مرت المدونة برحلة طويلة بين المصنفات المؤسسة والشارحة والمختصرة والخادمة، ولكن يمكن إيجاز هذه الرحلة العلمية في كتاب يعد أساس المذهب المالكي في ست محطات علمية، هي الأبرز في تاريخ المدونة، وإن تخللتها محطات أكثر من المذكورة، وتلك المحطات هي:
- المدونة الأولى: ( الأسدية) أسد بن الفرات (ت:213هـ):
- المدونة الكبرى: سحنون عبد السلام بن سعيد (240هـ)
- رسالة ابن أبي زيد القيروان: (386هـ)
- التهذيب في اختصار المدونة الكبرى، خلف بن أبي القاسم البراذعي (ق:5).
- مختصر ابن الحاجب: (ت:646هـ)
- مختصر خليل: (749هـ).
تعريف المدونة:
المدونة كتاب يجمع آراء الإمام مالك المروية عنه والمخرجة على أصوله، وعلى آراء بعض أصحابه مع بعض الآثار والأحاديث التي وردت في مسائل الفقه المالكي، وتأتي في قيمتها بعد الموطأ للإمام مالك، وهي أصدق رواية وأعلى درجة من حيث سماعها وروايتها، وعليها الاعتماد في الفتوى عند علماء القيروان وتتألف المدونة من أسئلة وأجوبة على مسائل الفقه. وأهم تلخيص لها مختصر أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني (381هـ) ، (المسمى باكورة السعد أو رسالة ابن أبي زيد) ، واختصرها ابن البراذعي، وأول من شرحها ورتبها سحنون، وكتب ابن رشد الجد لها المقدمات الممهدات في مجلدين كبيرين.
المرحلة الأولى الأسدية:
هي المرحلة الأولى في تاريخ ( المدونة) في المذهب المالكي، على يد الفقيه المالكي تلميذ مالك: ( أسد بن الفرات) المتوفى: (213هـ).
وقصة الأسدية أن الفقيه الحنفي محمد بن الحسن الشيباني سأل الفقيه المالكي أسد بن الفرات عن بعض الفروع الفقهية الموجودة في المذهب الحنفي، وأراد جوابها من المذهب المالكي، فذهب أسد بن الفرات إلى الفقيه ابن القاسم بمصر، وعرض عليه تلك الأسئلة، فأجابه من حفظه عن مالك، وكان يقول له فيما يشك فيه:” إخال، وأحسب، وأظن”، بل من إجابات ابن القاسم ما كان من اجتهاده تخريجا على أصول مذهب الإمام مالك، واستمر أسد بن الفرات في سؤال ابن القاسم، وهو يجيبه كل يوم، ثم دفع إليه سماعه من مالك وقال له: ربما أجبتك وأنا على شغل، ولكن انظر في هذا الكتاب، فما خالفه مما أجبتك فيه فأسقطه. وهكذا ألف أسد كتابه “الأسدية” في ستين كتاباً، فدخل بها أسد القيروان يدرسها وحصلت له بها رئاسة المذهب.
المرحلة الثانية مدونة سحنون:
وكان سحنون من تلامذة أسد بن الفرات يحضر مع غيره من زملائه، وقد وجدوا في (المدونة الأولى) ، أو ( الأسدية) طريقة تخالف المذهب المالكي، ذلك أن كثيرا من المسائل التي دونها أسد بن الفرات تأثرت بمنهج المذهب الحنفي في الفقه الافتراضي الذي كان غريبا على مذهب المالكية، وقيل: إنه لم يلتزم فيها أصول المذهب المالكي، أو أنه لم ينقحها لانشغاله بالقضاء ثم بالجهاد، أو أنه كان يتحرى الدليل قبل المذهب، فكانت الاجتهادات مستغربة على طلاب المذهب المالكي.
وقيل: إن سحنون رفض دفع النسخة المكتوبة إلى أي أحد، رغم أنه كان يدرسها، وإن طعن البعض في هذا الكلام خاصة أن هناك اختصارات للأسدية، فقد اختصرها كل من أبي زيد بن أبي الغمر، وابن عبد الحكم. بل قيل:إنه لما كملت “الأسدية” أخذها أشهب وأقامها لنفسه واحتج لبعضها، فكان أشهب بعمله هذا قد مهد الطريق لسحنون.
