قال د. عماد عبد اللطيف، أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بجامعة القاهرة وجامعة قطر، إن “الذكاء الاصطناعي” يمثل أكثر التحديات الحالية جسامة بالنسبة لعلم البلاغة؛ فخلال الأعوام القليلة الماضية فَرَض “الذكاء الاصطناعي” على البلاغيين التفكيرَ الجذري في تصوراتهم الأساسية بشأن البلاغة، بعد أن أصبحت الحواسيب قادرة على إنتاج نصوص بليغة يصعب تمييزها عن نصوص البشر، وأصبح البشر الآليون قادرين على أداء النصوص البليغة أداءً يصعب تمييزه عن أداء البشر العاديين، وباستطاعة برامج التحليل البلاغي الحاسوبي الآن تحليل النصوص البليغة، والتعرف على أساليبها وطرق الإقناع والتأثير فيها بدقة قد تفوق الإنسان العادي.
وأشار أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب إلى أن البلاغات العربية الجديدة تسعى إلى إنجاز تحول جذري في إدراك أهمية البلاغة لجميع أفراد المجتمع، بمن فيهم المثقفون؛ فهذه البلاغات تُعنى بأنواع واسعة الانتشار من الخطابات المعاصرة، مثل الصور ومقاطع الفيديو والخطابات الرقمية؛ كما تُلح على ضرورة تطوير مقاربات نقدية تتجاوز وصف النصوص وتحليلها والتعرف على أساليبها، إلى مساءلة هذه النصوص ونقدها.. فإلى الحوار:
لماذا بدت البلاغة العربية “ميتة” لدى البعض؟
القول بوفاة العلوم ينتج عادة عن ظن بأنها إما فقدت وظيفتها، أو اختفت مادة دراستها فلم تعد هناك حاجة لها، أو فقدت استقلالها، واندمجت في علم آخر أكبر، أو فقدت جدارتها المعرفية، فتحولت إلى معرفة زائفة منقرضة، أو غيرها. لدينا حالات لعلوم انقرضت بالفعل، مثل الخيمياء، لكن لدينا حالات أكبر بكثير لدعاوى موت العلوم، مثل موت البلاغة، وموت النقد الأدبي، وموت الفلسفة، وموت التاريخ، وغيرها.
لقد عرضتُ دعاوى القائلين بموت البلاغة في مفتتح كتابي (البلاغة العربية الجديدة: مسارات ومقاربات، كنوز المعرفة، 2021)، وفنَّدتها. وما يمكن إضافته هنا، أن دعاوى موت البلاغة تنتشر في الشرق والغرب، وتتوجه إلى البلاغة بوصفها علمًا، والبلاغة بوصفها مادة على حد سواء. كما أن دعاة موت البلاغة نادرًا ما يقدِّمون أدلة ملموسة على موتها أو مخاطر موتها، ونصوصهم أقرب إلى الدعاوى غير المبرهن عليها منها إلى الحقائق المثبتة.
يجب التمييز بين دعاوى “موت البلاغة” والانتقادات الموجهة للعلم بالجمود
وفي الحقيقة، فإن كثيرًا من هذه الدعاوى غير جدير بأن يؤخذ على محمل الجد من منظور علمي. ومع ذلك، فلا تُعدم هذه الدعاوى فائدة تحفيز التفكير المتواصل في أهمية البلاغة، وجدارة البحث فيها. لا سيما في الثقافة العربية التي تشغل البلاغة فيها مكانة ربما لا تحظى بها في أية ثقافة أخرى.
تستمد البلاغة العربية مكانتها الاستثنائية في السياق العربي من أمرين؛ الأول: ارتباطها الوثيق بالدين، والثاني: ارتباطها بالتصورات الذاتية للعرب عن أنفسهم، بوصفهم أهل بلاغة بالأساس. ولم يحل ذلك دون ظهور دعاوى موت البلاغة العربية، بسبب ظاهرة الصوت والصدى، التي جعلت قطاعًا كبيرًا من الباحثين العرب يرددون المقولات الغربية بشأن البلاغة، على الرغم من الاختلاف الجذري بين البلاغة العربية والريطوريقا الغربية. وربما ترجع جُل دعوات موت البلاغة في العالم العربي إلى هذا التأثر بالدعاوى الغربية المماثلة.
