حينما تتزين الدنيا للناس وتُظهِر مباهجها ومفاتنها؛ ينخدعُ أهلُ الغفلة بها وتغرُّهم زينتُها ويركنون إليها حتى تَشغلهم عن أُخراهم؛ بينما يقف أهلُ الإيمان صامدين أمامها، ثابتين على مبادئهم لا تغرّهم الفتنُ، ولا تؤثّـر فيهم زخارفُ الدنيا، بل هم على العكس من ذلك؛ إِذْ يقلِبون هذه الزخارفَ والمفاتنَ إلى عوامل تثبيت، ووسائل تذكير؛ تذكِّرهم المصيرَ الأخير، وترغِّبهم في نعيم الجنة المقيم، فالمَشاهد واحدة، والصور هي هي! لكنها فتنةٌ للغافلين الجاهلين، وتثبيتٌ للمتقين المؤمنين [1].

من هنا كان من مقاصد القرآن وأهدافه السامية الراقية؛ ربطُ الدنيا بالآخرة، والتذكير بالمعاد، والاهتمام بالحقائق والمقاصد ومنتهى الأمور، والعبور بالمشاهد الحسيّة الملموسة إلى مشاهد معنوية روحية وفكرية؛ تنفع العبد في آخرته ودينه، وهي من الأمور التي متى ما اهتم العبدُ بها وتمرّس عليها فإنها ترتقي به في شعوره وتفكيره؛ فيعيش بين الناس بجسده، ويأكل معهم ويشرب شربهم، يرى ما يرون، ويسمع ما يسمعون؛ لكنه يحلِّق بروحه وفكره وخياله الزّاكي فوق السماء، ويَسْرح ويَمرح في عالَمٍ آخر، ومَسْرحٍ فريد.

تنوعت المشاهد القرآنية التي تنمِّي في نفس المؤمن هذا الحسّ، وهي كثيرة لا يمكن عدُّها ولا حصرُها، ومن الآيات التي أشارت إلى هذا المعنى بصورة مجملة قولُه تعالى في محكم كتابه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الكهف: 7]، وذلك بأنْ حسّنَه في العيون، وأبهج به النفوس، وكُلُّ ذلك لحكمة وغاية واحدة، حيث قال: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، أي: أيهم أصلحُ عملًا، وقيل: أيهم أترَكُ للدنيا.

وجاء في معنى هذه الآية عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: تلا رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم– هذه الآية: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا}، فقلتُ: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: «ليبلوكم أيّكم أحسن عقلًا وأورع عن محارم الله، وأسرعكم في طاعة الله»[2].

ومن الآيات المجملة أيضًا: قوله تعالى في سورة ق: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[ق: 6، 7]، ثم ذكر الحكمة العظمى والغاية القصوى من ذلك فقال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}[ق: 8]، قال ابن كثير: «ومشاهدة خلق السماوات والأرض، وما جعل الله فيهما من الآيات العظيمة تبصرة ودلالة وذكرى لكلّ عبدٍ منيب، أي: خاضع خائف وَجِل رَجَّاع إلى الله»[3].

فهي إذًا تربية القرآن لنا أن ننظر بعينٍ أُخروية سماوية إلى كلّ مباهج هذه الدنيا وزينتها لِتنقلبَ إلى أداة تذكِّرنا بالآخرة، والجنة، والنار؛ فَنَجِدَّ في العمل ونُسارع إلى الخيرات؛ لنكون مِن أَحسَنِ الناس عملًا.