وعلى كل، فقد استطاع سحنون نسخها، ثم سافر بها إلى مصر حيث ابن القاسم، فعرضها عليه، وراجعه في بعض الأشياء، فاستدرك ابن القاسم بعض المسائل وغير بعضها، خاصة أنه كان قد أملاها على أسد بن الفرات من حفظه، وكتب ابن القاسم إلى أسد بن الفرات: أن عارض كتبك بكتب سحنون، فإني رجعت عن أشياء مما رويت عني. فغضب أسد وقال: قل لابن القاسم: أنا صيرتك ابن القاسم، أرجع عما اتفقنا عليه إلى ما رجعت أنت الآن عنه؟ فترك إسماعها، فذكر أن ذلك بلغ ابن القاسم فقال: اللَّهم لا تبارك في “الأسدية”، فقيل: لم يكتب للأسدية القبول عند المالكية، وحلت محلها ( مدونة سحنون).
إقبال المالكية على مدونة سحنون:
ليس بصحيح أن الأسدية انتهت مع وجود مدونة سحنون، فقد بقيت الأسدية ونقل كثير من الفقهاء عنها في عصور متأخرة، كالقاضي عياض وغيره، على أنه قد كتبت الشهرة لمدونة سحنون على الأسدية، وأقبل عليها المالكية؛ لأسباب علمية، من أهمها:
الأول: الزيادات التي اشتملت عليها مدونة سحنون، فقد اقتصرت ” الأسدية” على أجوبة مالك برواية ابن القاسم، أو اجتهادات ابن القاسم تخريجا على أصول مالك، بينما احتوت ( مدونة سحنون) على كثير من الأحاديث من موطأ ابن وهب، وكثير من الآثار عن وكيع وابن المهدي، وكذلك فقه أشهب وبعض أهل المدينة، والليث بن سعد وإبراهيم النخعي وغيرهم، فكانت تلك الزيادات مزية دفعت فقهاء المالكية إلى الإقبال على مدونة سحنون.
الثاني: أن مدونة سحنون هي النسخة الأخيرة التي عرضت على ابن القاسم، وأنه راجع بعض الأجوبة على بعض ما عنده من الأصول، بخلاف الأسدية التي أملاها من حفظه.
الثالث: أن الأسدية أدرجت مذهب الحنفية في مذهب المالكية، فلم تكن الأسدية مالكية خالصة.
الرابع: أن فقهاء المالكية اعتادوا بناء فقه مذهبهم على الأحاديث على ما هو في (الموطأ)، بينما الأسدية جاءت اختراعا جديدا، لم يألفه فقهاء المالكية، بل بنيت على الاجتهاد الصريح، بينما أرجع سحنون المدونة على الطريقة الأولى.
وقد كتب الله تعالى الشهرة لمدونة سحنون، فانتشرت في مصر والقيران والأندلس والعراق وغير ذلك من البلاد، حتى بلغ عدد من تلقى مدونة سحنون بالمئات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
المرحلة الثالثة رسالة ابن أبي زيد القيرواني (ت:386هـ):
تعرف رسالة ابن أبي زيد القيرواني، المقلب بالمالكي الصغير، بأكثر من اسم غير هذا، من ذلك: ( باكورة السعد)، و( زبدة المذهب)، وهي – كما قال النفراوي شارحها في الفواكه الدواني (1/ 3): أول مختصر ظهر في المذهب بعد تفريع ابن الجلاب وكثرت الشراح عليها، ولم يكن يستغنى بواحد منها عن غيره”.
وسبب الاختصار ما رآه الفقيه المالكي ابن أبي زيد القيرواني في انصراف الهمم عن مدونة سحنون التي اشتملت على آلاف المسائل، وقد اختلف في عدد مسائل المدونة، فقيل: 32 ألف مسألة، و36 ألف مسألة، وقيل: 36 ألف ومائتا مسألة، وقيل: 40 ألف مسألة.
