روى البخاري ومسلم عن ابن عباس، قال: خرج علينا النبي – – يوما فقال: ” عرضت علي الأمم، فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط – دون العشرة – والنبي ليس معه أحد، ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب”، فتفرق الناس، ولم يبين لهم، فتذاكر أصحاب النبي – – فقالوا: أما نحن، فولدنا في الشرك، ولكنا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا فبلغ النبي – – فقال:”هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون”، فقام عكاشة بن محصن، فقال: أمنهم أنا يا رسول الله، قال: “نعم”، فقام آخر، فقال: أمنهم أنا، فقال: “سبقك بها عكاشة” * . إن هول القيامة بين يدي الله في أرض المحشر لعظيم، فالشمس فوق الرؤوس بمقدار ميل، تكاد الرؤوس تنصهر من حرارتها، والناس ينغمسون في عرقهم، كل حسب عمله؛ فمنهم من يكون عرقه إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما، والبشرية كلها من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه الساعة في صعيد واحد، يقفون حفاة عراة غرلا – غير مختونين؛ { كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين } [الأنبياء: 104]. يكاد الزحام وحده يخنق الأنفاس، والأعظم من ذلك هول ورهبة جهنم التي قد أتي بها في أرض المحشر لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، إذا رأت جهنم الخلائق، زفرت وزمجرت؛ غضبا منها لغضب الله – جل وعلا – فعند ذلك تجثو جميع الأمم على الركب؛ ذعرا وفزعا منها؛ قال – تعالى: { وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون } [الجاثية: 28]. في هذه اللحظات الرهيبة ينتظر كل واحد دوره لينادى عليه؛ ليقف بين يدي الجبار للحساب، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ليحاسب المرء على كل عمل عمله، على كل دينار كان يملكه، من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ بل على كل كلمة نطق بها، ولنا وقفة – إن شاء الله – مع مشهد الحساب وأهوال ذلك اليوم العظيم. ولكننا اليوم نقف مع زمرة من الناس تنسل من بين الخلق؛ لتصعد وتأخذ مكانها في الجنة مباشرة، من غير حساب ولا عذاب! فمن هم يا ترى هؤلاء السعداء؟ وهل نستطيع أن نكون منهم يوم القيامة؟ “سبقك بها عكاشة” .. هكذا نجد اهتمام أصحاب النبي – – بهذا الخبر، وهذه المزية العظيمة، وتساؤلهم عن أصحابها: ترى هل هم أصحاب رسول الله – – الذين هاجروا معه، والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم – أعني الأنصار – الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه بنص القرآن الكريم؟ قال بعضهم: لكنا ولدنا في شرك الجاهلية، فربما هم أبناؤنا الذين لم يشركوا بالله شيئا، ونشؤوا وترعرعوا على توحيد الله وطاعته.

خطورة الشرك

لقد عرف الصحابة خطورة الشرك بالله؛ { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة: 72]، { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} [الزمر: 65]، { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } [النساء: 116]. فبلغ النبي – – تساؤلهم هذا، فعاد ووصفهم بقوله: “هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون” .

4 وقفات مع حديث “سبقك بها عكاشة”

