تعتبر رحلة النبي ﷺ إلى الطائف من أهم فصول السيرة النبوية التي تجسد معاني الصبر والثبات واللجوء إلى الله في أشد المحن. لم تكن مجرد بحث عن ملاذ جديد للدعوة، بل كانت اختباراً إلهياً عظيماً أظهر للعالمين معدن النبوة الخاتمة.
البحث عن أفق جديد للدعوة
ها هي مكة قد وقفت عقبة كأداء في سبيل الدعوة الإسلامية. فبعد وفاة السند الخارجي، عمه أبو طالب، والسند الداخلي، زوجته خديجة رضي الله عنها، اشتدت مقاومة قريش وضراوتها. لقد أسرف سفهاء قريش في إيذاء النبي ﷺ والصد عن سبيله، حتى أضحت مكة على سعتها أضيق من كفّة الحابل في عينيه. في ظل هذا الحصار، يمّم النبي وجهه شطر الطائف، حيث تقطن قبيلة ثقيف، علّه يجد فيهم من ينصر الإسلام ويحمي الدعوة.
خرج إليهم في شهر شوال من السنة العاشرة للنبوة، ومعه فقط مولاه ورفيقه زيد بن حارثة رضي الله عنه. فأقام بينهم عشرة أيام، كما أرّخ الواقدي، يدعوهم إلى توحيد الله وترك عبادة الأوثان.
وقائع الرحلة: أمل يصطدم بالصدود والإيذاء
لقاء سادة ثقيف: صدود وجحود
توجه الرسول ﷺ إلى سادة ثقيف وأشرافها، وهم الإخوة الثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، أبناء عمرو بن عمير. جلس إليهم، وعرض عليهم دعوته، وطلب منهم نصرته على قومه. فكانت ردودهم مثالاً للسخرية والاستهزاء والجهل:
- فقال أحدهم: “هو يمرط (يمزق) ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك!”
- وقال الثاني: “أما وجد الله أحداً غيرك يرسله؟”
- أما الثالث، الذي بدا أعقلهم، فقال: “والله لا أكلمك أبداً، لئن كنت رسولاً من الله حقاً، فلأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، فما ينبغي لي أن أكلمك”.
بعد هذا الرفض القاطع، قام رسول الله ﷺ من عندهم وقد يئس من خيرهم، وطلب منهم طلباً واحداً: «إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني». كان يخشى أن يصل خبر مجيئه إليهم إلى قريش، فيزدادوا شماتة وإيذاءً له ولأصحابه. لكن القوم كانوا لئاماً، فلم يفعلوا.
ذروة المحنة: تحريض السفهاء ورشق الحجارة
لم يكتفِ سادة ثقيف بالرفض، بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم. لاحقوه يسبونه ويصيحون به، ثم اصطفوا له صفين وجعلوا يرشقون عراقيبه بالحجارة، حتى دميت عقباه الشريفتان وتلطخت نعلاه بدمه الزكي. كان مولاه زيد بن حارثة يفديه بنفسه، ويقيه الضربات حتى شُجّ في رأسه شجاجاً. وما زالوا على هذا الحال حتى ألجأوهما إلى حائط (بستان) لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهما من أشد أعداء الدعوة في مكة.
دعاء النبي الخالد في ساعة الكرب
دخل النبي ﷺ البستان هو وصاحبه، وعمد إلى ظل شجرة عنب ليستريح من عنائه وما أصابه. وفي هذه الغمرة من الأسى والحزن، والألم النفسي والجسدي، توجه الرسول بقلبه كله إلى ربه بهذا الدعاء الذي يفيض إيماناً ويقيناً ورضىً بقضاء الله:
«اللهمّ إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟! أم إلى عدو ملّكته أمري؟! إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والاخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله». (رواه ابن إسحاق)
هذا الدعاء هو درس بليغ في التجرد لله، حيث كان كل خوف النبي ﷺ ألا تكون هذه المحنة بسبب غضب من الله عليه. فما دام الله راضياً، فكل أذى يهون.