وكان تلميذه محرز بن خلف البكري التونسي المالكي (ت: 413هـ) هو من طلب منه كتاب مختصر في فقه المالكية، فأجابه إلى ذلك.
فاختصرها في كتابه؛ تقريبا للمدونة، وتيسيرا للإقبال عليها، وخدمة للمذهب المالكي.
المرحلة الرابعة التهذيب في اختصار المدونة الكبرى، لخلف بن أبي القاسم البراذعي
ثم جاء من بعد ابن أبي زيد القيرواني الفقيه المالكي خلف بن أبي القاسم محمد الأزدي القيرواني البراذعي، قيل توفي سنة (400هـ)، وقيل: (430هـ) من علماء القرن الخامس، فاختصر رسالة ابن أبي زيد القيرواني في كتابه: ( التهذيب في اختصار المدونة)
سبب تأليف التهذيب:
وسبب تأليف التهذيب أن الفقيه ابن أبي زيد القيرواني لما اختصر المدونة وضع فيها زيادات من الكتب الأخرى، فامتنع الطلبة من درسه لتلك الزيادات، فبلغ ذلك البراذعي، فاختصرها وهذبها دون زيادات ابن أبي زيد القيرواني.
كما امتاز كتابه بترتيب المسائل المدونة التي لم تكن مرتبة قبل كتابه، فيقول: «وجعلت مسائلها على الولاء حسب ما هي في الأمهات إلا شيئا يسيرا ربما قدّمته أو أخّرته، واستقصيت مسائل كل كتاب فيه خلا ما تكرر من مسائله، أو ذكر منها في غيره فإني تركته، وقد اشتمل كتاب التهذيب على مقدمة وخمسة وثمانين كتابا أولها كتاب الطهارة، وآخرها كتاب الديات.
المرحلة الخامسة: مختصر ابن الحاجب :(ت:646هـ):
ثم جاء الفقيه المالكي عثمان بن عمر، الشهير بابن الحاجب الكردي، فاختصر تهذيب البراذاعي في كتاب أسماه: ( الجامع بين الأمهات)، المعروف بمختصر ابن الحاجب الفقهي، تمييزا له عن مختصره في أصول الفقه.
وقد قصد ابن الحاجب من تأليفه هذا الكتاب جمع مسائل الفقه وفروعه ملخصة من أقوال المذهب المالكي، فقال في مقدمته: ” لما كنت مشتغلا بوضع كتابي كنت أجمع الأمهات، ثم أجمع ما اشتملت عليه تلك الأمهات في كلام موجز، ثم أضعه في الكتاب حتى كمل”.
وقد قيل: إن ابن الحاجب اختصر كتابه من ستين ديوانا، وأن فيه من المسائل ست وستون ألف مسألة.
وقد كتب لهذا الكتاب شهرة فائقة، حتى قال الفقيه الشافعي كمال الدين الزملكاوي في هذا الكتاب: ” ليس للشافعية مثل مختصر ابن الحاجب للمالكية”.
المرحلة السادسة مختصر خليل (749هـ):
هو خليل بن إسحاق، فقيه مالكي من أهل مصر، ولي الإفتاء على مذهب الإمام مالك، وجاور بمكة.
واسم الكتاب: (التوضيح شرح جامع الأمهات (مختصر ابن الحاجب في الفقه) لخليل بن إسحاق المالكي).
ومختصر خليل لخص فيه توضيح ابن الحاجب، وابن الحاجب لخص جواهر ابن شاس، وابن شاس لخص ابن بشير، وابن بشير لخص مقدمات ابن رشد، وهي خلاصة تهذيب البراذعي، والبراذعي لخص مسائل سحنون المعروف بالمدونة. وقد التزم خليل في مختصره هذا ما به الفتوى من الأقوال الراجحة والمشهورة. وهو يضم أربعة وستين بابا مرتبة حسب الترتيب المتبع في المدونة. وقد طبع عدة مرات واشتغل به الناس كثيرا فكان عليه المعول في الدرس والتدريس والإفتاء والحكم.
وقد كتب الله تعالى لمختصر خليل شهرة واسعة في المذهب المالكي في المشرق والمغرب، امتدحه علماء المالكية وكان المرجع في الفتوى عندهم.