انتقل إلى رحمة الله تعالى يوم الأربعاء 16محرم 1443هـ الموافق لـ 25 أغسطس 2021، العالم الجزائري الجليل والشيخ الفاضل ومربي الأجيال، الشيخ ابراهيم طلاي، عن عمر ناهز 92 سنة، الشيخ الراحل خريج معهد الزيتونة، وعضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعضو المجلس الإسلامي الأعلى، ويعتبر أحد أعلام الجزائر، وقامة من قامات العلم والثقافة في الجزائر والعالم الإسلامي.
يعتبر الشيخ إبراهيم طلاي من أبرز الشخصيات الدينية والثقافية في الجزائر، خاصة في منطقة “وادي ميزاب” فهو مرجع من مراجع الفتوى في بلدته “بني يزقن”، ومن أبرز الناشطين في مجال الدعوة والوعظ والفتاوى من خلال دروسه وأعماله ومؤلفاته وتحقيقاته ومقالاته وفتاويه. رئيس حلقة العزابة لـ”بني يزقن” بمدينة غرداية بالجزائر، ورئيس مجلس عمي سعيد لقُرى وادي مزاب.
الرئيس الجزائري يعزي عائلة الشيخ طلاي
عقب الإعلان عن وفاة الشيخ إبراهيم طلاي بعث الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون برسالة تعزية إلى عائلة الراحل جاء فيها :”إننا نعيش معكم ومع شيوخنا وأكابر بني يزقن وأهلنا الأعزاء في وادي ميزاب، بمشاعر التأثر والأسى والحسرة، فاجعة وفاة فضيلة الشيخ المرحوم إبراهيم طلاي..والذي برحيله نفقد مدرسا مثابرا، ومربيا مخلصا، ممن أوتوا الحكمة والعلم، وساهموا في التنوير والدعوة إلى سبل الخير، من خلال نشاطاته المحمودة في المجالس والمجامع التي انتمى إليها، وحظي فيها بصفات العلماء أصحاب الرأي وذوي المشورة، الموثوق في ورعهم وصدقهم ووطنيتهم.
و أضاف الرئيس الجزائري في رسالته:”لقد كان رحمة الله عليه من الصالحين المصلحين الذين أنجبتهم بلدة بني يزقن..يعتز به أهلنا الكرام في وادي ميزاب، وفي الجزائر قاطبة، لما تركه من إرث علمي وتربوي، وإسهامات معرفية تشهد عليها مؤلفاته وإصداراته”.
وقال عبد المجيد تبون لعائلة: “إننا في هذا المصاب الأليم نحتسب إلى المولى عز وجل، ونتوجه إليكم بأخلص التعازي وأصدق مشاعر المواساه، داعين العلي القدير أن يتغمد الفقيد برحمته الواسعة في جنة الفردوس مع الشهداء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا..عظم الله أجركم”.
قالوا في رحيله
وزار صبيحة يوم الخميس 26 أغسطس وفد من جمعية علماء المسلمين الجزائريين عائلة العلامة وشيخ المحققين، إبراهيم طلاي لتقديم واجب التعزية للعائلة، ولأهالي بلدة بني يزقن بفقدانهم لهذا العالم الكبير.
كما نعى هذا العالم الفذ، مجلس أعيان منطقة “بني يزقن”، حيث جاء في بيان النعي:” بقلوب خاشعة ومؤمنة بقضاء الله وقدره نودع اليوم المغفور له بإذن الله تعالى فضيلة الشيخ الحاج إبراهيم طلاي .. نودع فيه العالم النحرير والمعلم النصوح والمربي الحكيم والمحقق النًزيه والمفسر القدير”.
وجاء في تعزية أهل نفوسة:”عظم الله أجركم وغفر الله للشيخ وجعل قبره روضة من رياض الجنة وأسكنه فسيح جناته جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. وألهم أهله وذويه وجميع محبيه جميل الصبر والسلوان، وأخلف الله مزاب والأمة الإسلامية فيه خيرا”.
وأمام هذا المصاب الجلل، تقدم وزير المجاهدين وذوي الحقوق “العيد ربيقة” إلى عائلة الفقيد ومشايخ وأعيان المنطقة، بـ “تعازيه القلبية الخالصة المشفوعة بأصدق مشاعر التضامن والمواساة في مواجهة هذه المحنة الأليمة”. مؤكدا بأن “الجزائر فقدت برحيله واحدا ممن ساهموا بحنكتهم في إصلاح ذات البين والمشهود لهم بالعمل الخيري”.