هل للمناهج وطرق التدريس دخل فيما أصاب الدرس البلاغي من جمود؟
هذه ملاحظة مهمة. هناك بالفعل عوامل أدَّت إلى ما يصفه الباحثون بجمود الدرس البلاغي. ويجب التمييز في البداية بين دعاوى موت البلاغة التي تشير إلى فقد العلم لمبررات وجوده، وبين الانتقادات الموجهة للعلم بالجمود نتيجة غلبة التقليد وضعف الاستجابة لمتغيرات العصر، وغيرها.
وعادة ما يوجَّه الاتهام بالجمود إلى البلاغة التعليمية التي حافظت على إرث مدرسة شراح التلخيص في صيغتها القزوينية، بعلومها الثلاثة (البيان والمعاني والبديع) وهيكلة أبوابها، ومسائلها.
بالطبع، جرت محاولات مهمة لتيسير تدريس بلاغة الشروح؛ بحذف بعض فصولها، وتحديث أمثلتها، لكنها ظلت مهيمنة على تدريس البلاغة في مسائلها وقضاياها وطرق تدريسها التلقينية وغيرها. وكان اتهام البلاغة العربية بالجمود استجابة ناقدة لهذه الهيمنة.
أما البحث الأكاديمي في البلاغة العربية، فقد عرف تطورات جذرية منذ العقد الثاني من القرن العشرين. وخلال أكثر من مائة عام ظهرت دعاوى ومشاريع شتى تدعو إلى بلاغات عربية جديدة.
ما المقصود بالبلاغة العربية الجديدة؟
“البلاغة العربية الجديدة” مظلة تجتمع تحتها مشاريع علمية ومسارات بحثية أدركَت نفسها بأنها “بلاغات جديدة” مقارنة بالبلاغة العربية التراثية. ولا يعني الوصف بالجدة انقطاع الصلة بين هذه البلاغات والإرث البلاغي العربي الذاخر؛ فمعظم البلاغات العربية الجديدة تبني على التراث، وتضيف إليه إضافات جذرية، تُغيِّر من وظائف البلاغة القديمة أو أسئلتها أو مدوناتها أو علاقاتها المعرفية الأساسية.
مسارات البلاغة الجديدة تنشأ استجابة لتحديات وحاجات متنوعة
ومن الضروري النظر إلى أن القِدَم والجِدَّة هنا، يجمع بين الوصفين الزمني والمعرفي؛ فالزمن وحده ليس المعيار في تحديد “البلاغة الجديدة”.
ما العوامل التي أدت إلى ظهور البلاغات الجديدة؟
هناك عوامل عديدة لظهور البلاغات العربية الجديدة منها أثر رجع صدى البلاغات الجديدة في الغرب، والمراجعة الناقدة للتراث البلاغي العربي في ذاته. أما العامل الثالث فهو التحولات الجذرية في فضاءات إنتاج الخطابات البلاغية وتداولها وتوزيعها، وفي خصائص بناء هذه الخطابات ووظائفها.
وأخيرًا يأتي عامل متصل بالتحديات الحضارية والثقافية التي واجهها العرب في القرن الأخير، والتي جعلتهم يعيدون النظر في حزمة العلوم الإنسانية والاجتماعية المساعدة على مواجهة هذه التحديات، ومنها بالطبع علم البلاغة.
وهذا يعني أن نشأة البلاغات الجديدة متأثرة بعوامل معرفية داخلية، وعوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية، وتحولات تقنية ومادية خارجية. ويعني هذا أيضًا أنه يجب التمييز في هذه العوامل بين ما هو محلي عربي، وما هو كوني تشترك فيه البلاغة العربية مع البلاغات الأخرى. ويظهر هذا في مسارات البلاغة العربية الجديدة؛ التي تتقاطع مع بلاغات (غربية) جديدة في بعض الأحيان، وتستقل عنها في أحيان أخرى.
وما أهم المسارات التي تسلكها هذه البلاغات العربية الجديدة؟
كما أشرتُ، يمكن التمييز بين بلاغات عربية جديدة ظهرت بفضل التأثر بالمنجز البلاغي الغربي بالأساس؛ مثل البلاغة المعرفية، والبلاغة المرئية، والبلاغة عبر الثقافات، والبلاغة الرقمية؛ وبلاغات عربية تمثل استجابة لتحديات عربية خاصة مثل فن القول، وبلاغة الجمهور.
