتميز اللغة العربية، مقارنة بنظيراتها من اللغات الأخرى، تسنده دلائل علمية أم يدفع إليه حب العربية؟
المفاضلة بين اللغات من القضايا الخلافية قديمًا وحديثًا، وثمة رأيان في هذه المسألة؛ فهناك فريق يرى أن اللغات تتفاضل، وأن العربية هي أفضلهن على الإطلاق، وهو رأي جمهور المتقدمين، وعلى رأسهم الشافعي والباقلاني وابن قتيبة وأبي حيان التوحيدي، وأحمد بن فارس الذي وضع بابًا في كتابه الصاحبي، بعنوان: “باب القول في أن لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها”، وكذلك بعض المتأخرين مثل الأب أنستاس الكرملي، وبعض المستعربين والمستشرقين. ويلاحظ أن كثيرًا من هذه الأسماء لا ينحدرون من أصول عربية.
والرأي الأخر يرى أن التفاضل بين اللغات غير وارد عقلًا، لأن اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم بحسب تعريف ابن جني، وأبرز من ذهب هذا المذهب من الأقدمين ابن حزم الأندلسي ومعظم المعاصرين. لكن أصحاب هذا الرأي لا يميزون بين أداء الوظائف اللغوية مجردة، وبين مظاهر أداء هذه الوظائف.
ولأستاذنا الجليل العلامة الدكتور سعد مصلوح، أطال الله بقاءه، بحثٌ ضافٍ في هذه المسألة قارن فيه بين العربية وبعض اللغات المعاصرة كالإنجليزية والروسية في طرائق التعبير، وبرهن فيه بحيثيات علمية وأدلة موضوعية لا تقبل نقضًا ولا إبرامًا أن العربية قد بلغت في ذلك شأوًا لا ينبغي للغة من اللغات أن تبلغه. وهو الرأي الذي أتبناه في هذه القضية؛ فأزعم أن العربية ببناها الصرفية وتراكيبها النحوية تستطيع ما لا تستطيعه لغة أخرى غيرها. إن العربية هي اللغة التي اختارها الله لسانًا لهذا القرآن، وحاشاه سبحانه وتعالى أن يكون اختياره لها عبثًا، وهو القائل جلّ في علاه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر:49).
واقع الترجمة بين العربية والألمانية.. كيف ترصدونه؟
يشهد العالم العربي نشاطًا ملحوظًا في الترجمة عمومًا، وإن بدا ضعيفًا بعض الشيء بالنسبة إلى الألمانية إلى العربية؛ ربما لندرة العارفين باللغة الألمانية مقارنة بلغات أخرى مثل الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. ومن واقع تجربتي الشخصية في الترجمة أرى أن ثمة اهتمامًا نسبيًّا بالأدب الألماني، لكن الإقبال عليه ليس كالإقبال على أدب أمريكا اللاتينية أو الأدب الروسي الكلاسيكي أو الأدب الإنجليزي والفرنسي.
ما يميز الأدب الألماني أنه أدب شديد التنوع، ويضم اتجاهات وتيارات شتى، وبعد الحرب العالمية الثانية ساد ما يسمى بأدب المحنة، وانشغل الكتاب لمعالجة الحقبة النازية الذي أفرزت كل تلك الكوارث التي عاشتها ألمانيا لعقود، وهذه الحقبة وما بعدها أنتجت أدبًا معنيًّا بالفكرة مقدمة إياها على الشكل، الأمر الذي أعطى انطباعًا ما أنه أدب ذهني نمطي صعب شأنه شأنه الفلسفة الألمانية. أما ترجمة التراث الاستشراقي الألماني فقد خفتت حركته بعد حقبة الأساتذة الكبار الدكتور عبد الحليم النجار والدكتور رمضان عبد التواب، اللذين ترجما أعمالًا لبروكلمان وبرغشتراسر ويوهان فوك، وإن كنا نلمح حركة آخذة في الظهور شيئًا فشيئًا لإعادة المياه إلى مجاريها في هذا الشأن، خصوصًا بعد مزاحمة منافسين جدد من دول الخليج للقاهرة وبيروت في سوق الترجمة والنشر.
نريد أن نتعرف على إسهامكم في الترجمة، وأهم ما تحرصون عليه في الترجمة.