وقال مصطفى بن صالح في تأبين الشيخ الراحل:” نودع فيك شيخنا العالم الضليع، والمحقق الصبور، والمربي الحكيم، والداعية البليغ، والناصح الأمين، تلامذتك ملء الربوع، وهم فخر الوادي وعدة الجزائر، وكتبك خير المصادر، ونصائحك درر، وبيانك جواهر، وصدى كلماتك لا يزال يرن في الآذان ترددها الجوامع والمنتديات، وتهتدي بها الأجيال”. وأضاف في كلمته:” وليس لي أن أطيل والخطب أجل، وطبعك الإيجاز وخفة الظل، فرحمك الله عز وجل”.
وكتب المفكر والباحث الجزائري محمد بابا عمي على منصته الخاصة بفيس بوك:” ورحل الشيخ عنا! هي صرخة خرَّت الجبال الصمُّ لسماعها، وذابت القلوب الغلف لهولها، هي كلمة لأخي الدكتور مصطفى وينتن، صدح بها في جنازة شيخنا “شهيد العلم” الشيخ طلاي إبراهيم صبيحة اليوم، قال والعبرات تسبق العبارات: ورحل الشيخ عنا!، إنه الإحساس باليتم، إنه الإشفاق من الأمانة، إنها معرفةُ خبيرٍ بالواقع في تعرُّجاته وتموُّجاته…ورحل الشيخ عنا!، تُصرَّف إلى ألف معنًى ومعنًى؛ لكلّ “ذي قلب” منها نصيب من الشعور، ولكل “ذي عقل” منها نصيب من الفهم.
رحل الشيخ عنا!، فمن يتصدَّر مجلس الوعظ بعده؟ ومن ينبري للفتوى بعد حُكمه؟ ومن يكون في مثل حِكمته وفطنته؟، ومن يجمع الناس على كلمة سواءٍ، داعيا إلى التراحم ونبد التزاحم؟ رحل الشيخ عنا، فمن يثني ركبتيه للتحقيق والتدقيق، والقراءة والمدارسة، والتحرير والتأليف؟
أحد رواد الحياة الثقافية في وادي مزاب
برحيل الشيخ ابراهيم طلاي، تكون الساحة الدينية والثقافية الإسلامية في منطقة وادي مزاب قد فقدت أحد أعمدتها، حيث يُعد وادي مزاب من المناطق الجزائرية التي تزخر بتراث ثقافي وحضاري هام، متمثلا في مظاهر ثقافية مادية وغير مادية. وقد أثارت هذه المظاهر الحضارية اهتمام العديد من الباحثين، منذ حوالي منتصف القرن 19م، فتناولوها بالدراسة من زوايا متعددة: دينية وثقافية وتاريخية واجتماعية وعمرانية..وغير ذلك من الجوانب.
وقد عرفت هذه المنطقة حياة فكرية وثقافية عبر تاريخ يناهز الألف سنة، بحسب مصادر تاريخية موثّقة، حياة فكرية تمتد بجذورها إلى عصر التألق الفكري في بلاد المغرب، كوادي ريغ ووارجلان والزاب وسوف وبلاد الجريد وجزيرة جربة وجبل نفوسة وغيرها، بل إن أصولها تمتد إلى أبعد من ذلك، إلى عصر الدولة الرستمية التي بسطت سلطانها في القرن 3هـ/ 9م من تلمسان بالجزائر غربا إلى سرْت بليبيا شرقا، وعُرف عن أئمتها الاحتفاء بالعلم والتبحر فيه.
من هو الشيخ ابراهيم طلاي؟
انتقل الشيخ ابراهيم طلاي إلى تونس قصد الاستزادة من العلم والمعرفة. فانتسب إلى جامع الزيتونة بالجمهورية التونسية وتحصل على شهادة العَالمية (ليسانس أو بكالوريوس) في الأدب وعلوم اللغة سنة 1959م.
عاد إلى الجزائر بعد استقلالها فاشتغل في التدريس والتربية لفترة بعدة مدن بالجزائر. ثم عين موجها تربويا للتعليم الثانوي (مفتش تعليم) في مادة الأدب العربي.
انتدب للمشاركة في المجلس الإسلامي الأعلى سنة 1980م وكان عضوا في لجنة إحياء التراث بالمجلس. ثم انتدب للانتساب إلى هيئة العزابة لبلدة “بني يزقن” والانخراط فيها في نفس السنة. أمضى فترة طويلة كمنسق لمجلس أعيان بلدة بني يزقن، ورئيس عشيرة آل إسماعيل وهي من عشائر بني يزقن.