كما يمكن التمييز بين البلاغات الجديدة استنادًا إلى علاقتها بالبلاغات القديمة؛ فالبلاغة المرئية تُعدُّ استجابة للتحول الجذري في ماهية المادة البليغة التي تجاوزت اللغة المنطوقة والمسموعة لتضم الصورة والحركة، أما البلاغة الرقمية فهي استجابة معرفية للتحولات الجذرية في فضاءات تداول الخطابات البلاغية، والانتقال من الفضاءات الحقيقية إلى الفضاءات الرقمية.
البلاغيون الجدد” نجحوا في البرهنة على أن علم البلاغة علم حياتي
وعلى النحو ذاته، فإن اتساع دوائر التواصل بين أفراد من ثقافات مختلفة كان محفزًا على تدشين البلاغة عبر الثقافات. كما كان اتساع الأدوار التي يقوم بها المخاطَبون في التواصل المعاصر وأهميتها محفزًا على نشأة بلاغة الجمهور.
وهكذا، فإن مسارات البلاغة الجديدة العربية والغربية تنشأ استجابة لتحديات وحاجات متنوعة.
ما أهمية العمل على بلاغة عربية جديدة؟
لقد نجح البلاغيون الجدد في البرهنة على أن علم البلاغة علم حياتي، يُنجِز وظائف شديدة الأهمية في مجتمعاتنا المعاصرة، وانتقل هذا الإدراك لأهمية علم البلاغة من المختصين والأكاديميين إلى البشر العاديين؛ فالبلاغات الجديدة هي استجابات معرفية للتحديات التي تواجه مجتمعاتنا بلاغيًا.
ولكي أوضح ضرورة بذل جهود أكبر في تطويرها، أشير فحسب إلى أكثر التحديات الحالية جسامة وهو ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، فخلال الأعوام القليلة الماضية فرض الذكاء الاصطناعي على البلاغيين التفكير الجذري في تصوراتهم الأساسية بشأن البلاغة؛ لقد أصبحت الحواسيب قادرة على إنتاج نصوص بليغة يصعب تمييزها عن نصوص البشر، وأصبح البشر الآليون قادرين على أداء النصوص البليغة أداءً يصعب تمييزه عن أداء البشر العاديين، وباستطاعة برامج التحليل البلاغي الحاسوبي الآن تحليل النصوص البليغة، والتعرف على أساليبها وطرق الإقناع والتأثير فيها بدقة قد تفوق الإنسان العادي.
البلاغات العربية الجديدة تهدف إلى ترسيخ أهمية البلاغة لجميع أفراد المجتمع
وقد وضع هذا التطور علم البلاغة في مأزق كبير؛ فهذا العلم نشأ وتطور لأداء هذه المهام تحديدًا، ويعني هذا التطور أن البشر القادرين على الوصول إلى الحواسيب والبرامج الذكية لن يعودوا بحاجة إلى تعلم البلاغة لأجل إنتاج كلام بليغ، أو إتقان سبل أدائه، أو تعلم كيفية تحليله. فالحاسوب سيوفر الكلام والأداء والتحليلات معًا، والبشر لن يعودوا ضروريين أصلاً للقيام بمهام بلاغية تقليدية مثل إلقاء خطاب أو تقديم حفل أو أداء مراسم دينية؛ فالحاسوب يستطيع خلق صورة شخص شبيه بالحقيقي، قادر على أن يقوم بهذه المهام، على نحو ما نرى يومًا بعد يوم.
لقد فتح الذكاء الاصطناعي أبواب الجحيم على علم البلاغة بحق. ويزداد هذا الشعور إذا نظرنا إلى المخاطر البشعة للذكاء الاصطناعي حين يسيطر مالكوه على وسائل التواصل الافتراضي، ويتحكمون كلية في سوق إنتاج الكلام البليغ وتداوله في العالم. وقد رأينا كيف يُستعمل الذكاء الاصطناعي لتكميم أفواه المدافعين عن القضية الفلسطينية العادلة، في المقابل يُغرق الذكاء الاصطناعي العالم في رسائل مصطنعة مضللة تخدم مالكيه في مساعيهم غير الإنسانية وغير الحميدة.
