معروف عن “زهرة الرمال” أو “وردة الصحراء”، أنها زهرة خاصة لا مثيل لها في الوجود، فهي وردة لا رائحة لها ولا أشواك، تكونت بفعل المحاليل المشبعة بأكاسيد المعادن وتبخر المياه التي تطفو إلى السطح، حيث تأخذ هذه الزهرة لونها تبعا للون الأكاسيد المكونة لها، والتي تبدو على هيئة بلورات تضفي عليها بريقا أخاذا مع ملمس الرمال.

 

من وحي زهرة الصحراء هذه تفتحت في قطر هذا الأسبوع زهرة ضخمة تنام في تطل على البحر، بعيدا عن بيئتها الأصلية في الكثبان الرملية، لكنها قريبة من أصلها وتاريخها القطري..وتشكلت هذه الزهرة الضخمة كتحفة فنية مذهلة ممثلة في متحف قطر الوطني الجديد  كسرح للثقافة والتراث والحضارة في قطر، وعنوان حقيقي للإصرار والدهشة والإلهام. فقد أصبح لزهرة الرمال رائحتها الخاصة، وفاح أريجها في كل أنحاء العالم، كحدث فرض نفسه على المشهد الثقافي والإعلامي والسياحي والفني. وشهد العالم افتتاح اكتشاف هذه التحفة المعمارية الفريدة، التي عشقتها القلوب قبل الأعين، وتحولت في الأونة الأخيرة إلى حديث الناس، ومصدر إلهامهم،في الإذاعات والتلفزيونات ووسائل التواصل الإجتماعي، وعبر الكثيرون عن افتتانهم بهذه الأيقونة الباذخة الجمال، ونشطت الذاكرة في استعادة الماضي عبر سرد الذكريات التي تربط قطر الأمس بقطر اليوم.

ولأن زهرة الصحراء تنمو وتكبر بين أحضان الرمال، كلما أغدقت عليها بالماء، فقد توسع متحف قطر ليجد راحته على مساحة تبلغ حوالي 40 ألف متر مربع على الطرف الجنوبي من كورنيش الدوحة، ونصب نفسه كأول معلم يراه المسافرون والقادمون من مطار حمد الدولي.

لا نبني المتحف لتخزين الماضي

“نبني المتاحف من أجل تنوير الجمهور بماضينا وحاضرنا ومكانتنا بين شعوب العالم.. ولكن لصيانة الهوية الوطنية القطرية وتعريف العالم بها ولا نبني المتاحف من أجل تخزين الماضي”. هذا ما قاله حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى لدى افتتاحه متحف قطر الوطني وسط حضور ملفت لكبار الشخصيات على مستوى العالم.

الشيخ تميم قال أن المتحف الوطني الجديد “سيقدم إضافة كبيرة إلى المشهد الثقافي المتنامي في قطر بما في ذلك مؤسساتنا الجامعية وإعلامنا التعددي ومكتبتنا الوطنية التي تحتوي على مليون كتاب بمبناها المتميز الذي افتتحناه العام الماضي”.

وأضاف أن “المتحف الوطني هو نتاج عمل جماعي للعديد من المؤسسات والأفراد .. وهو يمثل ما نحن عليه كبلد يتسم بفتح الحوار والتعاون في جميع المجالات”. وزاد أن المتحف “يروي قصة شعبنا كما يشجع على التعرف على طبيعة البلد وآثاره التاريخية واقتصاده ونهضته العمرانية ويوفر فضاء للتأمل في ما قامت به قطر وما تطمح للقيام به”.

وخلال مؤتمر صحفي استبق الافتتاح، أكدت رئيسة مجلس أمناء متاحف قطر الشيخة المياسة بنت حمد آل ثاني، إن قطر لا تريد جلب ما يوجد في الغرب، وإنما تسعى لبناء هويتها الخاصة. وأن متحف قطر الوطني يعكس طموح البلاد في الاحتفاء بما وصلت إليه وما قدمته للعالم، مشددة على أن الثقافة هي الجسر الذي يربط بين الشعوب.

وجه من وجوه التميز الثقافي والحضاري

من جهته، أكد صلاح بن غانم العلي، وزير الثقافة والرياضة، أن متحف قطر الوطني يعكس وجها من وجوه التميز الثقافي والحضاري للدولة.وأشار إلى أن المتحف مرآة صادقة لهوية المجتمع ابتداء بشكله التصميمي البديع الذي يرتبط بالبيئة القطرية، حيث إن وردة الصحراء رمز لهذه البيئة المعطاءة، ومرورا بما يحمله منذ حقب من آثار تخلّد إبداع الأجداد وتحفظ تراثهم وتوحي لجميع الأجيال بقيم العلم والعمل والإسهام في بناء المجتمع.. مضيفا بالقول ” تتفتح وردة الصحراء في دوحة المعرفة والوجدان لترسم خصوصية العمارة القطرية وتعزّز انتماءنا إلى الوطن ودعمنا لهويتنا الحضارية”.