وفي السُّنة كذلك نلحظ اغتنامه -صلى الله عليه وسلم- لبعض المواقف العابرة ليغرس هذا المفهوم في نفوس أصحابه، ويعبُر بهم من خلال مشاهدات سطحية ليرسِّخ مفاهيم عميقة قويمة تنقلهم من الدنيا إلى الآخرة؛ من ذلك ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرَّ بالسُّوق داخلًا من بعض العالية، والناسُ كَنَفَتَهُ [أي: جانبه]، فمَرّ بجَدْيٍ أَسَكَّ [أي: صغير الأُذنين] ميِّتٍ، فتناوله فأخذ بأُذنِه، ثم قال: «أيُّكم يحبّ أنّ هذا له بدرهم؟» فقالوا: ما نحبّ أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! قال: «أتحبون أنه لكم؟» قالوا: واللهِ لو كان حيًّا كان عيبًا فيه لأنه أسَكُّ، فكيف وهو ميّت؟! فقال: «فوالله لَلدنيا أهون على الله من هذا عليكم»[4].

ومَن تَتَبَّعَ القرآنَ والسُّنة فإنه سيتحصّل له من هذا الشيء الكثير.

وسأكتفي هنا بذكر بعض الأمثلة من القرآن الكريم فقط، والتي أشارت إلى هذا الأصل صراحةً، وبعبارات واضحة جلية، والله وحده المعين، وهو حسبي ونعم الوكيل.

1- النار:

تأمّلْ معي في سورة الواقعة عند ذِكر ربِّنا -عز وجل- بعضَ نِعَمه وامتنانه بها علينا، وعدّ منها النار، فقال: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}[الواقعة: 71]، ولو سألنا عن فوائد هذه النار، ولماذا خلقها اللهُ وعَدّها من نِعَمه التي يمتنّ بها علينا؟ فبِمَ سنجيب؟ إنّ جواب القرآن عن أهمية هذه النار التي بين أيدينا لمدهش حقًّا حين يبدأ بذكر فائدة معنوية دينية، ويقدّمها على الفائدة الحسية الملموسة والتي تسبق إلى خاطر كلّ من سُئل عن فائدة النار؛ حيث يقول: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً}[الواقعة: 73]، أي: لنتذكر عند رؤيتها نار الآخرة، فإذا رآها الرائي ذكَر نار جهنم وما يُخاف من عذابها فاستجار بالله منها، قال مجاهد، وقتادة: «أي: تُذَكِّر النارَ الكُبرى»[5]، وقال عطاء: «موعظة ليتعظ بها المؤمن»[6].

ثم ذكر بعدها الفائدة الحسية الملموسة فقال: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ}[الواقعة: 73]، قال مجاهد: «أي: للحاضر والمسافر، لكلّ طعام لا يصلحه إلا النار، وقيل: للمستمتعين، أي: الناس أجمعين»[7].

سلْ نفسك؛ هل فكرت يومًا أن تقتني موقدًا، أو توقد نارًا، أو تنظر إلى نار مشتعلة لتتذكر بها نار الآخرة؟ إنّ القرآن أراد منك أن تَعْبُر بخاطرك وشعورك من خلال مشاهدة نار الدنيا لترى نار الآخرة، فتستعيذ بالله منها وتجِدّ في الفرار منها.

2- اللباس:

لـمّا ذكر اللهُ اللباسَ وذكَّر بنعمته علينا في ستر عوراتنا به: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا}[الأعراف: 26]، أَتْبَعَهُ بذكر اللباس الحقيقي للروح قبل الجسد، فقال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}[الأعراف: 26]، وللمفسرين في لباس التقوى عشرة أقوال أوردها ابن الجوزي في زاد المسير[8]:

أحدها: أنه السّمْت الحسَن، قاله عثمان بن عفان.

والثاني: العمل الصالح، قاله ابن عباس.

والثالث: الإيمان، قاله قتادة، وعلى هذا، سُـمّي لباس التقوى؛ لأنه يقي العذاب.

والرابع: خشية الله تعالى، قاله عروة بن الزبير.

والخامس: الحياء، قاله معبد الجهني، وابن الأنباري.

والسادس: ستر العورة للصلاة، قاله ابن زيد.

والسابع: الدرع، وسائر آلات الحرب، قاله زيد بن عليّ.