ومضة نور في الظلام: قصة عدّاس النصراني
فلما رأى ابنا ربيعة، عتبة وشيبة، ما لقي النبي ﷺ، تحركت له رحمهما، فدعوا غلاماً لهما نصرانياً من أهل نينوى (في العراق) يُدعى عدّاس. أمراه أن يأخذ قطفاً من العنب ويقدمه لذلك الرجل.
فلما وضع عدّاس العنب أمام رسول الله، مدّ النبي يده وقال: «بسم الله» ثم أكل.
نظر عدّاس في وجهه مستغرباً وقال: “والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد!”
فسأله رسول الله: «ومن أي البلاد أنت يا عدّاس، وما دينك؟»
قال: “نصراني، وأنا من أهل نينوى”.
فقال رسول الله ﷺ: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى؟»
فدهش عدّاس وسأل: “وما يدريك ما يونس بن متى؟”
فقال رسول الله ﷺ: «ذاك أخي، كان نبياً، وأنا نبي».
عندئذٍ، لم يتمالك عدّاس نفسه، فأكبّ على رسول الله ﷺ يقبّل رأسه ويديه وقدميه.
العودة إلى مكة وتجليات العناية الإلهية
غادر النبي الطائف مكلوم الفؤاد، مهموم النفس. وفي طريق العودة، تجلت له ألطاف الله وعنايته في صور متعددة:
تروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي: “هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟” فقال:
«لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال، ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (جبلي مكة العظيمين). فقال النبي ﷺ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا». (متفق عليه)
وهنا تتجلى رحمة النبي التي وسعت حتى من آذوه، فهو لم ينظر إلى فعلهم، بل إلى مستقبل ذريتهم.
وفي طريق عودته، وهو في مكان يُدعى “وادي نخلة”، قام يصلي في جوف الليل، فمرّ به نفر من الجن من أهل نصيبين، فاستمعوا لتلاوته الخاشعة للقرآن. فلما فرغ من صلاته، ولّوا إلى قومهم منذرين وقد آمنوا بما سمعوا، وقصّ الله خبرهم في سورة الأحقاف:
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ…} [الأحقاف: 29-32]
لقد كانت هذه الحادثة تسلية ربانية، ففي الوقت الذي رفضته فيه إحدى كبريات قبائل العرب، أتت إليه مخلوقات من عالم آخر لتؤمن به وتستجيب لدعوته.
دخول مكة وحفظ الجميل للمطعم بن عدي
عندما وصل النبي ﷺ إلى مشارف مكة، لم يتمكن من دخولها خوفاً من بطش قريش. فأرسل يطلب الجوار (الحماية) من بعض سادة مكة، فرفضوا. وأخيراً، أرسل إلى المطعم بن عدي، وهو مشرك، فاستجاب لطلبه وقال: “نعم، قل له فليأتِ”.
فلما أصبح الصباح، خرج المطعم مع أبنائه الستة أو السبعة متقلدين سيوفهم، وأحاطوا برسول الله وهو يطوف بالكعبة، ليعلنوا للجميع أنه في حمايتهم.
وقد حفظ النبي ﷺ للمطعم بن عدي هذا الصنيع، حتى قال بعد غزوة بدر في شأن الأسرى: «لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له».
وهكذا، انتهت رحلة الطائف، التي بدت في ظاهرها محنة قاسية، لتكون في حقيقتها منحة ربانية، صقلت شخصية النبي، وأظهرت رحمته وصبره، ومهدت الطريق لأحداث كبرى غيرت مجرى التاريخ.