بلغ إنتاجي في الترجمة حتى الآن سبعة كتب موزعة بين النقد والرواية وأدب الناشئة والسيرة الذاتية؛ من أبرز هذه الأعمال: كتاب “مادلين الزائفة” للناقد وعالم النفس الألماني ميشائيل مار، والكتاب سياحة وقراءة في عالم الأدب، كتبًا وشخصيات، من منظور عالم نفس. كذلك ترجمت روايتين من الأدب النمساوي، الأولى “يوم كان جدي بطلًا”، للروائي النمساوي باولوس هوخغاترير، وهي رواية تدور أحداثها في أجواء الحرب العالمية الثانية من منظور فتاة صغيرة، استخدم فيها الكاتب تكنيكًا جديدًا غير معهود في كتابة الروايات. والعمل الروائي الآخر للأديب الأشهر في تاريخ الأدب النمساوي بيتر هاندكه الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 2019، بعنوان “حكاية طفلة”، وهو عمل جامع بين العمل القصصي والسيرة الذاتية، وقد أودع فيه الكاتب الكثير من فلسفته الحياتية وتأملاته الذاتية. كذلك ترجمت عملًا نادرًا للمستشرق الألماني كارل بروكلمان، بعنوان “حديث الذكريات”، وهي سيرة ذاتية لها سيكشف لنا من خلالها خبايا الأكاديمية الألمانية، والملابسات التي أحاطت ببعض أعماله العلمية. وأعكف الآن على إنجاز عمل سيكون مفاجأة من التراث الاستشراقي الألماني، أرجو أن يكون درة أعمالي المترجمة.
الترجمة ميلادٌ ثانٍ للنص.. وإبداع على إبداع
أما عن الترجمة فأراها- كما عبرت ذات مرة- سياحة في عالَمَيْ ما بين يَدَيْ النصِّ الأصلي، وما خلفه، ورحلة في فضاء المعاني والأفكار، لاستقصاء ما دق منها، وما جلّ. الترجمة محاولة لاختراق حواجز النص العصيّ، ومعالجة لأحاجيه وألاعيبه اللُّغوية، وإصغاء إلى الأصوات المنسكبة منه، حتى لتلك لأصوات الواهنة المخنوقة فيه. الترجمة ترحيل للأفكار والمعاني من عَتَمات “التَّصوّر” ومتاهاته، إلى نور “الصّورة” وإشراقاتها. الترجمة خوض في بحر اللغة اللُّجِّي؛ لاصطياد الأفكار والمعاني جليّةً كانت، أو خفيّةً؛ فهي الميلاد الثاني للنص، أو هي استيلادٌ له من رحم لغته الضيق- فيما يتراءى للواقف على الضَّفّة الأخرى- إلى فضاء لغة الأم الرَّحْب، مُتَخَلِّيًا عن غُربته، وغرابته، وحالًّا من جديد في لغة حية نابضة، تتنفس بهاءً. الترجمة إبداع على إبداع.
صحيح أن الألمانية لغة ذكية، لكني أزعم أن العربية أذكى. وعلى الرغم من البون الشاسع بين اللغتين مَحْتِدًا ونظامًا، فإنه يجمع نظاميهما- على نحو ما- فلسفة واحدة، ومنطق قريب؛ فكلتاهما لغة مُعْرَبةٌ. والإعراب لا يتجلى إلا في لغات عاقلة مُلْهِمة. لذلك ما كان للعربية ألا تَسَعَ نصًّا وَعْرًا كهذا النص، بل هي قادرة كل القدرة على أن تؤديَه كما لو كان قد أُنْشِئَ خلقًا جديدًا.
ولسنا هنا في سياق التدليل على قدرات العربية الهائلة في التعامل مع النصوص الصعبة؛ فقد كَنَزَت، خلال تاريخ سحيق أربى على خمسة عشر قرنًا، طاقاتٍ هائلةً تراكمت في طبقات زمنية شفافة، بحيث لا تحجب طبقة أختها؛ فلا تسقط منها كلمة، ولا يجفوها- أو يستعصي عليها- معنى؛ فصارت تعبِّر بالحقيقة التي تروم، وبالمجاز الذي تروم، وبالوضوح الذي تروم، وبالغموض الذي تروم؛ فهي لغة مُحْتَرِفة تجيد النقل عن صاحبها في مختلف أحواله ومقاماته.