والثامن: العفاف، قاله ابن السائب.

والتاسع: أنه ما يُتَّقى به الحرّ والبرد، قاله ابن بحر.

والعاشر: أن المعنى: ما يَلْبَسه المتقون في الآخرة خيرٌ مما يلبسه أهل الدنيا، قاله عطاء.

تأمل كيف يرتقي بك القرآن لتتجاوز مجرّد الستر الظاهري للجسد بقطعة قماش تبلى وتتغير إلى سترٍ أعمق وأجدر بالاهتمام يستر الروح والجوهر بلباس التقوى والإيمان والعفة والحياء والخشية والسّمْت الحسَن والخلُق الرفيع.

تذكّرْ وأنت ترتدي ثيابك وتستر سوأتك، أنك ربما تكون عاريًا بتجردك عن لباس التقوى بكبيرة ارتكبتَها، أو سيّـئة اقترفتَها، أو حرام أكلتَه، أو فرض أهملتَه، أو فضل تركتَه؛ عندها ستبادر إلى الاستغفار والتوبة ليكتمل سترك وتحلُو صورتك.

من هنا يربّي القرآنُ أهلَه على الاهتمام بمآلات الأمور ومقاصدها وغاياتها، ويصحّح قلوبهم وعقولهم، ويوسّع مداركهم؛ بينما يعبث غيرهم بالقشور والمظاهر الخادعة والصور الزائفة.

3- زاد المسافر وقُوتُه:

قال ابن عباس: كان ناس يحجُّون بغير زاد، فأنزل الله: {وَتَزَوَّدُوا}[البقرة: 197]، قال ابن عمر: «أُمِرُوا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسَّوِيق»[9]. ومع الأمر بالتزود عند السفر للحج أو غيره وبالأخذ بأسباب النجاة لقطع مفازة الطريق ليصل المسافر إلى مقصوده ومبتغاه، ذكّر الله عباده بوجوب الأخذ بالزاد الحقيقي لكلّ مسافر من هذه الدنيا إلى الآخرة فقال: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[البقرة: 197].

قال ابن كثير: «لـمّا أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها»[10].

وقيل: هو إخبار بأن خير الزاد اتقاء المنهيات، فكأنه قال: اتقوا الله في إتيان ما أمركم به من الخروج بالزاد، فإنّ خير الزاد التقوى، وقيل المعنى: فإنّ خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة، والحاجة إلى السؤال، والتكفف[11].

إنّ التقوى هي الزاد الحقيقي للنجاة، وقطع مفازة الدنيا إلى الآخرة، وهو زاد القلوب؛ والأرواح منه تقتات، وبه تتقوى وترِفّ وتُشرق، وعليه تستند في الوصول والنجاة، وأولو الألباب هم أول مَن يدرك التوجيه إلى التقوى، وخير مَن ينتفع بهذا الزاد. عن جرير بن عبد الله، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «مَنْ يتزودْ في الدنيا يَنْفَعْه في الآخرة»[12].

فتأمل! كيف يلفت القرآنُ نظرَ المتزود لسفر الدنيا إلى الزاد الحقيقي لسفر الآخرة، ويحثّه على التزود بالتقوى ليخلط روحه وحسّه بزاد الآخرة فلا يُفارق خاطره وهاجسه، ولا يَكسل في التزود منه، ولا يتوانى ولا يضعف. وإلّا، فالهلاك مصيره.

4- السفر:

وهو شبيه بالمثال السابق؛ فحينما يركب المسافر دابته ويستوي عليها يُشرع له ذِكر دعاء ركوب الدابة: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}[الزخرف: 13]، وبصدد ذِكر السفر في هذه الدنيا ذكَّر اللهُ بالسفر الحقيقي منها إلى دار الآخرة، فقال: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}[الزخرف: 14]، أي: لمنصرفون في المعاد.