دروس وعظات مستفادة من رحلة الطائف
لم تكن رحلة الطائف مجرد حدث عابر، بل كانت مدرسة متكاملة في الدعوة والصبر واليقين. وقد استنبط العلماء من وقائعها دروساً عظيمة، نذكر منها ما أبرزه الدكتور البوطي والدكتور الصلابي وغيرهما من أهل العلم:
الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله
يوضح الدكتور الصلابي أن النبي ﷺ أخذ بالأسباب البشرية المتاحة. فعندما ضاقت به السبل في مكة، خطط وبحث عن مكان جديد للدعوة، واختار الطائف لمكانتها وقربها وقوتها بعد مكة، وهذا هو قمة التخطيط البشري. ولكن عندما انقطعت به الأسباب المادية وتعرض للأذى، تجلى توكله المطلق على الله في دعائه الخالد، فهو يعلّمنا أن نبذل الجهد ثم نفوّض الأمر كله إلى الله.
حقيقة العبودية في دعاء النبي ﷺ
يحلل الدكتور البوطي دعاء النبي تحليلاً عميقاً في “فقه السيرة”، فيرى أن شكوى النبي لم تكن اعتراضاً على قدر الله، بل كانت إظهاراً للفقر والضعف البشري أمام قوة الله المطلقة. وأهم جملة في الدعاء، والتي تكشف عن جوهر العبودية، هي: «إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي». فغاية ما يهم الداعية والمؤمن هو رضا الله، وكل أذى ومشقة في سبيله تهون ما دام الله ليس غاضباً عليه.
الرحمة والشفقة منهجاً للدعوة
تتجلى رحمة النبي ﷺ في أروع صورها عندما رفض عرض ملك الجبال بإهلاك أهل الطائف. فقوله: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً» يمثل رؤية استراتيجية بعيدة المدى. فالداعية الحقيقي، كما يوضح العلماء، ليس هدفه الانتقام ممن يرفضونه، بل هدايتهم وهداية الأجيال القادمة من بعدهم. إنها الرحمة التي تغلب الغضب، والأمل الذي يقهر اليأس.
الفرج يأتي بعد الشدة، والعناية الإلهية لا تتخلى عن أوليائها
بعد بلوغ الكرب ذروته، جاءت صور الفرج المتتابعة: إسلام عدّاس الذي كان بمثابة قطرة ماء باردة في يوم حار، ثم حديث ملك الجبال الذي كان تكريماً وتثبيتاً من الله، ثم إيمان نفر من الجن الذي أكد عالمية الرسالة. يؤكد العلماء أن هذه الأحداث هي رسالة لكل مؤمن بأن مع العسر يسراً، وأن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأن أبواب الفرج قد تُفتح من حيث لا يحتسب الإنسان.
أهمية الأخلاق العظيمة في شخصية الداعية:
يبرز الدكتور الصلابي كيف أن أخلاق النبي ﷺ كانت جزءاً لا يتجزأ من دعوته. فصبره على الأذى، وعفوه عند المقدرة، وحفظه للجميل (كما في موقفه لاحقاً من المطعم بن عدي)، كلها صفات أسرت القلوب وجعلت دعوته مقبولة. فالموقف من عدّاس لم يكن مجرد حوار عابر، بل كان تعاملاً إنسانياً راقياً أثمر إيماناً فورياً.
عالمية الدعوة وشموليتها
تعتبر حادثة استماع الجن للقرآن وإيمانهم به، كما ورد في سورة الأحقاف، دليلاً قاطعاً على أن رسالة النبي ﷺ ليست موجهة للإنس فقط، بل هي للثقلين (الإنس والجن). وفي هذا تسلية عظيمة للنبي، ففي الوقت الذي يرفضه فيه أهل الأرض، تستجيب له مخلوقات من عالم آخر، مما يؤكد أن دعوة الحق لا بد أن تجد من يناصرها.
خاتمة
رحلة النبي ﷺ إلى الطائف لم تكن مجرد محاولة سياسية أو دعوية، بل كانت محطة إيمانية تربوية تُجسد الأخلاق المحمدية في أبهى صورها. إنها قصة تُروى للأجيال ليعلموا أن طريق الحق مليء بالأشواك، لكن عاقبته نور وتمكين.