الشيخ ابراهيم طلاي عضو في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ومحاضر بمعهد عمي سعيد لمادة التاريخ والحضارة الإسلامية. وعضو حلقة العزابة ببني يزقن. والكاتب العام لمجلس عمي سعيد، الهيئة العليا للمساجد بوادي مزاب. وعضو في إدارة مؤسسة الجابرية للتعليم القرآني. ويعتبر من أهم المراجع للفتوى في منطقة وادي مزاب.
بعث مؤسسة الجابرية للتعليم القرآني
للشيخ ابراهيم طلاي مساهمات فعالة في مجال إصلاح ذات البين والعمل الاجتماعي في وادي مزاب. كما كان له دور كبير في عصرنة وبعث “مؤسسة الجابرية للتعليم القرآني”، وهي إحدى المدارس الحرة المزابية في الجزائر، التي تقوم منذ 1925 بجهود جبارة لنشر اللغة العربية وتحقيق الاستقلال الثقافي للجزائر، على الرغم من تواجدها أساسا في بيئة ناطقة بالأمازيغية.
تأسّست المدرسة الجابرية في بداية الأربعينات على يد المرحوم الشيخ محمد بن الحاج يوسف ببانو، وتعتبر إحدى أقدم المدارس، التي تنتمي إلى المنظومة التعليمية الأهلية المناضلة إبان الاستعمار ضد المخطط الفرنسي الرامي إلى تحويل الجزائر إلى قطعة من فرنسا وطمس الهوية العربية الإسلامية للمجتمع الجزائري. كما أسهمت بعد الاستقلال في دعم سياسة التعريب التي رسمتها الدولة الجزائرية الحديثة بكل عناية وقصد.
“مجلس عمِّي سعيد”..حضارة ونظم دينية واجتماعية وقضائية
كان الشيخ ابراهيم طلاي عضوا بارزا ومحاضرا نشطا بمعهد عمي سعيد لمادة التاريخ والحضارة الإسلامية. ويسمى هذا المجلس العلمي الثقافي التعليمي بـ “المجلس الأعلى للعزَّابة في وادي مزاب بالجزائر”، وقد سُمِّي بمجلس عمّي سعيد لأنَّه كان يعقد اجتماعاته في روضة الشيخ عمِّي سعيد بن علي الجربي بمدينة غرداية.
يضم ممثلي مجالس العزَّابة في قرى وادي مزاب السبعة ووارجلان، يُعيَّن أكبر العلماء وأكثرهم حصافة وشجاعة لرئاسته، فيكون شيخ منطقة وادي مزاب كلّها، وكان في الماضي توضع عمامة على رأسه، وهذا التعميم بمثابة التتويج ودليل على الرئاسة والتقدّم.
ينعقد هذا المجلس في دورات عادية، وقد ينعقد بصفة طارئة إذا دعت الضرورة إلى ذلك. وتُرفع إليه القضايا الكبرى كالإفتاء والاجتهاد في القضايا الفقهية والنوازل، كما يقوم بوظيفة محكمة الاستئناف، بإصدار أحكام نهائية.
ومن من مهامه:
- اختيار الأقوال الفقهية التي يجب أن يفتي بها العزَّابة أو يقضي بها القضاة في المسائل الخلافية.
- سنّ القوانين في دائرة الدين لتُصبح عُرفا اجتماعيا ملزمًا.
- فضُّ المشاكل العامَّة التي تحدث في وادي مزاب و وارجلان، والاجتماع على طرق الخروج من الأزمات الطارئة كنائبة نزلت أو تهديد من عدو.
- تولية المشايخ في المساجد للوعظ والإفتاء.
- مراقبة مجال الأوقاف.
- وضع اللَّوائح الداخلية التي تخصُّ سير الحياة مثل التعامل بالنقد وتحديد المكاييل والموازين.
غير أن سلطة الاستعمار الفرنسي للجزائر الذي احتل منطقة مزاب سنة 1300هـ/ 1882م، قد حدَّت كثيرا من مهام هذا المجلس، فبعد أن كانت له سلطة فعلية في المجال الاجتماعي والقضائي والاقتصادي والسياسي، توارثها منذ القديم، تقلّصت هذه الوظائف الحيوية، وألغيت كثير من المهام التي تجعل منه إمامة صغرى. ولم يبق له اليوم إلاّ المجال الديني، وبعض القضايا الاجتماعية المحلية.
تحقيقاته ومؤلفاته
ساهم الشيخ ابراهيم طلاي في بعث وتحقيق التراث الثقافي الإسلامي في المنطقة عبر عدة تحقيقات ومؤلفات أهمها:
- إعادة طبع كتاب في الفقه “الذهب الخاص المنوه بالعلم القالص” للشيخ امحمد اطفيش.