قال الآلوسي في روح المعاني: «وفيه إيذان بأن حقّ الراكب أن يتأمل فيما يلابسه من السير ويتذكر منه المسافرة العظمى التي هي الانقلاب إلى الله تعالى، فيبني أموره في مسيره ذلك على تلك الملاحظة ولا يأتي بما ينافيها، ومن ضرورة ذلك أن يكون ركوبه لأمر مشروع، وفيه إشارة إلى أن الركوب مخطرة فلا ينبغي أن يغفل فيه عن تذكُّر الآخرة»[13].

وقال صاحب الظلال: «هذا هو الأدب الواجب في حقّ المنعم، يوجهنا الله إليه؛ لنذكره كما استمتعنا بنعمة من نعمه التي تغمرنا، والتي نتقلب بين أعطافها ثم ننساه! والأدب الإسلامي في هذا وثيق الصلة بتربية القلب وإحياء الضمير، فليس هو مجرّد طقوس تزاول عند الاستواء على ظهور الفُلْك والأنعام، ولا مجرد عبارات يتلوها اللسان! إنما هو استحياء للمشاعر لتحسّ بحقيقة الله، وحقيقة الصلة بينه وبين عباده؛ وتشعر بيده في كلّ ما يحيط بالناس، وكلّ ما يستمتعون به مما سخّره الله لهم، وهو محض الفضل والإنعام، بلا مقابل منهم، فما هم بقادرين على شيء يقابلون به فضل الله ثم لتبقى قلوبهم على وجلٍ من لقائه في النهاية لتقديم الحساب؛ وكلّ هذه المشاعر كفيلة باستبقاء القلب البشري في حالة يقظة شاعرة حساسة لا تغفل عن مراقبة الله، ولا تجمد ولا تتبلد بالركود والغفلة والنسيان»[14].

فتأمل هنا! كيف يلفت القرآن نظر المسافر في الدنيا إلى السفر الحقيقي للآخرة ويحثّه على تذكّره ليختلط بروحه وحسّه فلا يُفارق خاطره وهاجسه، ولا يغفل عن السفر للآخرة طرفة عين.

5- تسخير الدواب للركوب:

حينما ذَكَر اللهُ في سورة النحل نعمته علينا بتسخير الدواب -من الأنعام ونحوها- للركوب والزينة، فقال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[النحل: 8]، ناسَب مع ذِكر تسخيرها لنا لنقطع بها الطريق ونسير بها لقضاء حوائجنا أن يذكّر بطريق الآخرة والنجاة الذي يسلُك بالمرء إلى الجنة، وهو طريق الحقّ والإسلام، فقال: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[النحل: 9]، قال ابن عباس: وعلى الله البيان، أي: تبيُّن الهدى والضلال[15].

قال ابن كثير: «لـمّا ذكر تعالى من الحيوانات ما يُسَار عليه في السُّبل الحسيّة، نـبّـه على الطرق المعنوية الدينية، وكثيرًا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية، ولـمّا ذكر في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها، التي يركبونها ويبلغون عليها حاجةً في صدورهم، وتحمِل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة؛ شرع في ذِكر الطرق التي يسلكها الناس إليه، فبيّن أن الحقّ منها ما هي موصلة إليه، فقال: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}، كما قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}[الأنعام: 153][16].

قال صاحب الظلال: «وفي معرض النقل والحمل والركوب والسير لبلوغ غايات محسوسة في عالم الأرض، يدخل السياقُ غاياتٍ معنويةً وسيرًا معنويًّا وطرقًا معنوية، فثمّة الطريق إلى الله، وهو طريق قاصد مستقيم لا يلتوي ولا يتجاوز الغاية، وثمة طرق أخرى لا توصل ولا تهدي، فأمّا الطريق إلى الله فقد كتَب على نفسه كَشْفها وبيانها: بآياته في الكون، وبرسله إلى الناس؛ وعلى الله قصد السبيل»[17].

