يناقش غوستاف لوبون في هذا الكتاب تحت فصل بعنوان (أفكار الجماعات وتعقلها وتخيلاتها) فكرةً في غاية الأهمية، وهي طبيعة وأنواع الأفكار التي تحكم مسار الجماعات وكيف تتغلغل فيها وكذا صعوبة تخلصها من الأفكار السابقة التي ترسخت وأصبحت بمثابة روح لتلك الجماعات.

وهي فكرة تكمل ما بدأ نقاشه في كتابه روح الشعوب من تأثير الأفكار في تطور الأمم، وكيف أن “كل مدنية تقوم على أفكار أساسية محدودة قلما تتجدد” وأن التقلبات الكبيرة في حياة الشعوب لا تحدث إلا مما يطرأ على تلك الأفكار الأساسية من التغيير.

يقسم الكاتب الأفكار التي تحرك الجماعات إلى قسمين رئيسين، هما:

1 ـ الأفكار العرضية الوقتية التي تولدها بعض الحوادث لساعتها: كالولوع بفرد من الأفراد أو مذهب من المذاهب.

2 ـ الأفكار الأساسية التي تكتسب من البيئة والوراثة والرأي ثباتا: مثل العقائد الدينية في الماضي والأفكار الديمقراطية والاجتماعية في الزمن الحالي.

ويشبه لوبون الأفكار الأساسية “بالماء الذي يجري الهوينا في النهر” ص35، وهو مع استمرار حركتها وفاعليتها في المد والجزر لا تظهر للعيان ولا تصخب على رواد الشاطئ، بينما يشبه الأفكار العرضية بـ”الأمواج الصغيرة المتغيرة على الدوام التي تضرب وجه ذلك الماء، وهي مع قلة أهميتها أظهر أمام العين من سير النهر نفسه”ص35.

لكن كيف يمكن تغيير الأفكار الأساسية لأمة ما وإحلال أفكار أساسية أخرى محلها؟ يبدو أن الأمر يحتاج وقتا يعد بالعقود إن لم يكن بالقرون، ولكنها بعد أن تأخذ الوقت اللازم لنضجها تفعل أكبر انقلاب في حياة المجتمعات، ذلك بأن الفكر بطيء التأثير ولكنه عميق الأثر، وحين ينبثق لا تقف أمامه قوة مهما كان عتوها وجبروتها، فقد استغرقت الأفكار الفلسفية التي أدت إلى الثورة الفرنسية أكثر من مائة عام وهي تعتمل كالبركان في ذات الصدور ولكنها لما انفجرت حققت المستحيل.

ويصف لوبون ما حصل بعدما انبثقت تلك الأفكار السائرة منذ قرن في خفايا النفوس فيقول:” فهبت أمة بتمامها لنيل المساواة الاجتماعية وتحقيق الحقوق المعنوية وإقامة صرح الحريات التي تنتهي إليها الآمال، فزعزعت التيجان وجعلت عالي الغرب سافله، إذ تساجلت الأمم بالحروب عشرين عاما وشهدت القارة الأوروبية من سفك الدماء وقتل النفوس ما ينخلع له قلب تيمور لنك وجنكيزخان” ص37.

ويعلل لوبون سبب تأخر ظهور أثر الفكر في المجتمعات وقوة تأثيره إذا انبثق بأن الجماعات لا تحركها الأفكار وإنما الغرائز، فتحتاج أي فكرة أن تمكث من الوقت ما يسمح بامتزاجها بالنفوس وتحولها إلى غريزة، فإذا تحولت إلى غريزة اندفعت بقوة لا يستطيع الإقناع بضدها الوقوف في وجهها، وهذا سر تمكن الأديان من النفوس، لأنها تؤثر في الوجدانات والغرائز، إن الأفكار الأساسية تظل كامنة ومؤثرة حتى ولو ظهر تهاتفها عقليا، ويضرب لوبون لذلك مثالا بالأفكار الدينية والسياسية التي سادت في أوربا في القرون الوسطى، فيقول:

“إن الأفكار الدينية في القرون الوسطى والأفكار الديمقراطية في القرن الماضي والاجتماعية في زماننا هذا، ليست رفيعة بمقدار ما قد يظهر، فإن الفلسفة لا تعتبرها إلا أغاليط صغيرة، ومع ذلك فإنه لا حد لأثرها فيما مضى، ولا حد لها فيما سيأتي، ستبقى هي العوامل الأساسية في حياة الدول والمماليك زمنا طويلا” ص36.