وإزاء جميع هذه التحديات يتعين على الباحثين العرب التفكير في مستقبل البلاغات الجديدة، بأدواتهم التي تبدو محدودة مقارنة بالسيطرة الرقمية الغربية، لكنها فاعلة في تعظيم الإفادة من البلاغة في عالم جديد، وتقليل مخاطرها. ولعل بلاغة الجمهور تحديدًا تقوم بدور مهم في مواجهة هذه السيطرة.
كيف هي علاقة الاتصال أو الانفصال بين البلاغة العربية القديمة والجديدة؟
كما أشرتُ سابقًا، فإن العلاقة بين البلاغات العربية القديمة والجديدة مُركبة؛ فهي علاقة تراكم وإضافة من ناحية، وعلاقة تجاوز ومغايرة من ناحية أخرى. فالبلاغات الجديدة لا تزيح البلاغات السابقة عليها، ولا تقوِّضها، ولا تقلل من أهميتها وقيمتها.
على العكس من ذلك، فإن البلاغات العربية الجديدة تفيد إفادات جمَّة من التراث البلاغي العربي الذاخر، سواء في قوائم تصنيفات الأساليب الدقيقة الشاملة، أو في التراث الهائل من التحليلات البلاغية، أو في الأفكار والنظريات المفسرة لبلاغة النصوص والخطابات.
البلاغات العربية القديمة والجديدة بينها علاقات تراكم وإضافة.. وتجاوز ومغايرة
ومن ثمَّ، يتعين على المشتغلين في البلاغات التقليدية ألا يشعروا بأي تهديد من البلاغات الجديدة؛ لأن الحاجة إلى التراث البلاغي ودراسته ستظل قائمة، كما يتعين على المشتغلين بالبلاغات الجديدة التعمق في معرفتهم بالتراث البلاغي العربي؛ لأنه لا يمكن لهم إنجاز بحوث جيدة في البلاغة الجديدة دون الإفادة من هذا التراث.
البلاغة وتحليل الخطاب.. ما العلاقة؟ ولنبدأ بالمقصود من “تحليل الخطاب”.
تحليل الخطاب مصطلح يشير إلى مفاهيم متنوعة؛ منها تحليل الوحدات اللغوية الأكبر من الجملة، بهدف وضع قواعد لها، شبيهة بالقواعد التي يضعها علم النحو لتراكيب الجملة، والقواعد التي يضعها علم الصرف لأبنية الكلمة، ومنها تحليل العلاقات بين النصوص، والتفاعلات بينها، ومنها تحليل عمليات إنتاج الخطاب وتداوله وتوزيعه وتلقيه، ومنها تحليل العلاقة بين النصوص وسياقات إنتاجها، والفاعلين فيها.
والعلاقة بين البلاغة وتحليل الخطاب مركبة؛ فتحليل الخطاب يتقاطع مع التحليل البلاغي في العناية بالعلاقة بين النص البلاغي والموقف أو السياق الذي يُنتَج ويُتداول فيه. كما يتقاطع الحقلان في اهتمامهما بكيفية إحداث الخطابات للتأثير في المخاطَبين بواسطة الحجج والمجازات. كما يتقاطعان في عنايتهما بوظائف الخطاب وآثاره. في المقابل، يختلف الحقلان في وظيفتيهما وأسئلتهما الرئيسة وعلاقاتهما المعرفية. فالبلاغة معنية بالأساس بأبعاد الإقناع والتأثير والجماليات في النصوص.