1- التطير: والطيرة تشاؤم بالطير، فقد كان أحدهم إذا كان له أمر، فرأى طيرا طار يمنة، استبشر واستمر في أمره، وإن رآه طار يسرة، تشاءم به ورجع، وتطلق على التشاؤم مطلقا، وقد نهى النبي – – عن التشاؤم، وكان يعجبه عكس ذلك، وهو التفاؤل بالخير. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله – – يقول: “لا طيرة، وخيرها الفأل”، قالوا: وما الفأل؟ قال: “الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم”. ولما قال له معاوية بن الحكم: ومنا رجال يتطيرون، قال: “ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم”؛ مسلم. قال العلماء: معناه أن الطيرة شيء تجدونه في نفوسكم ضرورة، ولا عتب عليكم في ذلك، لكن لا تمتنعوا بسببه من التصرف في أموركم. فلا يقولن قائل: لن أعمل مع فلان، أو لن أسافر معه، أو لن أتزوج من فلانة، أو لا أحب لون كذا، أو يوم كذا، فأنا متشائم من ذلك، وهذا كله منهي عنه في حديث: ” الطيرة شرك”؛ رواه أحمد، وأصحاب السنن، وهو في الصحيحة، وفي الحديث: “من ردته الطيرة عن حاجته، فقد أشرك”، [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير]، فقالوا: يا رسول الله، وما كفارة ذلك؟ قال: يقول: “اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك” رواه أحمد. فالأصل أن يعتقد المسلم أن الأمر كله لله؛ قال – تعالى -: ﴿ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ﴾ [الحديد: 22 – 23]. 2- ولا يسترقون: الاسترقاء: طلب الرقية، فلا يطلبون الرقية من الغير اعتمادا كليا على الله – عز وجل – فطلب الرقية من الغير – وإن كان جائزا – فهو مكروه لهذا الحديث، أما الرقية الشرعية للمريض، فقد قال – -: “من استطاع منكم أن ينفع أخاه، فليفعل”))”؛ مسلم. وهذا فيه استحباب رقية المسلم لأخيه المسلم بما لا بأس به من الرقى، وذلك ما كان معناه مفهوما مشروعا، كأن يرقي بالمعوذات والقرآن، أو بالأذكار الثابتة عن النبي – – وأما الرقى بما لا يعقل معناه من الألفاظ أو الطلاسم، فغير جائزة، بل قد تدخل في أبواب الشرك بالله – سبحانه. وقال بعضهم: أراد – – بالاسترقاء الذي كانوا يسترقون به في الجاهلية، وأما الاسترقاء بكتاب الله، فقد فعله – – وأمر به، وليس بمخرج عن التوكل، لكن المنهي عنه أن يعتقد أن الرقية نافعة لا محالة، فيتكل عليها، وإياها أراد بقوله – -: “من اكتوى أو استرقى، فقد برئ من التوكل” [رواه أحمد والترمذي وابن ماجه]؛ وقد أمر – – غير واحد من الصحابة بالرقية، وسمع بجماعة يرقون، فلم ينكر عليهم. 3- ولا يكتوون: الكي: باب من أبواب التداوي والمعالجة، ومعلوم أن طلب العافية بالعلاج والدعاء مباح بما عرف من الأصول، فمن ترك الكي – ثقة بالله وتوكلا عليه – كان أفضل؛ لأن هذه منزلة يقين صحيح، وتلك منزلة رخصة وإباحة. عن ابن عباس أن النبي – – قال: ” الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي”؛ رواه البخاري. وقد صح أن النبي – – كوى سعدا بن معاذ في أكحله مرتين؛ رواه ابن ماجه، ومسلم. وإنما ورد النهي حيث يقدر الرجل على أن يداوي العلة بدواء آخر؛ لأن الكي فيه تعذيب بالنار، ففعل النبي – – للكي يدل على جوازه، وعدم محبته لا يدل على المنع منه، والثناء على تاركيه يدل على أن تركه أفضل، والنهي عنه لمن يعتقد أن الشفاء من الكي، لا من الله الشافي، كما كان عليه اعتقاد أهل الجاهلية. قال ابن حجر: المراد بترك الرقى والكي: الاعتماد على الله في دفع الداء والرضا بقدره، لا القدح في جواز ذلك؛ لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة، وعن السلف الصالح، لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب. فالطب غير قادح في التوكل؛ إذ تطبب النبي – – وتطبب علية الفضلاء، وكل سبب مقطوع به، كالأكل للغذاء والشرب للري لا يقدح في التوكل، وكذلك المظنون، كلبس الدرع للتحصن من العدو غير قادح في التوكل. قال ابن حجر: ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي – – فعلا وأمرا؛ لأنه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل، فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكله؛ لأنه كان كامل التوكل يقينا، فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئا، بخلاف غيره ولو كان كثير التوكل، لكن من ترك الأسباب، وفوض وأخلص في ذلك كان أرفع مقاما. والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعا لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر – – في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وقال الذي سأله: أعقل ناقتي أو أدعها؟ قال: ((اعقلها وتوكل))، فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل، والله أعلم”. 4- التوكل على الله: قال تعالى : {وعلى ربهم يتوكلون } [الأنفال: 2]، والتوكل: تفويض الأمر إلى الله – تعالى – في ترتيب المسببات على الأسباب؛ أي: أن يكون الاعتماد على الله اعتمادا صادقا حقيقيا، مع فعل الأسباب المأذون فيها أو المأمور بها، وكلما جعل المرء اعتماده على الأسباب، نقص توكله على الله. ومن جعل اعتماده على الله – ملغيا الأسباب – فقد طعن في حكمة الله؛ لأن الله جعل لكل شيء سببا، وهو حكيم يربط الأسباب بمسبباتها، كمن يعتمد على الله في حصول الولد، وهو لا يتزوج، والنبي – – أعظم المتوكلين، ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب، فالنبي – – كان يأخذ الزاد في السفر، ولما خرج إلى “أحد”، ظاهر بين درعيه؛ أي: لبس درعين اثنين، ولما خرج مهاجرا، أخذ من يدله على الطريق، وكان – – يتقي الحر والبرد، ولم ينقص ذلك من توكله شيئا. فالضابط في هذه المسالة أن تعرف أن الأخذ بالأسباب واجب وطاعة لله – تعالى – ولكن مع ترك الاعتماد عليها، بل الاعتماد على الله وحده لا شريك له في حصول المقصود بعد الأخذ بالأسباب، وبهذا نتبين تلك القاعدة الجليلة التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي: “الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب – أن تكون أسبابا – نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع.

* عكاشة هنا يقصد به عكاشة بن مِحصَن الأسدي، صحابي بدري من السابقين إلى الإسلام، ومن المهاجرين، وقد كان حليفًا لبني عبد شمس بن عبد مناف.