وقال السعدي: «لـمّا ذكَر تعالى الطريق الحسّي، وأن الله قد جعل للعباد ما يقطعونه به من الإبل وغيرها؛ ذكر الطريق المعنوي الموصل إليه، فقال: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيل}، أي: الصراط المستقيم، الذي هو أقرب الطرق وأخصرها موصل إلى الله»[18].

5- الجبال والبشر:

لـمَّا ذكَر الله الجبال واختلاف ألوانها وأشكالها: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ}[فاطر: 27]، ناسَب أن يذكِّر بشبيه ذلك في البشر وغيرهم: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ}[فاطر: 28]، وهي لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب؛ لفتة تطوف في الأرض كلّها تتبع فيها الألوان والأصباغ في كلّ عوالمها؛ في الثمرات، وفي الجبال، وفي الناس، وفي الدواب والأنعام، لفتة تجمع في كلمات قلائل بين الأحياء وغير الأحياء في هذه الأرض جميعًا؛ وتدع القلب مأخوذًا بذلك المعرض الإلهي الجميل الرائع الكبير الذي يشمل الأرض جميعًا.

ثم ما المقصود من ذلك كلّه؟ إنهم جميعًا في مرتبة واحدة وإن اختلفت ألوانهم وأشكالهم، لا يفضل أحدهم على أحد كما لا تختلف الجبال وإن اختلفت ألوانها، إنما الذي يميزهم ويُفرِّق بينهم ويرفع بعضهم عن بعض هو خشية الله تعالى والعلم به: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}[فاطر: 28]، فتأمل كيف ينتقل بك القرآن وأنت غارق في التأمل في هذه اللوحة الفنية الجمالية من هذا الكون الفسيح، ويستغل هذا الشعور الرقيق، والحسّ المرهف ليغرس في نفسك قدر الخشية والخوف من الله تعالى، ولتعلم أن مدار التمايز والتفاضل عليها.

7- أصحاب الجنة:

حينما ذكَر اللهُ قصةَ (أصحاب الجنة) الذين منعوا الزكاة وحرموا المساكين والفقراء حقوقهم وكيف عذّبهم على ذلك بحرقها، كما في سورة القلم: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ}[القلم: 17]، إلى أن قال: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ}[القلم: 33]، أي: الدنيوي لمَن أتى بأسباب العذاب، بأن يسلبه اللهُ الشيءَ الذي طغى به وبغى وآثر الحياة الدنيا، وأن يُزيله عنه أحوج ما يكون إليه، وبعدها ناسَب أن يذكِّر عندها بعذاب الآخرة: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ}[القلم: 33]، أي: من عذاب الدنيا.

قال الثعالبي: «{كَذَلِكَ الْعَذَابُ}: كَفِعْلِنَا بأهل الجنة نفعلُ بِمَن تعدَّى حدودَنا، {وَلَعَذَابُ الأخرة أَكْبَرُ}، أي: أعظم مما أصابهم، إنْ لم يتوبوا في الدنيا»[19].

وقال السعدي: «{كَذَلِكَ الْعَذَابُ}، أي: الدنيوي لمَن أتى بأسباب العذاب، أن يَسلب اللهُ العبدَ الشيء الذي طغى به وبغى وآثر الحياة الدنيا، وأن يُزيله عنه أحوج ما يكون إليه، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ}، من عذاب الدنيا، {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، فإنّ مَن علم ذلك أوجب له الانزجار عن كلّ سبب يُوجب العذاب ويُحِلّ العقاب»[20].

فانظر كيف عبَر القرآن بهذا المشهد الحسي والحدث الحيّ والقصة الواقعية إلى مشهد معنوي روحي وهو عذاب الآخرة؛ ليربط الدنيا بالآخرة، وليتذكر كلّ مَن نال شيئًا من عذاب الدنيا، أنّ عذاب الأخرة أكبر.