إلى أي مدى تستفيد البلاغة العربية الجديدة من البلاغات الحديثة خارج نطاق اللسان العربي؟
دعني أبدأ أولاً بالإشارة إلى أمرين؛ الأول: أن علم البلاغة جزء من المشترك الإنساني العام. فلكل ثقافة بلاغتها، ولكل لغة بلاغتها. وعلى مدار آلاف السنين تراكمت إسهامات شتى لأمم شتى في بناء هذا العلم. أما الأمر الآخر، فيتصل بالمركزية الغربية في التأريخ للبلاغة: فقد سعى جُل علماء البلاغة الغربيين إلى احتكار علم البلاغة، وتزييف الوعي بتاريخه، وتجاهل الإسهامات المهمة السابقة على البلاغة الغربية، أو اللاحقة عليها، وتقديم العلم على أنه غربي خالص. لكن حركة تصحيح تاريخ البلاغة، ومناهضة المركزية الأوروبية العنصرية بشأنه، وإزالة تراب التجاهل عن الإسهامات المهمة للبلاغات غير الغربية تكتسب مزيدًا من الاهتمام خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
وقد حرصتُ في مفتتح كتابي (البلاغة العربية الجديدة: مسارات ومقاربات) أن أشير إلى مخاطر المركزية الغربية في التأريخ لعلم البلاغة، وأن أقترح موضوعات بحثية شتى تهدف إلى استكشاف العلاقة بين البلاغة العربية والبلاغات غير الغربية، لا سيما البلاغات المشرقية، التي توطدت الصلات بينها وبين البلاغة العربية؛ مثل البلاغات الفارسية والهندية والصينية والسريانية والمصرية القديمة وغيرها.
الغربيون سعوا إلى احتكار علم البلاغة وتزييف الوعي بتاريخه وتجاهل الإسهامات الأخرى
أما فيما يتعلق بسؤالك المهم، فمن المؤكد أن التلاقح المعرفي بين البلاغة العربية وغيرها من البلاغات يُسهم في تطورها وتجديدها. ومن الضروري في هذا السياق الإشارة إلى أن البلاغة العربية عرفت طوال تاريخها أشكالاً متنوعة من التفاعل مع بلاغات الأمم الأخرى. ورأينا أثر صحيفة بهلة وأثر البلاغات الفارسية والهندية والسريانية في نشأة البلاغة العربية، على نحو ما يتضح في أعمال الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب وغيرهم.
وعلى نحو مشابه، فإن البلاغة العربية الجديدة تَثرى بهذا التلاقح المعرفي المهم. ولتحقيق ذلك، يتعين على الباحثين العرب أن يعقدوا صلات معرفية مع نظرائهم من البلاغيين غير الغربيين خاصة. وبقدر ما يمكن للبلاغة العربية الجديدة أن تثرَى بفضل هذا الاحتكاك، فإن لديها ما يمكنها أن تقدمه للبلاغات غير العربية جميعًا، بفضل ثراء التراث البلاغي العربي من ناحية، وثراء الإسهامات العربية الراهنة من ناحية أخرى.
ما أهمية تطوير الدرس البلاغي في إثراء الفكر المعاصر، لاسيما لدى المثقف غير المتخصص؟
هذا سؤال مهم للغاية، فالبلاغة قديمًا كانت جزءًا من عدَّة المتعلم، يحتاج إليها كي يتحدث ببراعة، ويكتب بمهارة، ويفهم جماليات النصوص؛ فيدرك أسرار إعجاز القرآن، ويتذوق الشعر، وهلم جرا. ثم جرى أن جُرِّد تدريس البلاغة من وظائفه الحياتية، وتحوَّل إلى قوائم مصطلحات وتعريفات وشواهد محفوظة، وأنشطة تَعَرُّف وتحليل مُمَيكنة. فبدا أن البلاغة لا تُثري دارسها، ولا تُضيف إلى المتعلم والمثقف شيئًا.
وما تسعى إليه البلاغات العربية الجديدة هو إنجاز تحول جذري في إدراك أهمية البلاغة لجميع أفراد المجتمع، بمن فيهم المثقفون. فمن ناحية تُعنى هذه البلاغات بأنواع واسعة الانتشار من الخطابات المعاصرة؛ مثل الصور ومقاطع الفيديو والخطابات الرقمية. ومن ناحية أخرى تُلح البلاغات الجديدة على ضرورة تطوير مقاربات نقدية تتجاوز وصف النصوص وتحليلها والتعرف على أساليبها، إلى مساءلة هذه النصوص ونقدها.
وتأخذ بلاغة الجمهور وظيفة البلاغة خطوة أبعد في اتجاه غير تقليدي؛ يتصل بتمكين الأفراد العاديين، بمن فيهم المثقفون، من إنتاج استجابات بليغة مضادة للخطابات البلاغية التي تمارس ظلمًا اجتماعيًّا؛ فتتحول البلاغة إلى أداة خطابية في يد الأفراد العاديين، تمكِّنهم من مقاومة ما يتعرضون له من خطابات سلطوية.