أما مديرة المتحف الشيخة آمنة بنت عبد العزيز بن جاسم آل ثاني فأوضحت أن المتحف يقدم رحلة متكاملة لزائريه تبدأ من الزمن السحيق وتتنقل عبر العصور من خلال حياة البر ورحلات الغوص حتى الوصول إلى قطر في العصر الحديث.

فيما قال الرئيس التنفيذي بالوكالة لمتاحف قطر أحمد النملة أن المتحف الوطني الجديد يمثل مصدر فخر للبلاد، وجسرا يربط بين ماضي دولة قطر وحاضرها المتنوع، مضيفا أن المتحف يلقي الضوء على نجاح قطر السريع في مواكبة عصر الحداثة.

وردة الرمال.. الإلهام والأصالة

واستلهم المصمم العالمي الفرنسي جان نوفيل شكل المتحف الوطني من وردة الصحراء (أو وردة الرمال) التي تنتشر في منطقة الخليج، وهي عبارة عن بلورات رملية تكوّن تشكيلات زخرفية وفنية بديعة على شكل الزهور تحت الرمال بسبب التفاعلات بين المعادن وبخار المياه الجوفية.

ويصف نوفيل تصميمه للمتحف بأنه تصور متطور للغاية وفكرة خيالية جرى تنفيذها على أرض الواقع والتغلب على التحديات التي ظهرت أمام عملية التنفيذ، لافتا إلى أن متحف قطر الوطني ليس بناية ذات أسقف عالية بها بعض المقتنيات، ولكنه يشبه قطر في تجسيده لقمة التطور التكنولوجي مع التعبير عن التراث التاريخي لهذه المنطقة من العالم.

ويقول نوفيل “إن لقطر علاقة ضاربة في عمق التاريخ مع الصحراء بنباتاتها وحيواناتها وبدوها وعاداتها. ولهذا بحثت عن معنى رمزي يعبر عن هذه العلاقة بجميع خيوطها المتناقضة، إلى أن تذكرت ظاهرة وردة الصحراء بأشكالها البلورية التي تشبه التفاصيل المعمارية الصغيرة.. تلك الوردة التي تخرج من الأرض وتتشكل بفعل اجتماع الرياح مع الماء المالح والرمال. ومن هذه الوردة، استلهمت فكرة تصميم المتحف، بأقراصه المنحنية وتقاطعاته وزواياه الناتئة، ليكون معبرا عن معنى الشمول على المستوى العام، ويقدم في الوقت نفسه تجارب معمارية ومكانية وحسية على المستوى الفردي”.

ويصف المصمم المعماري الفرنسي الشهير متحف قطر بأنه أشبه” بالفوضى المنظمة ” وقال إنه “معلما أيقونيا فيه بعض الجنون من الناحية الفنية مع مبنى بطول 350 مترا يضم 539 أسطوانة حادة وعشوائية.

وصمم نوفيل متحفا لقطر يتشكل كالموسيقى، ولكن بإحساس دائم بالتوقعات، حيث تشكل الأجنحة الشبيهة بالأزهار خاتماً يحتضن القصر القديم، فصار كأنه مشبك موجود على قلادة. كما انقضاض السقوف والأرضيات غير المستوية وكل شيء في الداخل والخارج يشبه لون الرمال، وفي كل مرة تنظر إليه تقول: ما هذه المساحات الغريبة؟ أنت لا تعرف ماذا سيحدث.

10 سنوات لإنجاز التحفة

كما قال منصور بن إبراهيم آل محمود، المستشار الخاص لسعادة الشيخة المياسة بنت حمد آل ثاني رئيس مجلس أمناء متاحف قطر، أن المتحف الذي تجاوزت مدة العمل عليه أكثر من عقد من الزمان، يمثل مصدر فخر شديد لبلادنا، باعتباره جسرا يربط بين ماضي قطر وحاضرها المتنوع، وذاكرة للشعب القطري تنبض بالمشاعر والأحاسيس، ومرآة تعكس ماضينا بأحداثه التاريخية، وتُبرز أثر هذا الماضي في صياغة هويتنا.وأشار آل محمود إلى أن هذا المتحف يروي حكاياتنا مع البحر والصحراء، ويلقي الضوء على نجاحنا السريع في مواكبة عصر الحداثة والتحول إلى مركز للابتكار والتبادل المعرفي مع دول العالم.

وقال سيف الكواري مدير العمليات في متحف قطر الوطني إن افتتاح المتحف هو عبارة عن تتويج لجهد ما يقارب من 10 سنوات تم خلالها تجهيز المتحف والإعداد النهائي للمبنى والذي شكل تحدياً من أول تصميمه إلى طريقة التنفيذ . وأشار إلى أن التصميم مستوحى من زهرة الصحراء وهو من صلب البيئة القطرية، موضحا أن طريقة العرض داخل المتحف ستنقسم إلى 3 أجزاء رئيسية وهي: البدايات الجيولوجية منذ ملايين السنين وبدايات الحضارة والقسم الأخير بعنوان “قطر اليوم”.