8- نزول الغيث:

عندما ذكر الله في سورة النحل تنزيل القرآن من السماء وأنه هدًى ورحمة وحياة للقلوب فقال: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[النحل: 64]، أتبعه بذكر نزول الغيث من السماء؛ رحمةً للعباد، وحياةً للأرض والنبات والحيوان: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}[النحل: 65]، قال ابن كثير: «وكما جعل تعالى القرآنَ حياةً للقلوب الميتة بكفرها، كذلك يحيي اللهُ الأرضَ بعد موتها بما يُنزله عليها من السماء من ماء»[21].

9- إحياء الأرض الميتة:

وهو قريب من المثال السابق؛ فحينما حثَّ الله على التوبة والرجوع إليه والخشوع لِذكره، فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}، وحذَّر من قسوة القلب وموته: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[الحديد: 16]، رغَّبَ النفوسَ في التوبة وأعلَمَنا بأن القلوب الميتة ستَحْيَا كما أن اللهَ يحيي الأرض بعد موتها، فقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[الحديد: 17].

قال الآلوسي: «فهو تمثيلٌ ذُكِرَ استطرادًا لإحياء القلوب القاسية بالذِّكْر والتلاوة، بإحياء الأرض الميتة بالغيث؛ للترغيب في الخشوع، والتحذير عن القساوة»[22].

وقال أبو حيان في البحر المحيط: «هو تمثيلٌ لتليين القلوب بعد قسوتها، ولتأثير ذكر الله فيها، كما يؤثر الغيث في الأرض فتعود بعد إجدابها مخصبة؛ كذلك تعود القلوب النافرة مقبلة، يظهر فيها أثر الطاعات والخشوع»[23].

قال صاحب الظلال: «ولكن لا يأس من قلبٍ خَمدَ وجَمدَ وقسَا وتبلّد، فإنه يمكن أن تدبّ فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور، وأن يخشع لذكر الله؛ فالله يحيي الأرض بعد موتها، فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر، وتمنح الأكل والثمار؛ كذلك القلوب حين يشاء الله، وفي هذا القرآن ما يحيي القلوب كما تحيا الأرض، وما يمدّها بالغذاء والريّ والدفء»[24].

10- الطريق إلى النار:

لـمّا ذكر الله تعالى مآل المجرمين: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا}[الكهف: 53]، أي: لم يجدوا عن النار معدلًا إلى غيرها؛ لأن الملائكة تسوقهم إليها، ناسَب أن يذكِّر بما كان سيصرفهم عن النار لو أخذوا به، فقال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}[الكهف: 54]، أي: من كلّ طريق موصل إلى العلوم النافعة، والسعادة الأبدية، وكلّ طريق يعصم من الشر والهلاك؛ ففي القرآن أمثال الحلال والحرام، وجزاء الأعمال، والترغيب والترهيب، والأخبار الصادقة النافعة للقلوب؛ اعتقادًا، وطمأنينةً، ونورًا، وهذا كلّه يَصرِف المرء عن نار جهنم.

قال صاحب الظلال: «ولقد كان لهم عنها مصرِفٌ، لو أنهم صرفوا قلوبهم مِن قبلُ للقرآن، ولم يجادلوا في الحقّ الذي جاء به، وقد ضرب اللهُ لهم فيه الأمثال ونوّعها لتشمل جميع الأحوال»[25].