تعقل الجماعات

توصل لوبون بعد نقاش متعدد الأوجه لموضوع تعقل الجماعات أو عدمه إلى نتيجة طريفة و(هي أن الجماعات تتعقل بطريقة خاطئة)، يعني أنها تحاول استخدام الأدلة فيما تذهب إليه ولكن “طبقة الأدلة التي تقيمها هي تأييدا لأمر من الأمور أو التي تؤثر عليها منحطة جدا من الجهة المنطقية، فلا يصدق عليها اسم الدليل إلا من باب التشبيه” ص37.

ويشبهها بالرجل الإسكيماوي الذي يعرف بالتجربة أن الثلج وهو جسم شفاف يذوب في الفم فيخيل إليه أن الزجاج الذي له نفس الشفافية له خاصية الذوبان أيضا، بهذا المنطق الخاطئ تؤثر في الجماعات الخطب الرنانة والتي تشتمل على كلمات التوكيد والإطلاق أكثر من الخطب التي تأخذ تسلسلا منطقيا واضحا.

تخيل الجماعات

بما أن الجماعات لا تعرف التعقل ولا التأمل فهي أيضا لا تنكر غير المعقول، إن قوتها التخيلية أقوى من قوتها التعقلية، لذلك فهي ترتهن للصورة الأولى التي ترتسم عندها حول الأشياء والأفكار والمواقف، والصورة التي ترتكز في ذهن الجماعة هي التي تحدد وجهة بوصلتها وتشكل دافعها نحو عمل شيء ما.

يدلل لوبون على هذه الخاصية للجماعات بقوة تأثير السينما والمسرح على الأمم والجماعات، لأنه يمثل لها الأشياء في أجلى صورها التخيلية دون أن تتدنس بحقائق الواقع، فالبطل فيها لا ينهزم، ولا يزال التمثيل أكبر المؤثرات على الجماعات، ويروي لوبون قصة أحد المسارح الذي كان يعرض دائما قصص محزنة، فكان الحراس يحيطون بممثل الخائن الأثيم عند خروجه خوفا عليه من هياج المتفرجين.

ويرى لوبون أن التخيل له دور كبير في حركة التاريخ بل يذهب إلى أن سلطان الفاتحين وبناء قوة الممالك إنما قام على تخيل الأمم، وكل الآثار الكبيرة في التاريخ ـ من وجهة نظره ـ كإيجاد البوذية وتشييد أركان المسيحية والإسلام والثورة وغيرها، إنما هي نتائج قريبة أو بعيدة لتأثيرات شديدة على تخيل الجماعات.

وبنفس الخطة اي التأثير على الصورة النمطية لخيال الجماعات والأمم والشعوب استطاع نابليون تحقيق أمجاده، وقد عبر عن ذلك في خطابه بمجلس شورى الحكومة الفرنسية حين قال:”إني أتممت حرب الفندائيين لما تكثلكت، واستوليت على مصر إذ أسلمت، وتوجت بالظفر في حرب إيتاليا لأني قلت بعصمة البابا، ولو كنت أحكم شعبا يهوديا لأعدت معبد سليمان” ص40.

إن الذي يؤثر في الشعوب ليس البيان والبديع وليس مخاطبة مدركات العقل وإنما مخاطبة فضاءات التخيل، ولو أن حادثا واحدا قتلت فيه 1000 شخص لكان ذلك مؤثرا ولكن لو أن 2000 شخصا ماتت بالتدريج في حوادث مختلفة لما أخذ ذلك الخبر نفس الاهتمام.

يمهد غوستاف لوبون بهذا الفصل حول أفكار وتعقل وتخيل الجماعات لفصل آخر أهم ولكنه يرتكز على سابقه وهو الفصل الذي يناقش الكيفية التي يؤثر بها قواد الجماعات في جماعاتهم، وذلك موضوع المقال القادم إن شاء الله.