بدوره قال فيصل عبدالله النعيمي مدير إدارة الآثار إن حدث افتتاح متحف قطر الوطني مهم بالنسبة للقطريين والمقيمين، حيث يحكي التكوين الجيولوجي لشبه جزيرة قطر مرورا بالتاريخ الطبيعي وما قبل التاريخ إلى عصرنا الحديث.وأضاف ” نفتخر بهذه المنارة الثقافية والمعلَم الذي يعلم الزائر بتاريخ هذا الشعب، حيث إن سنوات التنقيب والبحث في التاريخ والموروث الشعبي، جاء الوقت لعرضه للجمهور”..مؤكدا أن كل ما هو معروض في المتحف هو قطري سواء تعلق بالموروث والتاريخ والرواية الشفاهية، وأن كل ما به مجهود قطري جبار.

60 رائدا من أعلام الفن والمعمار والثقافة

احتفالا بتدشين المتحف كانت مؤسسة “متاحف قطر” قد أطلقت برنامج “قطر تبدع”، الذي تضمن العديد من الجلسات النقاشية وورش العمل والجولات التي ألقت الضوء على تنوع وازدهار المشهد الثقافي والفني في قطر، بمشاركة مجموعة من أبرز الأسماء الدولية في مجالات الفنون والثقافة.

فعلى مدار خمسة أيام، شارك أكثر من 60 رائدا من أعلام الفن والثقافة وجهات النظر والأفكار مع مختلف فئات الجمهور في متحف قطر الوطني، ومكتبة قطر الوطنية، ومتحف الفن الإسلامي، والحي الثقافي كتارا، وأماكن أخرى. وكان من بين المشاركين مصورون ومهندسون معماريون وفنانون ونقاد ومعلقون ومصممون وصانعو أفلام وغيرهم.

ويمثل هذا الحشد أكبر تجمع للمواهب الفنية التي شهدتها دولة قطر على الإطلاق، علاوة على أن هذه الفعالية تتيح فرصة فريدة للفنانين الشباب والمبدعين الموهوبين للاستفادة من بعض الرموز الثقافية الأكثر أهمية وتأثيرا في العالم. فقد وفر البرنامج منصة للحوار وتبادل الأفكار وبناء جسور التفاهم بين دولة قطر وعدد من أبرز المؤسسات الفنية والثقافية في العالم.

تصميم حائز على جوائز عالمية

فاز متحف قطر الوطني، قبل افتتاحه، بجائزة أفضل إطلالة من الأسطح ضمن جوائز مجلة “ولل بيبر” للتصميم لعام 2019 بفضل تصميمه الفريد، الذي استوحاه المهندس المعماري جان نوفيل من إعجابه الشديد بوردة الصحراء ذات الشكل البلوري التي تنمو في صحاري قطر الرملية. كما أدرجته قناة “سي إن إن” ضمن قائمتها لأكثر 10 مباني مُرتقبة حول العالم في 2019

كما حصل متحف قطر على جائزة ABB Leaf لتصميم وهندسة الواجهات الدولية للعام 2017، وذلك في حفل توزيع جوائز (أي بي بي) في منتدى المهندسين المعماريين الأوروبيين الذي أقيم في لندن.

ولا غرابة في ذلك فهذا الصرح التراثي القطري الحديث والعملاق، يجسد رسالة هيئة متاحف قطر الرامية إلى الارتقاء بالمكون المعرفي والثقافي لدى أفراد المجتمع وبناء ثقافة أصيلة تقوم على الإبداع والابتكار في دولة قطر من خلال احتفائها بالماضي واستشرافها المستقبل.

ويعد متحف قطر المتحف الرئيسي للدولة، وسيكون بفضل تصميمه الفريد المستوحى من وردة الصحراء إحدى الواجهات السياحية المميزة في قطر والمنطقة ، حيث سيقوم بدور مهم في تعزيز الانتماء الوطني، من خلال ما سيضمه من شواهد وآثار ترصد حياة الأسلاف وتوثق التطور الذي شهدته دولة قطر حتى أضحت ما هي عليه الآن، إذ سيضم المتحف أكبر عدد من المقتنيات والقطع التي تروي قصة وتاريخ قطر بدءا من الماضي مرورا بالحاضر ثم المستقبل

يقع المتحف الجديد على مساحة تبلغ حوالي 40 ألف متر مربع ، ويضم صالات عرض ضخمة، حيث ستجمع المعارض بين القطع والمقتنيات التاريخية والتأثيرات المعاصرة لبدء حوار حول أثر التغيير السريع في المجتمعات، كما ستثير تقنيات العرض المبتكرة انتباه الجماهير، إذ ستتحول جدران المتحف بكاملها إلى شاشات سينمائية وستعمل أجهزة نقالة على توجيه الزوار. فضلا عن أنه يحتوي على قاعة تتسع لـ 220 شخصا، بالإضافة إلى مركز أبحاث ومختبرات، ومتجرين ومقهيين ومطعم، علاوة على توفير منتدى طعام مخصص لبرامج الثقافة الغذائية وللحفاظ على تقاليد الطهي، وحديقة مليئة بالنباتات الأصليّة، بهدف استقطاب أكبر عدد من المهتمين بالحركة الثقافية والفنية.