- كتاب طبقات المشايخ بالمغرب، في جزئين تحقيق وطبع، ويعتبر من أهم المصادر بالمغرب للشيخ أبي العباس الدرجيني.
- كتاب أجوبة علماء فزان، تحقيق وطبع. (كتيب في الفقه).
- كتاب أجوبة علماء نفوسة، للإمام عبد الوهاب تحقيق وطبع.
- حاشية الجامع الصحيح لمسند الربيع بن حبيب في خمسة أجزاء تحقيق وطبع. حاشية أبي ستة لمسند الربيع بن حبيب أول ما صنف في الحديث.
- تأليف كتاب “ميزاب بلد كفاح” الذي يعتبر باكورة أعماله. كتيب يتحدث عن منطقة ميزاب اجتماعيا وتاريخيا.
- تأليف “الدروس المختارة من الجامع الصحيح” كتاب مدرسي في جزئين موجه لتلاميذ المدارس الحرة بوادي ميزاب.
- أهم عمل قام به هو تحقيق وطبع “السفر الجليل تيسير التفسير” لقطب الأئمة الشيخ امحمد اطفيش في 17 جزءا. وهذا الكتاب موسوعة فقهية ولغوية وبلاغية، ومن أهم ما كتبه الشيخ أطفيش.
- مختصر تيسير التفسير: مختصر لكتاب تيسير التفسير ظهر منه حتى الآن جزء واحد.
- إعادة تحقيق وطبع كتاب طبقات المشائخ بالمغرب في جزئين.
مكتبة الشيخ ابراهيم طلاي
في شهر نوفمبر 2008، افتتح الشيخ إبراهيم طلاي مكتبته الثقافية في بني يزغن بغرداية، لينهل منها عشاق العلم والثقافة ما يريدون، وتعتير هذه المكتبة درة أخرى تضاف للدرر من المكتبات العديدة المتواجدة بهذه القرية الصغيرة التي كانت ولا تزال معقل العلم والعلماء في وادي ميزاب، فهي مسقط رأس الكثير من العلماء والمصلحين أمثال القطب الشيخ امحمد اطفيش والشيخ الثميني وشاعر الثورة وصاحب النشيد الوطني للجزائر الشاعر مفدي زكريا ، كما أنها كانت محضن علماء ومصلحين كبار من أمثال الشيخ إبراهيم بيوض والشيخ الحاج عمر بن يحي وغيرهم كثير أين تلقو تعليمهم.
وبمناسبة افتتاح المكتبة كان الشيخ إبراهيم طلاي قد ألقى كلمة أكد فيها على ضرورة الاهتمام بالكتب ومجالات التعليم، حيث قال أن سيدنا محمد ﷺ الذي أنزل الله عليه القرآن هدى للناس أمره بالتعلَّم والقراءة في أوَّل آية نزلت عليه. واشار إلى أن هذه المكتبة هي للقراءة والمطالعة والاستزادة من العلم وتأوي الكثير مما تجمَّع من الكتب والمستنسخات من شتى أنواع المعرفة طيلة عشرات السنين. وأضاف في كلمته:” قال عليه السلام: “صناعتنا هذه من المهد إلى اللحد”، وروي من وصايا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: يا بني كن عالما أو متعلما ولا تكن ثالثا فتهلك. وأستسمحكم ونحن نحتفل بالكتاب والكتب أن أذكركم بقوله الجاحظ عمرو بن بحر يؤنب رجلا يعيب الكتب وينفِّر عنها:
والكتاب نعم الذخر والعقدة، ونعم الجليس والعدّة ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس لساعة الوحدة ونعم المعرفة ببلاد الغربة. وقال مادحا للكتاب مؤنبا من يشتغل عنه: والكتاب وعاء مليء علما، وإناء شحن مزاحا وجدًّا، أعيا من باقل وإن شئت أشجتك مواعظ وزواجره.
وبعد.. فمتى رأيت ناطقا ينطق عن الموتى ويترجم عن الأحياء، ومن لك بمؤنس لا ينام إلاَّ بنومك ولا ينطق إلاَّ بما تهوى. آمن من الأرض وأكتم من الأرض. وأكتم للسر من صاحب السر، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة.
وقال شيخ الكتاب الجاحظ في موضوع مواصلة التأليف وتحقيق الكتاب والاطلاع على تراث السلف الصالح وعدم الاغترار بما عندنا وما وصلت إليه أفهامنا وأفكارنا لأنَّ المعرفة جهود أجيال. يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويفنى العقل ويبقى أثره”.