كانت هذه مجرد أمثلة، وتطبيقات عملية، تخلق بيننا وبين القرآن روحًا تفاعلية؛ فتلامس معانيه وإرشاداته حياتَنا العملية، وتسمو بمشاعرنا وأحاسيسنا فلا تنتهي عند الحدود المادية الأرضية؛ بل تتجاوزها لتعبُر بنا إلى معانٍ أخروية سامية. وهناك مئات الآيات التي نستطيع التفاعل معها بهذه الروح، والنظر إليها بهذه النفسية الإيمانية الراقية السامية، وذلك مثل آيات النعيم التي تَذكُر تفاصيل نعيم أهل الجنة وتصف حالهم، إِذْ إنَّ كلّ ما في هذه الدنيا من لذّةٍ ونعيم وسعادة وأُنس له ما يشابهه من نعيم أهل الجنة، فإذا حصل للمرء شيء من هذا في الدنيا تذكَّر نعيم أهل الجنة، فيجِدّ في العمل للوصول إليها، وقُلْ مثلَ ذلك في مشاهد البؤس والشقاء والنار؛ إِذْ تُذكِّر المرء بنار الآخرة فيستعيذ بالله من حرِّها ويسعى في الفرار منها.

وأخيرًا؛ فهذه دعوة للاهتمام بمقاصد القرآن العليا، وتوسيع الأفق والمدارك في التعامل مع القرآن، والاهتمام بمعالي الأمور ومنتهاها، والنظر إلى الدنيا من خلال القرآن وتوجيهاته، وربط الدنيا بالآخرة.

قال الرازي: «والمقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقريرُ أصولٍ أربعة: الإلهيَّات، والنبوّات، والمعاد، وإثبات القضاء والقدر»[26].


[1] نُشر هذا المقال بملتقى أهل التفسير بتاريخ 9/ 9/ 1431هـ، الموافق 18/ 8/ 2010م، وقد قمنا بتخريج الأحاديث الواردة في المقالة، وعزو النقولات إلى مواضعها، كما أضفنا العنوان الفرعي: (كيف رَبَط القرآن الكريم بين مشاهد الدنيا والآخرة؟) إلى عنوان المقالة؛ ليكون أكثر إبانة عن موضوعها، ويلاحظ أن المقالة فيها معنى طيب حاول الكاتب بيانه من إضفاء القرآن على بعض الأمور الحياتية لمسةً تُذكّر بالآخرة، إلا أن بعض أمثلتها ليست دقيقة في اتصالها بالموضوع. (موقع تفسير).
[2] أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 2006)، والطبري (12/ 335)، كلاهما من طريق داود بن المحبر، وهو متروك، اتهمه غير واحد بالكذب.
[3] تفسير ابن كثير، تحقيق: سامي محمد سلامة، ط. دار طيبة، (7/ 396).
[4] رواه مسلم (2957).
[5] تفسير ابن كثير (7/ 541).
[6] فتح القدير، الشوكاني، ط. دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب (5/ 190).
[7] تفسير ابن كثير (7/ 542).
[8] زاد المسير، ابن الجوزي، ط. دار الكتاب العربي – بيروت (2/ 110).
[9] تفسير الطبري، ط. دار هجر (3/ 494).
[10] تفسير ابن كثير (1/ 548).
[11] فتح القدير (1/ 231).
[12] رواه الطبراني في الكبير (1/ 231)، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. (مجمع الزوائد 10/ 311)، وضعّفه الألباني في ضعيف الجامع (5887).
[13] روح المعاني، الآلوسي، ط. دار الكتب العلمية (13/ 69).
[14] في ظلال القرآن، سيد قطب، د. دار الشروق (5/ 3180).
[15] تفسير الطبري (14/ 178).
[16] تفسير ابن كثير (4/ 560).
[17] في ظلال القرآن (4/ 2162).
[18] تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ط. الرسالة، ص436.
[19] الجواهر الحسان، الثعالبي، ط. دار إحياء التراث العربي – بيروت (5/ 469).
[20] تفسير السعدي (ص880).
[21] تفسير ابن كثير (4/ 580).
[22] روح المعاني، الآلوسي (14/ 181).
[23] البحر المحيط، أبو حيان، ط. دار الفكر (10/ 108).
[24] في ظلال القرآن، سيد قطب (6/ 3489).
[25] في ظلال القرآن (4/ 2275).
[26] مفاتيح الغيب، الرازي، ط. دار إحياء التراث العربي (20/ 231).